بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن الله تعالى،جلَّت قدرته،خَلَقَ الناسَ،بعقولٍ وأفكارٍ مختلفة، فكان من الطبيعي أن يختلف الناس في فهم نصوص القرآن الكريم وسُّنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
لقد شرع الإسلام آدابا ًوضوابط عند الاختلاف،يجب على كل مسلمٍ الالتزام بها، لتبقى المودة والألفة بين المسلمين، وحتى لا يحدث مالا تُحمد عُقباه، من التنازع والشقاق.فأقول وبالله تعالى التوفيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
اختلاف الأفهام بين الناس:
قضت مشيئة الله تعالى خَلْق الناس بعقول ومدارك متباينة إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام وتختلف باختلاف قائليها وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فإن اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك العقول آية من آيات الله تعالى كذلك، ودليلٌ من أدلة قدرته البالغة وإن إعمار الكون وازدهار الوجود وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خُلقوا سواسية في كل شيء، وكلٌ مُيسرٌ لما خُلِقَ له.قال الله تعالى: }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ{(هود 118: 119).
إن الاختلاف الذي وقع في سلف هذه الأمة ولا يزال واقعًا جزء من هذه الظاهرة الطبيعية. (أدب الاختلاف لطه فياض ص26).
اختلاف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف بالمعنى المذموم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع الجميع باتفاق ومردهم في كل أمر ومفزعهم في كل شأن، وهاديهم من كل حيرة، فإذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في شيء ردوه إليه عليه الصلاة والسلام فبين لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية، وأما الذين ينزل بهم من الأمور مالا يستطيعون رده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعدهم عن المدينة المنورة، فكان يقع بينهم الاختلاف كاختلاف في تفسير ما يعرفونه من كتاب الله، أو سُّنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه على ما نابهم من أحداث وقد لا يجدون في ذلك نصًا فتختلف اجتهاداتهم. هؤلاء إذا عادوا إلى المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه ما فهموه من النصوص التي بين أيديهم أو ما اجتهدوا فيه من القضايا فإما إن يقرهم على ذلك فيصبح جزءًا من سنته صلى الله عليه وسلم وإما أن يبين لهم وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه صلى الله عليه وسلم، ويأخذون به ويرتفع الخلاف.(أدب الاختلاف لطه فياض ص36).
صور من اختلاف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) روى الشيخانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: "لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.(البخاري حديث: 946/مسلم حديث: 1770).
قال ابنُ تيمية (رحمه الله): الْأَوَّلُونَ تَمَسَّكُوا بِعُمُومِ الْخِطَابِ فَجَعَلُوا صُورَةَ الْفَوَاتِ دَاخِلَةً فِي الْعُمُومِ وَالْآخَرُونَ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الدَّلِيلِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَ هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُبَادَرَةُ إلى الْقَوْمِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا: هَلْ يُخَصُّ الْعُمُومُ بِالْقِيَاسِ؟ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِينَ صَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ كَانُوا أَصْوَبَ. (مجموع فتاوى ابن تيمية ج 20 ص 253).
(2) روى الشيخانِ عَنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَةِ (قبيلةٌ مِن جُهَيْنَة)، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ (أدركناه)، قَالَ:لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ:لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا(مستجيرًا من القتل)، "فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ".(البخاري حديث: 4269/مسلم حديث:96).
قال ابنُ تيمية(رحمه الله): لَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَوَدًا (حد القل عمدًا) وَلَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً لَمَّا قَتَلَ الَّذِي قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ الْحَرِقَاتِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا جَوَازَ قَتْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِصَحِيحِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ حَرَامٌ. وَعَمِلَ بِذَلِكَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا اسْتَبَاحَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ لَمْ يُضْمَنْ بِقَوَدِ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ ؛ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ مُحَرَّمًا. (مجموع فتاوى ابن تيمية ج 20 ص 254).
(3) روى أبو داودَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟" فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: }وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا{(النساء: 29) فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 323).
(4) روى أبو داودَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ وَلَمْ يُعِدْ الْآخر ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: "أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ". (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 327).
سمات الاختلاف في عصر النبوة:
(1) كان الصحابة رضوان الله عليهم يحاولون إلا يختلفوا ما أمكن، فلم يكونوا يكثرون من المسائل والتفريعات، بل يعالجون ما يقع من النوازل في ظلال هَدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعالجة الأمر الواقع عادة لا تتيح فرصة كبيرة للجدل فضلًا عن التنازع والشقاق.
(2) إذا وقع الاختلاف رغم محاولات تحاشيه سارعوا في ردّ الأمر المختلف فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما يرتفع الخلاف.
(3) سرعة خضوعهم والتزامهم بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتسليمهم التام الكامل به.
(4) تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمختلفين في كثير من الأمور التي تحتمل التأويل، ولدى كل منهم شعور بأن ما ذهب إليه أخوه يحتمل الصواب كالذي يراه لنفسه، وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه، والبعد عن التعصب للرأي.
(5) الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين حيث لا يهم أي منهما أن تظهر الحقيقة على لسانه أو على لسان أخيه.
(6) التزامهم بآداب الإسلام من انتقاء أفضل الكلم وتجنب الألفاظ الجارحة بين المختلفين مع حسن استماع كل منهما للآخر،
(7) تنزههم عن المماراة ما أمكن وبذلهم أقصى أنواع الجهد في موضوع البحث مما يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر ويدفع المخالف لقبوله أو محاولة تقديم الرأي الأفضل منه. (أدب الاختلاف لطه فياض ص51:50).
صور من اختلاف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) دفن النبي صلى الله عليه وسلم:
روى الترمذيُّ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ، قَالَ: "مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي المَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ"، ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ. (حديث صحيح)(صحيح سنن الترمذي للألباني حديث:812).
وروى ابنُ ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَلْحَدُ وَآخر يَضْرَحُ، فَقَالُوا نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا وَنَبْعَثُ إِلَيْهِمَا فَأَيُّهُمَا سُبِقَ تَرَكْنَاهُ فَأُرْسِلَ إِلَيْهِمَا فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ فَلَحَدُوا لِلنَّبِيِّ. (حديث صحيح) (صحيح ابن ماجه للألباني حديث: 1264).
(2) خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قَالَت عَائِشَةُ: اجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ (بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) إلى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَسَكَّتَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لَا يُبْلِغَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ فَأَبْلَغَ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ أَبَدًا، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا، وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، قُرَيْشٌ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعَزُّهُمْ أَحْسَابًا فَبَايِعُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ، أَنْتَ خَيْرُنَا وَسَيِّدُنَا وَأَحَبُّنَا إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ. (تاريخ الإسلام للذهبي ج3ص6:5).
(3) قتال مانعي الزكاة:
روى البخاريُّ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَب، فَقالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتّى يَقُولوا لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ، فَمَنْ قالَها فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسابُهُ عَلى اللهِ فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لأُقاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، فَإِنَّ الزَّكاةَ حَقُّ الْمالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُوني عَناقًا كَانوا يُؤَدُّونَها إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقاتَلْتُهُمْ عَلى مَنْعِها. قالَ عُمَر رضي الله عنه: فَواللهِ ما هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ أَبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.(البخاري حديث: 1399/ 1400).
(4) روى البخاريُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ:لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".(البخاري حديث 6922).
(5) روى البخاريُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَقَالَ: بَعْضُهُمْ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ قَالَ وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي }إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا{حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا فَقَالَ لِي يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ} إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ{فَتْحُ مَكَّةَ فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا {قَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ.(البخاري حديث:4294).
حرص الصحابة على آداب الاختلاف:
(1) عليٌّ بن أبي طالب و طلحة بن عُبيد اللَّه: (1) رأى عليٌّ بن أبي طالب، طلحةَ بن عُبيد اللَّه، في وادٍ مُلقى(وهو ميت) فنزل عليٌّ فمسح التراب عن وجهه (وكان بينهما قتال) فقال: عزيزٌ عليَّ يا أبا محمد بأن أراك مجندلًا في الأودية، تحت نجوم السماء، إلى اللَّه أشكو عُجَري وبُجَري(سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي) (سير أعلام النبلاء ج1ص36).
(2) قال أبو حبيبة: مَوْلى طلحة بن عُبيد اللَّه: دخل عِمران بن طلحة على عليٍّ بن أبي طالب بعدما فرغ من أصحاب موقعة الجمل فرحب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله:}وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ{ (الحجر: 47) قال ثم قال لعمران كيف أهلك ومن بقي من أمهات أولاد أبيك؟ أما إنا لم نقبض أرضكم هذه السنين ونحن نريد أن نأخذها إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس يا فلان: اذهب معه إلى ابن قرظة فمره فليدفع إليه أرضه وغلة هذه السنين. يا ابن أخي:إن كانت لكَ حاجة فأتنا.(الطبقات الكبرى لابن سعد ج3ص168). (3) عائشة وعبد الله بن عباس:
اختلفت عائشة وعبد الله بن عباس في عدة مسائل:منها مسألة عدد الرضعات التي تُحرِّم:
(1) كانت عائشة تذهب إلى أن التحريم بالرضاع لا يثبت بأقل من خمس رضعات، بينما ذهب عبد الله بن عباس إلى أن التحريم بالرضاع يثبت بأقل من خمس رضعات.(زاد المعاد لابن القيم ج5ص571:570).
(2) ذهبت عائشة أيضًا إلى رضاع من زاد على سنتين من الولادة، يثبت به التحريم، بينما ذهب ابن عباس إلى أن التحريم بالرضاع لا يثبت إلا في السنتين الأوليين من الولادة.(بداية المجتهد لابن رشد ج2ص67).
وعلى الرغم من هذا الاختلاف كان كل منهما يحترم الآخر ويعترف له بالفضل.
روى البخاريُّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَكَتْ فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ:يَا أم الْمُؤْمِنِينَ تَقْدَمِينَ عَلَى فَرَطِ صِدْقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ.(البخاري حديث:3771).
روى أحمدُ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهُ اسْتَإذن لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَمُوتُ وَعِنْدَهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَإذن عَلَيْكِ، وَهُوَ مِنْ خَيْرِ بَنِيكِ. فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ تَزْكِيَتِهِ. فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ فَقِيهٌ فِي دِينِ اللَّهِ، فَأْذَنِي لَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْكِ وَلْيُوَدِّعْكِ. قَالَتْ: فَإذن لَهُ إِنْ شِئْتَ. فَإذن لَهُ فَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَجَلَسَ، وَقَالَ: أَبْشِرِي يَا أم الْمُؤْمِنِينَ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْكِ كُلُّ أَذًى وَنَصَبٍ وَتَلْقَيْ الْأَحِبَّةَ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ إِلَّا أَنْ تُفَارِقَ رُوحُكِ جَسَدَكِ. فَقَالَتْ: وَأَيْضًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتِ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا،وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا وَهُوَ يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَسَقَطَتْ قِلَادَتُكِ بِالْأَبْوَاءِ فَاحْتَبَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنْزِلِ وَالنَّاسُ مَعَهُ فِي ابْتِغَائِهَا حَتَّى أَصْبَحَ الْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ }فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا{.الآية فَكَانَ فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً فِي سَبَبِكِ فَوَاللَّهِ إِنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ. فَقَالَتْ: دَعْنِي يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ هَذَا فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. (إسناده جيد)(مسند أحمد ج5ص 308حديث 3262).
روى ابنُ سعدٍ عن عائشة أنها نظرت إلى ابن عباس وحوله الناس ليالي الحج وهو يُسألُ عن المناسك، فقالت: هو أعلم مَن بقي بالمناسك.(الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2ص 282).
(3) عبد الله بن عباس و زيد بن ثابت:
كان عبد الله بن عباس يذهب،كأبي بكر الصدّيق وكثير من الصحابة، إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في المواريث كالأب،وكان زيد بن ثابت كعلي وابن مسعود وفريق آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يذهب إلى توريث الإخوة مع الجد ولا يحجبهم به.فأنكر ابن عباس على زيد قوله: الجد لا يحجب الأخوة، فَقَالَ:أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا؟!(المغني لابن قدامة ج9ص68).
أخذ عبدُ الله بن عباس لزيد بن ثابت بركاب الدابة، فقال زيدٌ: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن عباس: هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا.فقال زيدٌ لابن عباس: أرني يدك. فأخرج يده فقبَّلها، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.(مختصر تاريخ دمشق ج9ص121).
قال عبدُ الله بن عباس: زيد بن ثابت، من الراسخين في العِلْمِ.(سير أعلام النبلاء للذهبي ج 2ص 437).
أسباب اختلاف الفقهاء:
إن اختلاف الفقهاء (رحمهم الله) فيما بينهم في الأمور الفقهية يرجع أساسًا إلى اختلاف أفهام الفقهاء في فهم نصوص القرآن والسُّنة واستنباط الأحكام الشرعية منها، وهذا الاختلاف لا يتعارض مع وحدة مصدر التشريع الإسلامي في القرآن والسُّنة، لأن الشريعة الإسلامية، ربانية المنهج وليس هناك تناقض ولا تعارض بين نصوصها. ويمكن أن نوجز أسباب اختلاف الفقهاء في الأمور الفقهية إلى الأسباب التالية:
أولًا اختلاف معاني الألفاظ العربية:
إما بسبب كون اللفظ مجملًا، أو مشتركًا، أو مترددًا بين العموم والخصوص، أو بين الحقيقة والمجاز، أو بين الحقيقة والعرف، أو بسبب إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة. أو بسبب اختلاف الإعراب، أو الاشتراك في الألفاظ إما في اللفظ المفرد: كلفظ القُرْء الذي يطلق على الأطهار وعلى الحيضات، ولفظ الأمر: هل يحمل على الوجوب أو على الندب، ولفظ النهي: هل يحمل على التحريم أو الكراهية؟ (الفقه الإسلامي للدكتور/ وهبة الزحيلي ج 1 ص 7069)
ثانيًا اختلاف المصادر:
هناك أدلة اختلف الفقهاء في مدى الاعتماد عليها، كالاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي والاستصحاب، والذرائع ونحوها من دعوى البراءة أو الإباحة وعدمها.(الفقه الإسلامي للدكتور/ وهبة الزحيلي ج 1 ص 71).
ثالثًا اختلاف القواعد الأصولية أحيانًا:
كقاعدة العام المخصوص ليس بحجة، والمفهوم ليس بحجة، والزيادة على النص القرآني نسخ أم لا، ونحو ذلك.(الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور/ وهبة الزحيلي ج 1 ص 71).
رابعًا الاجتهاد بالقياس:
الاجتهاد بالقياس من أوسع الأسباب اختلافًا، فإن له أصلًا وشروطًا وعلة، وللعلة شروطٌ ومسالك، وفي كل ذلك مجال للاختلاف، والاتفاق بالذات على أصل القياس وما يجري فيه الاجتهاد وما لا يجري أمر يكاد يكون غير متحقق. كما أن تحقيق المناط (وهو التحقق من وجود العلة في الفرع) من أهم أسباب اختلاف الفقهاء.(الفقه الإسلامي للدكتور/وهبة الزحيلي ج 1 ص 71).
خامسًا التعارض والترجيح بين الأدلة:
التعارض والترجيح بين الأدلة باب واسع اختلفت فيه الأنظار وكثر فيه الجدل. وهو يتناول دعوى التأويل والتعليل والجمع والتوفيق والنسخ وعدمه. والتعارض إما بين النصوص أو بين الأقيسة مع بعضها، والتعارض في السُّنة قد يكون في الأقوال أو في الأفعال، أو في الإقرارات، وقد يكون الاختلاف بسبب وصف تصرف الرسول سياسة أو إفتاء، ويزال التعارض بأسباب من أهمها الاحتكام إلى مقاصد الشريعة، وإن اختلفت النظرة إلى ترتيب المقاصد.(الفقه الإسلامي للدكتور/ وهبة الزحيلي ج 1 ص 71).
سادسًا: الاختلاف في قبول رواية الحديث:
يمكن أن نوجز أسباب اختلاف قبول الفقهاء لرواية الحديث في الأسباب التالية:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَلَّا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَ الفقيه. وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمُوجَبِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَهُ وَقَدْ قَالَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِمُوجَبِ ظَاهِرِ آية أَوْ حَدِيثٍ آخر ؛ أَوْ بِمُوجَبِ قِيَاسٍ ؛ أَوْ مُوجَبِ اسْتِصْحَابٍ: فَقَدْ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ تَارَةً وَيُخَالِفُهُ أُخْرَى. وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ ؛ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْأُمَّةِ.
السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغ الفقيه لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: اعْتِقَادُ الفقيه ضَعْفِ الْحَدِيثِ بِاجْتِهَادٍ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
السَّبَبُ الرابِع: اشْتِرَاطُ الفقيه فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًا يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.
السَّبَبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَ الفقيه وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ.
السَّبَبُ السَّادِسُ: عَدَمُ مَعْرِفَة الفقيه بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ.
السَّبَبُ السَّابِع: اعْتِقَادُ الفقيه أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الدَّلَالَةِ وَالثَّانِي عَرَفَ جِهَةَ الدَّلَالَةِ لَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ دَلَالَةً صَحِيحَةً.
السَّبَبُ الثَّامِنُ: اعْتِقَادُ الفقيه أَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ قَدْ عَارَضَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً مِثْلَ مُعَارَضَةِ الْعَامِّ بِخَاصِّ أَوْ الْمُطْلَقِ بِمُقَيَّدِ أَوْ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ إلى أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَاتِ. وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ تَعَارُضَ دَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بَحْرٌ خِضَمٌّ.
السَّبَبُ التَّاسِع: اعْتِقَادُ الفقيه أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ ؛ أَوْ نَسْخِهِ ؛ أَوْ تَأْوِيلِهِ إنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ مِثْلَ آية أَوْ حَدِيثٍ آخر أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ.
السَّبَبُ الْعَاشِر: مُعَارَضَةُ الفقيه للحديث بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ أَوْ جِنْسُهُ مُعَارِضٌ ؛ أَوْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا ؛ كَمُعَارَضَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ القرآن وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ظَاهِرَ القرآن مِنْ الْعُمُومِ وَنَحْوُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى نَصِّ الْحَدِيثِ.(مجموع فتاوى ابن تيمية ج 20 ص 239:ص 250).
الاختلاف الفقهي المشروع :إن الاختلاف في الأمور الفقهية يكون مشروعًا إذا توفر فيه شرطان:
الأول: أن يكون لكل مِن المختلفين دليل من القرآن وسُّنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصح الاحتجاج به.
الثاني: ألا يؤدي الأخذ بالمذهب المخالف إلى أمرٍ باطل أو محال.(أدب الاختلاف لطه فياض العلواني ص 106).
أخي طالب العلم:
اعلم أنه تَجُوزُ صَلَاةُ المأموم خلف إمام يخالفه في المذهب الفقهي المعتبر، و هي صلاة صحيحة كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ تَنَازُعِهِمْ في المسائل الفقهية. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ لَا يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْرَؤُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْهَرُ بِهَا وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْنُتُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ النِّسَاءِ بِشَهْوَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ: مِثْلَ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَصَلَّى أَبُو يُوسُفَ خَلْفَ الرَّشِيدِ وَقَدْ احْتَجَمَ وَأَفْتَاهُ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يُعِدْ. وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. تُصَلِّي خَلْفَهُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ لَا أُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ. (مجموع فتاوى ابن تيمية ج 23ص 373:ص 375).
فاحرص أخي الكريم على احترام أراء الفقهاء المتبوعين المجتهدين من سلفنا الصالح، والدعاء لهم بالخير، والتماس العذر لهم، فيما جانبهم الصواب فيه، واعلم أنهم ما أرادوا إلا الوصول إلى الحق.
صور من أدب الاختلاف بين الفقهاء:
(1) أبو حنيفة ومالك:
قال الشافعي: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم. رأيت رجلًا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.(سير أعلام النبلاء ج6 ص399).
قال الليث بن سعد: لقيت مالكًا بالمدينة فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك؟ قال: عرقت مع أبي حنيفة. إنه لفقيه يا مصري.ثم لقيت أبا حنيفة قلت:ما أحسن قول ذلك الرجل فيك.فقال: والله ما رأيت أسرع منه بجواب صادق وزهد تام.(ترتيب المدارك للقاضي عياض ج1 ص152).
(2) مالك وعبد الله العمري:
كَتَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ العُمَرِيَّ العَابِدَ إلى الإمامِ مَالِكٍ يَحُضُّهُ عَلَى الانْفِرَادِ وَالعَمَلِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ:إِنَّ اللهَ قَسَمَ الأَعْمَالَ كَمَا قَسَمَ الأَرْزَاقَ، فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُفتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخر فُتِحَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُفتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخر فُتِحَ لَهُ فِي الجِهَادِ. فَنَشْرُ العِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ البِرِّ، وَقَدْ رَضِيْتُ بِمَا فُتِحَ لِي فِيْهِ، وَمَا أَظُنُّ مَا أَنَا فِيْهِ بِدُوْنِ مَا أَنْتَ فِيْهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ كِلاَنَا عَلَى خَيْرٍ وَبِرٍّ.(سير أعلام النبلاء للذهبي ج7ص188).
(3) أبو حنيفة والشافعي:
قال الشافعي: الناس في الفقه عيالٌ على أبي حنيفة. (سير أعلام النبلاء للذهبي ج6 ص403).
صلى الشَّافِعِي رَحمَه الله الصُّبْح قَرِيبا من مَقْبرَة أبي حنيفَة رَحمَه الله، فَلم يقنت تأدبا مَعَه، وَقَالَ أَيْضا: رُبمَا انحدرنا إلى مَذْهَب أهل الْعرَاق.(حجة الله البالغة للدهلوي ج1ص270).
(4) الشافعي ومحمد بن الحسن:
قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ:ذَاكَرْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ يَوْمًا فَدَارَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلامٌ وَاخْتِلافٌ حَتَّى جَعَلْتُ أَنْظُرُ إلى أَوْدَاجِهِ تَدُرُّ وَتَنْقَطِعُ أَزْرَارُهُ فَكَانَ فِيمَا قُلْتُ لَهُ يَوْمَئِذٍ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَنَا يَعْنِي، مَالِكًا،كَانَ عَالِمًا بِكِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْتُ: وَعَالِمًا بِاخْتِلافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.(الانتقاء لابن عبد البر ص25).
قَالَ مُصْعَبُ بْن عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُخَالِفُنَا فَيُثْبِتُ خِلافَهُ عَلَيْنَا فَالشَّافِعِيُّ فَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ؟ قَالَ: لِبَيَانِهِ وَتَثَبُّتِهِ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَالاسْتِمَاعِ.(الانتقاء لابن عبد البر ص89).
(5) مالك والشافعي:
قال الشافعي: لَوْلا مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ لَذَهَبَ عِلْمُ الْحِجَازِ.(الانتقاء لابن عبد البر ص21).
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا جَاءَكَ الْحَدِيثُ عَنْ مَالِكٍ فَشُدَّ بِهِ يَديك. (الانتقاء لابن عبد البر ص23).
وقالَ الشافعي: إِذَا ذُكِرَ الْعُلَمَاءُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ وَمَا أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.(الانتقاء لابن عبد البر ص23).
وقال أيضًا: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مُعَلِّمِي وَعَنْهُ أَخَذْتُ الْعِلْمَ.(الانتقاء لابن عبد البر ص23).
(6) الشافعي وأحمد بن حنبل:
(1) قال الإمام الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلًا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل.(سير أعلام النبلاء للذهبي ج 11ص 195).
(2) وقال الإمام الشافعي لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله: إذا صح عندكم الحديث، فأخبرونا حتى نرجع إليه أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيًا كان أو بصريًا أو شاميًا.(سير أعلام النبلاء للذهبي ج 11ص 213).
(3) قال أحمد بن حنبل: ما أحدٌ مَسَّ محبرة ولا قلمًا، إلا وللشافعي في عُنقه مِنَّةٌ.(سير أعلام النبلاء للذهبي ج10ص47).
(4) قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: يا أبة أي رجل كان الشافعي سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بُني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين مِن عِوض. (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج2ص:66).
(5) قال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ستة أدعو لهم في السحر أحدهم الشافعي. (صفة الصفوة لابن الجوزي ج2ص250).
(6) قال أحمد: كان الشافعي إذا تكلم كأن صوته صوت صنج، وجرس من حُسْنِ صوته. (سير أعلام النبلاء للذهبي ج10ص49).
(7) قال أحمد بن حنبل: صاحبُ حديث لا يشبع من كتب الشافعي.(سير أعلام النبلاء للذهبي ج10ص57).
(8) قال محمد بن عبد الله الرازي: سمعت ابن راهويه (شيخ البخاري) يقول كنت مع أحمد بن حنبل بمكة فقال تعال حتى أريك رجلًا لم تر عيناك مثله فأراني الشافعي. (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني ج9ص97).
(9) قال أحمد بن حنبل: كان الشافعي من أفصح الناس.(سير أعلام النبلاء للذهبي ج10ص47).
(10) قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لَقِيَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَقَالَ لِي أَمَا يَسْتَحِي أَبُوكَ مِمَّا يَفْعَلُ فَقُلْتُ وَمَا يَفْعَلُ قَالَ رَأَيْتُهُ مَعَ الشَّافِعِيِّ وَالشَّافِعِيُّ رَاكِبٌ وَهُوَ رَاجِلٌ وَرَأَيْتُهُ قَدْ أَخَذَ بِرِكَابِهِ. فَقُلْتُ ذَلِكَ لأَبِي. فَقَالَ لِي: قُلْ لَهُ إِذَا لَقِيتَهُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَتَفَقَّهَ فَتَعَالَ فَخذ بركابه الآخر.(الانتقاء لابن عبد البر ص75).
خِتَامًَا: أَسْأَلُ اللَّهَ تعالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلاَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًَا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَيَجْعَلهُ سُبْحَانَهُ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِى يَوْمَ القِيَامَة. }يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ{ (الشعراء:89:88) كما أسألهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى أن ينفعَ بهذا العمل طلاب العِلْمِ الكِرَامِ. وَآخر دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد