واركعوا مع الراكعين


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

قال تعالى في سورة البقرة:

}وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ{(43).

{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} أي ائتوا بها مستقيمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وهذا كما أمر الله تعالى به بني إسرائيل أمر به هذه الأمة.

فهو أمر بالتلبس بشعار الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام في قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}[البقرة:41] وأمروا بالصلاة والزكاة لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود إليه وخلع الآلهة، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل وبقول الله أكبر، ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته.

ولأن الزكاة إنفاق المال وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق. ولذلك جاء في المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى}[النساء:142] وقوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5-4] وفي الصحيح أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين.

وفيها دليل لما فعل أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من قتال مانعي الزكاة، وإطلاق اسم المرتدين عليهم؛ لأن الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له: كيف تقاتلهم وقد قالوا لا إله إلا الله، وقد قال رسول الله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها". فقال أبو بكر: *لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال*، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر.

{وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}.

والاستدلال بقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} على أن المراد به تسوية الصفوف فيه نظر، وذلك أن الله أمر موسى وأخاه بإقامة الصلاة فقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87] وتسوية الصفوف من خصائص هذه الأمة، كما روى مسلم في صحيحه عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ، وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى" [مسلم].

وفي رواية: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ، وَأُوتِيتُ هَؤُلَاءِ الْآيات مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ: خَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلِي"[مسلم وأحمد والنسائي].

واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب صلاة الجماعة؛ ولكن في هذا الاستدلال شيء؛ لأنه لا يلزم من المعية المصاحبة في الفعل؛ ولهذا قيل لمريم: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[آل عمران43] والنساء ليس عليهن جماعة؛ إذًا لا نسلم أن هذه الآية تدل على وجوب صلاة الجماعة؛ ولكن -الحمد لله- وجوب صلاة الجماعة ثابتة بأدلة أخرى ظاهرة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.

فمن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"[مسلم].

ونقل غير واحد إجماع الصحابة على ذلك، وحكى الكساني - من الحنفية - العمل عليها جيلا بعد جيل، وأن ذلك أمارة وجوبها.

وينقل في كلام فقهاء الحنفية: أن الجماعة سنة مؤكدة، ومرادهم بذلك الوجوب، قال علاء الدين السمرقندي في «تحفة الفقهاء»: *إن الجماعة واجبة، وقد سماها بعض أصحابنا: سنة مؤكدة، وكلاهما واحد* وبنحوه قال الكساني وغيره.

والشافعي نص على الوجوب في كتابه «الأم» قال: *فلا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر*.

وقال النووي: *وهذا قول اثنين من كبار أصحابنا المتمكنين في الفقه والحديث، وهما: أبو بكر بن خزيمة، وابن المنذر*.

وجماهير أصحاب أحمد على الوجوب، وهو المشهور عنه.

قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ. فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى. وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِى بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ. وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومٌ نِفَاقُهُ. وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِى الصَّفِّ".[رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

وكثير من فقهاء المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية يرون استحباب صلاة الجماعة في المسجد، ومذهبهم –وإن كان لهم سلف فيه- إلا أنه يخالف مذهب أئمتهم وظواهر الأدلة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply