ذلك الكتاب لا ريب فيه


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

}الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{(5).

{الم} تقرأ لا على حسب الكتابة: "أَلَمْ"؛ ولكن على حسب اسم الحرف: "ألِفْ لامْ ميمْ".

وتحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السورة، وفي فواتح سور عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية. ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء.

** والأرجح من تلك الأقوال ثلاثة: وهي كونها تلك الحروف لتبكيت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها.

قال في أضواء البيان: القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف.

قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.

ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها –دائمًا- عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه.

وذكر ذلك بعدها دائمًا دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن، وأنه حق.

قال تعالى في "البقرة": {الم}، واتبع ذلك بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}، وقال في "آل عمران": {الم}، واتبع ذلك بقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، وقال في "الأعراف": {المص}، ثم قال: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وقال في سورة "يونس": {الر}، ثم قال: {تِلْكَ آيات الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}، وقال في سورة "هود" {الر}، ثم قال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، وقال في "يوسف": {الر}، ثم قال: {تِلْكَ آيات الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، وهكذا في أغلب السور؛ إلا بعض السور القليلة لم يذكر فيها القرآن؛ لكن ذُكر ما كان من خصائص القرآن:

فمثلًا قوله تعالى: {كهيعص}[مريم:1] ليس بعدها ذكر للقرآن؛ ولكن جاء في السورة خاصية من خصائص القرآن. وهي ذِكر قصص من كان قبلنا: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2].

كذلك في سورة الروم قال تعالى في أولها: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:1-2]؛ فهذا الموضع أيضًا ليس فيه ذكر للقرآن؛ ولكن في السورة ذكر شيء من خصائص القرآن. وهو الإخبار عن المستقبل: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:2-4].

وكذلك أيضًا قوله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:1-2] ليس فيها ذكر القرآن؛ ولكن فيها شيء من القصص الذي هو أحد خصائص القرآن: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3].

** وهاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور القراء.

وروى عن قراء الكوفة أن بعضها عدوه آيات مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه.

ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرؤونها إذا قرؤوا الآية المتصلة بها، ففي جامع الترمذي في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: *لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ المُؤْمِنِينَ*، فَنَزَلَتْ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:2] إلى قَوْلِهِ {يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ}[الروم:4] قَالَ: «فَفَرِحَ المُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ».

 وفيه أيضا فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ وَلَا إِيمَانٍ بِبَعْثٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هَذِهِ الآيَةَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم:1].

وفي سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام عنه فقرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عتبة بن ربيعة: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ قوله {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[فصلت:13] الحديث.

وعلى هذا الخلاف اختلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة.

{ذَلِكَ} اسم إشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن وجعله بعيد المنزلة لشرفه وعظمته. وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لمّا ذُكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في {آلم} كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}[يونس:38] وقولهم: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنعام:25].

ولا يرد على هذا قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ}[الأنعام:92] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه.

{الْكِتَابُ} اشتقاقه من كتب بمعنى: «جمع وضم» لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه.

{لاَ رَيْبَ} الريب الشك بتهمة، وحقيقة الريب قلق النفس، أو تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام، يقال: رابه الشيء إذا شككه. فهو شك مصحوب بقلق لقوة الداعي الموجب للشك؛ أو لأن النفس لا تطمئن لهذا الشك؛ فهي قلقة منه. بخلاف مطلق الشك.

وريب الدهر: صروفه وخطوبه. وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك، قال الله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}[الطور:30] ويقابل الريب: الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام.

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ"[مسند أحمد] أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.

قال ابن عثيمين: والنفي هنا على بابه؛ فالجملة خبرية؛ هذا هو الراجح؛ وقيل: إنه بمعنى النهي. أي لا ترتابوا فيه؛ والأول أبلغ؛ فإن قال قائل: ما وجه رجحانه؟

فالجواب: أن هذا ينبني على قاعدة هامة في فهم وتفسير القرآن: وهي أنه يجب علينا إجراء القرآن على ظاهره، وأن لا نصرفه عن الظاهر إلا بدليل، مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة:228]، فهذه الآية ظاهرها خبر؛ لكن المراد بها الأمر؛ لأنه قد لا تتربص المطلقة؛ فما دمت تريد تفسير القرآن الكريم فيجب عليك أن تجريه على ظاهره إلا ما دلّ الدليل على خلافه؛ وذلك لأن المفسر للقرآن شاهد على الله بأنه أراد به كذا وكذا؛ وأنت لو فسّرت كلام بشر على خلاف ظاهره لَلامَكَ هذا المتكلم، وقال: *لماذا تحمل كلامي على خلاف ظاهره! ليس لك إلا الظاهر*؛ مع أنك لو فسرت كلام هذا الرجل على خلاف ظاهره لكان أهون لومًا مما لو فسرت كلام الله؛ لأن المتكلم -غير الله- ربما يخفى عليه المعنى، أو يعييه التعبير، أو يعبر بشيء ظاهره خلاف ما يريده، فتفسره أنت على ما تظن أنه يريده؛ أما كلام الله عزّ وجلّ فهو صادر عن علم، وبأبلغ كلام، وأفصحه؛ ولا يمكن أن يخفى على الله عزّ وجلّ ما يتضمنه كلامه؛ فيجب عليك أن تفسره بظاهره.

والذي أوجب أن يفسروا النفي بمعنى النهي قالوا: لأنه قد حصل فيه ريب من الكفار والمنافقين؛ قال تعالى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة:45]؛ فلا يستقيم النفي حينئذ؛ وتكون هذه القرينة الواقعية من ارتياب بعض الناس في القرآن قرينةً موجبة لصرف الخبر إلى النهي؛ ولكننا نقول: إن الله تعالى يتحدث عن القرآن من حيث هو قرآن. لا باعتبار من يتلى عليهم القرآن؛ والقرآن من حيث هو قرآن لا ريب فيه؛ عندما أقول لك: *هذا الماء عذب* فهذا بحسب وصف الماء بقطع النظر عن كون هذا الماء في مذاق إنسان من الناس ليس عذبًا؛ كون مذاق الماء العذب مرًا عند بعض الناس فهذا لا يؤثر على طبيعة الماء العذب.

فما علينا من هؤلاء إذا كان القرآن عندهم محل ريبة؛ فإن القرآن في حد ذاته ليس محل ريبة؛ والله سبحانه وتعالى يصف القرآن من حيث هو قرآن؛ على أن كثيرًا من الذين ادّعوا الارتياب كاذبون يقولون ذلك جحودًا، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33]؛ فكثير منهم ربما لا يكون عنده ارتياب حقيقي في القرآن؛ ويكون في داخل نفسه يعرف أن هذا ليس بقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستطيع أن يأتي بمثله؛ ولكن مع ذلك يجحدون، وينكرون.

وعلى هذا فالوجه الأول هو الوجه القوي الذي لا انفصام عنه. وهو أن الله تعالى وصف القرآن من حيث هو قرآن بقطع النظر عمن يُتلى عليهم هذا القرآن: أيرتابون، أم لا يرتابون فيه.

{فِيهِ} وقف بعض القراء على قوله تعالى: {لا رَيْبَ}، ووقف بعضهم على قوله تعالى: {فِيهِ}.

{هُدًى} الهدى: هو الإرشاد والبيان، ومعناه: الدلالة الموصلة إلى الحق، والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون.

وجملة {لا رَيْبَ} إن كان الوقف على قوله: {لا رَيْبَ} تعريض بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي أن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة، وأن لا ريب فإنه الكتاب الكامل، وإن كان الوقف على قوله: {فِيهِ} كان تعريضا بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء:82].

{لِّلْمُتَّقِينَ} المتقي: من جعل بينه وبين مقت الله وقاية بحفظ الجوارح من المخالفات، وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات.

والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه، فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين لله تعالى، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا.

والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا وباطنا، أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم.

فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله.. هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4].

وفيه: أن المهتدي بهذا القرآن هم المتقون؛ فكل من كان أتقى لله كان أقوى اهتداءً بالقرآن الكريم؛ لأنه عُلِّق الهدى بوصف؛ والحكم إذا عُلق بوصف كانت قوة الحكم بحسب ذلك الوصف المعلَّق عليه؛ لأن الوصف عبارة عن علة؛ وكلما قويت العلة قوي المعلول.

وصرح في هذه الآية بأن هذا القرآن: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، ويفهم من مفهوم الآية -أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب- أن غير المتقين ليس هذا القرآن هدى لهم، وصرح بهذا المفهوم في آيات آخر كقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً}[فصلت:44] وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82] وقوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125-124] وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} الآيتين [المائدة:68،64].

ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق، لا الهدى العام الذي هو إيضاح الحق.

وبعد أن ذكر الله عزّ وجلّ أن المتقين هم الذين ينتفعون ويهتدون بهذا الكتاب، بيَّن لنا صفات هؤلاء المتقين؛ فذكر في هذه الآية ست صفات:

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} الإيمان: التصديق، ومنه قوله تعالى: {قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[يوسف:17].

{بِالْغَيْبِ} مصدر غاب يغيب إذا توارى، والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحا بأنه واقع أو سيقع، مثل: وجود الله، ووجود الملائكة، والشياطين، وأشراط الساعة، والبعث والروح، وما أستأثر الله بعلمه.

وكان الوصف تعريضا بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[سبأ:7] فجمع هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين، وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر، وسيعقب هذا التعريض بصريح وصفهم في قوله: {ِإنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أم لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6] الآيات، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8].

وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب -أي ما غاب عن الحس- هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم لعلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسمون بالدهريين الذين قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[الجاثية:24] وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجود الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك.

{وَيُقِيمُونَ} وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة، ولذلك أطلق مجازا على النشاط في قولهم قام بالأمر، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم: «قامت السوق، وقامت الحرب».

وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح.

{الصَّلاةَ} من الصلا، وهو عرق غليظ متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عرقان في كل ورك يقال لهما الصلوان، فإذا ركع المصلي أو ساجد ينثني صلواه ويتحرك، فسمي بذلك مُصليًا، ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل.

وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى «دعا»، وقال: *والقول إنها من الدعاء أحسن*. وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئات مخصوصة.

والمراد بـ {الصلاة} هنا الجنس؛ فتعم الفريضة والنافلة. ويتفرع على ذلك: الترغيب في إقامة الصلاة؛ لأنها من صفات المتقين؛ وإقامتها أن يأتي بها مستقيمة على الوجه المطلوب في خشوعها وقيامها وقعودها وركوعها وسجودها، وغير ذلك.

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} الرزق: العطاء، وهو ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته.

وفيه أن صدقة الغاصب باطلة؛ لقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}؛ لأن الغاصب لا يملك المال الذي تصدق به، فلا تقبل صدقته.

{يُنفِقُونَ} يقال: نفق الشيء أي نفذ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب. أي: مما أعطيناهم من المال يخرجون.

والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس. وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه.

وفيه: أن الإنفاق غير الزكاة لا يتقدر بشيء معين؛ لإطلاق الآية، سواء قلنا: إن "مِن" للتبعيض؛ أو للبيان. ويتفرع على هذا جواز إنفاق جميع المال في طرق الخير، كما فعل أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين تصدق بجميع ماله؛ لكن هذا مشروط بما إذا لم يترتب عليه ترك واجب من الإنفاق على الأهل، ونحوهم؛ فإن ترتب عليه ذلك فالواجب مقدم على التطوع.

فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد على الحاجة الضرورية، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا، وذلك في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].

فالظاهر في الجواب -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا. وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة. كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب وترك الفرض لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى"[البخاري] وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم، فلا يجوز له ذلك، والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة، وكان واثقا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال.

وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به. ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالا لأمر الله بذلك.

وهذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى أنه يتلقى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه، وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس، فالإيمان به على علاته دليل قوة الإيمان بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها -أي محسن أدائها- إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية، ولأن الزكاة أداء المال وقد علم شح النفوس قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام.

واجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن.

وتقديم {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} على {يُنْفِقُونَ} لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزة على النفس كقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}[الإنسان:8]، مع رعي فواصل الآيات على حرف النون.

وفي الإتيان بـ «من» التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعا هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجا، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين. فالواجب منه ما قدرت الشريعة نصابه ومقاديره من الزكاة وإنفاق الأزواج والأبناء، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير.

{والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} أي يؤمنون بجميع الكتب المنزلة؛ وبدأ بالقرآن مع أنه آخرها زمنًا؛ لأنه مهيمن على الكتب السابقة ناسخ لها؛ والمراد بـ {مَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وموسى، وغيرها.

{وَبِالآخِرَةِ} الحياة الآخرة هي التي ليس بعدها شيء، وضدها الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علما بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال.

فمعنى {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت، وما يتبعه مما يكون يوم القيامة من الثواب والعقاب وغيرهما؛ وإنما نص على الإيقان بالآخرة مع دخوله في الإيمان بالغيب لأهميته؛ لأن الإيمان بها يحمل على فعل المأمور، وترك المحظور؛ و "الإيقان" هو الإيمان الذي لا يتطرق إليه شك.

قال أهل العلم: وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه ملاك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين، فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{هُمْ يُوقِنُونَ} اليقين هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال فلا يتطرق إليه أدنى شك، ولا يكون إلا في أمر ذي نظر، فيكون أخص من الإيمان ومن العلم. واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}[التكاثر:6].

فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها، كان الإيمان بها جديرا بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان.

وتقديم المجرور {وَبِالآخِرَةِ} لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة بالنون، وقيل أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن.

وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء.

{أُوْلَـئِكَ} المشار إليهم ما تقدم ممن اتصفوا بالصفات الخمس؛ وأشار إليهم بصيغة البعد لعلوّ مرتبتهم، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعا لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة.

{عَلَى} الإتيان بحرف الاستعلاء {عَلَى} تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيأة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته. وأصله: "أولئك على مطية الهدى".

قال ابن عثيمين: {على} للاستعلاء؛ وتفيد علوهم على هذا الهدى، وسيرهم عليه، كأنهم يسيرون على طريق واضح بيّن؛ فليس عندهم شك؛ تجدهم يُقبلون على الأعمال الصالحة وكأن سراجًا أمامهم يهتدون به: تجدهم مثلًا ينظرون في أسرار شريعة الله وحِكَمها، فيعلمون منها ما يخفى على كثير من الناس؛ وتجدهم أيضًا عندما ينظرون إلى القضاء والقدر كأنما يشاهدون الأمر في مصلحتهم حتى وإن أصيبوا بما يضرهم أو يسوءهم، يرون أن ذلك من مصلحتهم؛ لأن الله قد أنار لهم الطريق؛ فهم على هدًى من ربهم وكأن الهدى مركب ينجون به من الهلاك، أو سفينة ينجون بها من الغرق؛ فهم متمكنون غاية التمكن من الهدى؛ لأنهم عليه.

{هُدًى} الهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: {فَلَنْ يُضِلَّ أعمالهم. سَيَهْدِيهِمْ}[محمد:4-5] ومنه قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات:23] معناه فاسلكوهم إليها.

والهدى هُديان: «هدى دلالة»، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:7]. وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بهدى «التأييد والتوفيق»، فقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص:56] فالهدى على هذا يجيء بمعنى: "خلق الإيمان في القلب"، ومنه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة:5] وقوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[فاطر:8].

{مِّن رَّبِّهِمْ} وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتعظيمه وتشريفه، وسلامة منهجهم.. والربوبية هنا خاصة متضمنة للتربية الخاصة التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.

وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه، مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله، وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه.

وقوله: {أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، كما أن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم.

{وَأُوْلَـئِكَ} ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كِلْتَا الْأَثْرَتَيْنِ جَدِيرَةٌ بالاعتناء والتنويه، فلا تذكر إحداهما تبعا للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهارا بكلتا الجملتين، وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين.

ووجه العطف بالواو دون الفصل أن بين الجملتين توسطا بين «كمالي الاتصال» و «الانقطاع» لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين. وإن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى، وكون كل منهما مقصودا بالوصف كانتا متصلتين، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلا إياهما منزلة المتوسطتين، ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني.

{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفلاح هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب؛ فهي كلمة جامعة لانتفاء جميع الشرور، وحصول جميع الخير.

وضمير الفصل {هم} للتأكيد، والتعريف في المفلحون للجنس، وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال، وهو يفيد الاختصاص الحقيقي، مع الاهتمام بالخبر.

قال في الكشاف: *الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فَهُمْ هُمْ*.

والفلاح: الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة.

قال في الكشاف: *انظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين {أُولَئِكَ} ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا*.

وفيه: أن الفلاح مرتب على الاتصاف بما ذُكر؛ فإن اختلَّت صفة منها نقص من الفلاح بقدر ما اختل من تلك الصفات؛ لأن الصحيح من قول أهل السنة والجماعة، والذي دلّ عليه العقل والنقل، أن الإيمان يزيد وينقص ويتجزأ؛ ولولا ذلك ما كان في الجنات درجات: هناك رتب كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ [البعيد الذاهب الماضي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون] مِنْ الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟. قَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ"، أي ليست خاصة بالأنبياء.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply