بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نشرت جريدة الجزيرة في عددها 12242 الصادر في يوم الأربعاء 7-3- 1427هـ مقالًا للأستاذ إبراهيم بن عبدالرحمن التركي وفقه الله تعالى، بعنوان: (مَن قتل المتنبِّي؟)، ظهر لي فيه بعض ملحوظات أحببتُ بيانَها، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
(1) لزوميات
ذكر الأستاذ إبراهيم التركي -وفقه الله تعالى- في فاتحة مقاله نقلًا عن أبي الحسن الجرجاني في أن الديانة ليست عارًا على الشِّعر، وذكر كلامًا عن الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل في أنّ الشعر ومضمونه غيران وليسا شيئًا واحدًا... إلخ ما ذكره الأستاذ إبراهيم.
مجرَّد النقل وانتقاء الألفاظ أمرٌ ميسورٌ، فقد ينقل آخر ما ينقض ويهدم كلام الأول.. وهكذا.
أستاذ إبراهيم... إنّ سوء ألفاظ الشاعر عقديًّا أو سلوكيًّا لا يمنع الاعتراف له -إذا شهد أهل الصنعة- بقوة شاعريته، وهضم ذلك هو قولٌ مهضومٌ لا عبرة به، كما أنه لا يمنع من الشهادة لبعض الشعراء الأتقياء بضعف شاعريتهم وعدم قربهم من مرتبة النوع الأول، فضلًا عن مساواتهم لهم.
ثمَّ أليس هناك من كتَبَ في لغة العرب وأسرارها؟ بل قد يكون ركنًا من أركان مجمع لغوي لا يجلس على مقاعده إلا أساطين في لغة العرب وأسرارها، وقد يكون ذاك المعني ممن لا يدين بدين الإسلام، ومع هذا يُعتبر كتابُه وكلامه مرجعًا مهمًا في اللغة، والخط العريض في هذا هو قوله صلى الله عليه وسلم: "صدقك وهو كذوب".
فالمسيء قد يحسن، والكاذب قد يصدق، والشاعر الفحل قد يأتي بما يُستقبح، والشاعر الضعيف قد يأتي بما يُستحسن... وهذا أمرٌ معروف بدهًا كما سبق تقريره.
ومن هذا الباب أقول: بعدما صدّر الأستاذ إبراهيم مقالته بنقل عن أبي الحسن الجرجاني -محتجًّا بما قال- ذكر بعض مصنفات الجرجاني ومنزلته عند الشافعية من باب التأييد لمقولته، فلو قال قائل: إليك أيها الأستاذ بعض نقولات عن فحول أئمة الشافعية لهم شهرة وعلو كعب كالجرجاني - بل قد يزيدون- وهم يخالفونه:
الإمام النووي (676هـ) حيث قال: (وقال العلماء كافّةً: هو الشِّعر -مباحٌ ما لم يكن فيه فحشٌ ونحوه، قالوا: وهو كلامٌ حسنُه حسن وقبيحُه قبيح، وهذا هو الصواب) (شرح صحيح مسلم) (15-14).
الإمام الذهبي (748هـ) قال: (الشِّعْر هو من فنون المنشئ، وهو كلام، فحسنُه حسَن وهو قليل، وقبيحُه قبيح وهو الأغلب، وبيت ماله الكذب والإسراف في المدح والهجو والتشبيه والنعوت والحماسة، وأملحُه أكذبُه، فإن كان الشاعرُ بليغًا مُفوَّهًا مِقدامًا على الكذب في لهجته مُصرًّا على الاكتساب بالشِّعر رقيقَ الدِّين فقد قرأ مقتَ الشعراء في سورة الشعراء، ويندُر على الشعراء المجوّدين من يتصوَّن من الهجو، وربما أدّى الأمر بالشاعر إلى التجاوز إلى الكفر، نسأل الله العفو، والشاعر المُحسِن كحسَّان، والمقتصد كابن المبارك، والظالم كالمتنبِّي، والسفيه الفاجر كابن الحجاج، والكافر كذوي الاتِّحاد، فاختر لنفسك أيَّ وادٍ تسلُك) (زغل العلم) (ص47-48).
تاج الدِّين السبكي (771هـ) ساق أبياتًا لعمران بن حطان يمدح فيها ابنَ مُلجِم قاتل عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ثم قال: (... فأخزى الله قائل هذه الأبيات وأبعده وقبَّحه ولعنه، ما أجرأه على الله!). (طبقات الشافعية الكبرى) .(1-288)
وأمَّا نقلك عن الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل حفظه الله تعالى في فاتحة مقالك ففي خاتمة مقالك نقلٌ عن الشيخ نفسه بيَّن فيه أنّ إبداع الشاعر في التعبير الكلامي لا يشفع لتجاوز ما أورده في شعره من قُبح في السلوك الفكري والعملي، وأنّ ذلك موكولٌ إلى المربِّين والمصلحين ونبراسهم الدِّين والأخلاق وعزائم الفكر.
فالشيخ أبو عبدالرحمن حفظه الله تعالى ذكر ما للشاعر وما عليه، فليتك حذوتَ حذوَه.
فالقريحة الشعرية رحِمٌ وَلود، فقد تُنجِب مولودًا مكتمل النموّ الجسماني لكنه مختلّ العقل، وقد تُنجب المخدَّج لكنه الفطن الألمعي، وكما قيل: قد يؤتى المرء ذكاءً دون زكاء، وقد يؤتى زكاءً دون ذكاء، وخيرهما من جمعهما، وشرُّهما من عُدِمهما.
وأما نقلُك كلام زكي مبارَك- ونصُّه: (وماذا تريدون من الشِّعر والأدب أيها الناس؟ أتريدون أن تُعلِنوا الأحكام العُرفية على الكتَّاب والشعراء والفنانين لئلا ينظروا بعيونهم ويفقهوا بقلوبهم، فيكون من آثارهم ما ينقض ما تواضعتُم عليه منذ أجيال) فرأيٌ له، ومن باب التنزُّل على التسليم لقوله فغاية ما فيه الرفض القاطع للاعتراض على الكتّاب والشعراء لمجرَّد أشياء تعارف الناسُ وتواضعوا عليها، ونحن جميعًا معه في عدم الاعتراض على الشاعر في شِعْره والكاتب في كتابته بأيّ أسلوب شاء، شريطة عدم الخروج عن الفضيلة كدعوة إلى رذيلة من خرق ستار الحياء أو تنقّص الآخَرين بسُخرية وهجاء وازدراء وما شاكل ذلك.
ثم ما رأيُك أستاذ إبراهيم في هذه المقولات الآتية؟
-لقد كثُر شعراء مصر وتوفروا على معنى واحد كما تكثُر الأشجار في بقعة واحدة فيأكل بعضُها بعضًا ثم لا تُزهِر ولا تُثمر.
-لقد مات منهم -شعراء الوطنية- من مات واغترب منهم من اغترب، وبقي جماعةٌ يقلّون عند الفزع ويكثرون عند الطمع.
-لو كنّا مستقلّين لكثُر شعراء الحماسة وقلّ شعراء الخلاعة، ولعادت للشعر مواقفُه المشهودة.
-كما أخشى أن يصبح شُعراؤنا وما يحسنون غير الهزل ولا يُجيدون سوى المجون.
-إلا أننا في حاجة إلى شعراء ينظرون بعيونهم ويسمعون بآذانهم ويفقهون، فهل نحن واجدون؟.
ألا ترى أستاذ إبراهيم أنّ في تلك الكلمات إعلانًا للأحكام العُرفية على الشعراء المعنيِّين عند القائل لئلا ينظروا بعيونهم ولئلا يفقهوا بقلوبهم؟ إذا كان ذلك كذلك، فالقائل هو من نقلتَ عنه: الأستاذ زكي مبارك. انظر كتابه (البدائع) (ص190، 192، 194، 196).
وأزيدُك من الشِّعْر بيتًا كما يقال، فأقول: لقد اعترض الأستاذ حسن القاياتي بشدّة على قسوة زكي مبارَك على الشعراء في أقواله السابقة وختم مقاله بقوله: (إنا لنطالب الأستاذ -زكي مبارك- جد المطالبة ونأخذه أخذًا شديدًا بأن يخرج بالمعذرة من تلك البادرة، وذلك أكبر الظنّ بأدبه والعهد به، والسلام). انظر: (البدائع) (ص196- 197).
(2)لا يلزم من عدم العلم نفي الوجود
ذكر الأستاذ إبراهيم ما مفاده: (أنه قبل أحد عشر قرنًا كنا أكثر تسامُحًا مع الإبداع، ولم يولد بيننا من قرؤوا الشعر بعين الوعظ أو بعين المصلحة...) إلخ ما ذكر.
أخي الأستاذ... عجبتُ كثيرًا من قولك هذا، واكتفي بذِكر أمثلة قليلة تهدم تقريرك، وفي كتب الأدب السابقة واللاحقة ما لا يُحصى من ذلك، وبادئ بدء أين أنت من خاتمة سورة الشعراء: }والشعراء يتّبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كلّ وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات...{.
ألا ترى أنّ هذه الآيات الكريمات قد وضعت ميزانًا أدقّ من ميزان الذهب في تمييز جيِّد الشِّعر من رديئه؟ فالآيات قد زكّت شعراء وذمَّت آخَرين، وأعطت كلّ ذي حقّ حقّه، ولا يختلف اثنان ولا يتناطح كبشان في أنّ الذم والمدح في الآية إنما هو للمعاني الشِّعرية لا الألفاظ من حيث الجزالة.
ومن النصوص النبوية في شأن ميزان الشعر:
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الشِّعر كالكلام، فحسنُه حسن، وقبيحُه قبيح".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس جرمًا الشاعر يهجو القبيلة من أسرها".أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) وحسَّنه الحافظ في (الفتح) .(10-539)
وفي لفظ مقارب: «أعظم الناس فريةً رجُلٌ هاجَا رجُلًا فهجَا القبيلة بأسرها».صحّحه ابن حبان كما أشار إلى ذلك الحافظ في (الفتح) .(10-539).
وكان من أسباب إهدار دم كعب بن الأشرف- وكذا قتل الشاعر أبي عزّة الجمحي- خُبث معاني أشعارهما، ولما أنشد حسَّان النبيَّ صلى الله عليه وسلم قصيدة الأعشى في علقمة بن علاثة قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا حسَّان، لا تُنشدني مثل هذا بعد اليوم". أخرجه أبو عوانة في (صحيحه) وابن أبي الدنيا.
ولهذا قال البغدادي في (خزانة الأدب) (3-400 -401) عند كلامه عن هذه القصيدة: (وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن رواية هذه القصيدة، ولهذا لم أذكرها كلّها).
ومع إهدار النبيِّ صلى الله عليه وسلم دم بعض الشعراء فقد كان صلى الله عليه وسلم يستشهد ببيت طرفة:
............................ *** ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد.
ويُكثر من استنشاد شعر أميَّة ممن يحفظه مع أنّ الشاعرين غير مسلمَيْن؛ لما في أشعارهما من المعاني الحميدة، بعد هذا؛ اكتفي بسياق مختصر لبعض نقولات مع ملاحظة زمن القائلين:
- ابن قتيبة (ت276هـ) عن شعر لأبي الحسن الضرير (العكوك): (أسرف في هذا فكفر أو قاربَ الكُفر). (الشعر والشعراء) .(2-866).
- الباقلاني (ت 403هـ) عن شعر لامرئ القيس: (وفيه من الفحش والتفحُّش ما يستنكف الكريم من مثله ويأنف من ذِكره) (إعجاز القرآن) (ص167).
- أبو عبيد البكري (ت487هـ) ساق أبياتًا لأبي نوَّاس ثم قال: (وهذا شِعر دهريّ زنديق) (اللآلئ شرح أمالي القالي) .(1-523)
- ابن بسَّام (ت542هـ) بعد سياقه قصيدةً للمعرِّي: (وهذا القصيد اندرج له من الغلوّ فيه ما لا أثبتُه ولا أرويه، وأبعد الله المنفتل فيما نظم فيه وفصل وقبحه وقبح ما أمل) (الذخيرة) (ق1-م2-ص764).
- ابن المستوفي الإربلي (ت637هـ): (وهذا شِعر رديءٌ لفظًا ومعنى). (تاريخ إربل) (ص393).
لاحظ: نقد الشِّعر لفظًا ومعنى، أليس هذا عين الإنصاف؟
- ابن خلّكان (ت681هـ) ساق ثمانية عشر بيتًا للبارع الدباس ثم قال: (ونقتصر من هذه القصيدة على هذه الأبيات، ففيها سخفٌ لا يليق ذِكرُه وغيره مما لا حاجة له) (وفيات الأعيان) .(2-182)
وساق أيضًا قصيدةً للشريف بن يعلى ثم قال: (ولولا ما أودعها من السخف والفحش لذكرتُها) (وفيات الأعيان) .(2- 183)
- ابن كثير (ت774هـ) عن قصيدة لأُميَّة ابن أبي الصلت يرثي فيها قتلى قريش يوم بدر: (هذا شِعْر المخذول المعكوس المنكوس الذي حمله كثرة جهله وقلّة عقله على أن مدح المشركين وذمَّ المؤمنين). (السيرة) لابن كثير (2-538).
- العصامي (ت1111هـ) بعد سياقه قصيدة لشاعر يمدح شريفًا: (قد أبان هذا الشاعر عن فضاخة اللسان لا عن فصاحته! وضيق البيان لا عن فساحته) (سمط النجوم العوالي) .(4-338)
- ومن المتأخِّرين في هذا القرن: سماحة الشيخ ابن باز. (مجموع مقالات وفتاوى متنوِّعة) .(9-142-143)
- الأستاذان الأديبان علي الطنطاوي. (ذكريات علي الطنطاوي) (6-252)، ومحمد بن سعد بن حسين. (الشعر الصوفي إلى مطلع القرن التاسع للهجرة) و(الأدب الحديث تاريخ ودراسات) .(1- 162)
وأكتفي بهذه النقول، والأثر يدلّ على المسير.
أستاذ إبراهيم... انتقيتُ لك ثلّةً ممن نقدوا الشعر وأغلظوا في النكارة على الشاعر مع اختلاف قرونهم لتعلم -بورك فيك- بطلان وشذوذ ما ذكرته في مقالك، ورحم الله تعالى من قال -وأظنّه الإمام ابن حزم-: بطلان بعض الأقوال يُغني عن إبطالها، ونكارتُها تُغني عن إنكارها.
(3)التصنيف لا يلغي الإبداع
أستاذ إبراهيم سدّدك الله تعالى... تصنيف الشِّعْر والشعراء ليس بدعًا من القول، ولا يلزم منه إلغاء الإبداع، فهناك تصنيفٌ من حيث السَّبك اللفظي وتفاوت الشعراء في قوة اللفظ وسلامته من الخلل اللغوي... إلى غير ذلك مما هو معروف عند أهل الشأن، وهذا مردُّه إلى حكّام الشعر ونقّاده، وسوق عكاظ -أظنها- أوَّل نواةٍ لشجرة النقد تعاهدَ سقيَها حكّام الشعر ونقّاده، كالنابغة ومن معه فأحكموا أمرها ووضعوا قواعدها، فكان من ثمارها: (الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء)، للمرزباني.
(صناعة الشعر)، لقدامة بن جعفر.
(صناعة الشعر)، لأبي زيد البلخي.
(قواعد الشعر)، للمبرّد.
(قواعد الشعر)، لثعلب.
(ذم الخطأ في الشعر)، لابن فارس اللغوي.
(البديع)، لابن المعتزّ.
(كتاب الصناعتين)، لأبي هلال العسكري.
(الفصاحة)، لابن سنان الخفاجي... إلى غير ذلك.
لكن الشأن هنا -أخي الأستاذ إبراهيم- في تصنيف الشعر والشعراء من حيث المعنى والمضمون.
ولو أنك تصفّحت -وأحسب أنك كذلك- بعض تلك الكتب لوجدت قسوة على بعض الشعراء الذين لم يُحسِنوا سبك أبياتهم حسب قواعد الشعر، فكيف يثرّب على من نقد المضمون ولم يهضم قوة الشعر؟! والمتصفح لدواوين وكتب الأدب عمومًا يرى أنّ نقد الشاعر وذمّه أمرٌ مألوفٌ -ولو كان شِعرُه في الذروة- إذا تضمَّن شِعرُه ما لا يليق بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال؛ من تمرُّد على فضيلة أو حثٍّ على رذيلة أو ارتفاع بنفسه في سبيل احتقار غيره، بل كان عاقبةَ شِعْرِهم ذاك نكالًا عليهم، فجرّ عليهم قتلًا أو تعذيبًا أو سبًّا أو دعاءً، فانظر كيف أنّ قبيح الشعر يجرُّ على صاحبه النقد القولي -من ذمّ ونحوه- والنقد العملي -من قتل وتعذيب ونحوهما- ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
(4)لزوم ما لا يلزم
ذكر الأستاذ في مقالته: أنه بقياس مذهب التصنيف سيلغى الشِّعر كلّه من لدن امرئ القيس إلى مظفر النواب... هذه النتيجة التي توصَّل إليها الأستاذ مبنية على مقدمته في فهمه ونظره، مع أنه لو تأمَّل في نقولاته لوجد أنه تسرَّع في تلك النتيجة التي توصَّل إليها.
أيها الأستاذ... دواوين الأدب وشُرَّاح الدواوين نقدوا الشِّعر لفظًا ومعنى، وبقدْر إسفاف الشاعر في المعنى يثرَّب عليه ويُشنع، ومع ذلك النقد والتشنيع لم يُهمّش الشعراء أو الشاعر فضلًا عن إلغاء الشِّعْر وشاعره، ألم تقرأ ثناء فحول أئمة العلم على غير واحدٍ من الشعراء لقوة قريحتهم وبليغ ألفاظهم مع تحذيرهم مما تلوّث به أولئك الشعراء في شعرهم من الخلل العقدي أو السلوكي؟ أليس هذا هو الإنصاف؟ فكيف أدَّى بك نظرُك إلى تلك النتيجة؟ (وإذا قلتم فاعدلوا).
(5)فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
ذكر الأستاذ إبراهيم في مقاله أنّ العكبري أحدُ شرَّاح شعر المتنبي حين مرَّ على أبيات للمتنبِّي فيها هجاء أشار إلى أبيات مماثلة مليئة بالسقوط على مذهب التصنيف كما قال، والشاهد من ذلك: أنه تشبّث بقول العكبري: (وقد أبدع)، ثم قال الكاتب: (وتأمَّلوا معها مفردة (أبدع) وتذكروا أنهم مسلمون يخشون الله ويعبدونه دون أن يلتفتوا عن الإبداع الفنِّي ويحاكموه من الوجهة الأخلاقية).
أخي إبراهيم... أليس الذين نقدوا رديء الشعر وذمُّوه مسلمين يخشون الله ويعبدونه؟ هذا أولًا.
وثانيًا: سأسوق لك بعض عبارات العكبري في أثناء شرحه ل(ديوان المتنبي)، وفيك الخصام وأنت الخصم والحكم: قال المتنبي:
لو كان عِلمُك بالإله مقسّما *** في الناس ما بعث الإله رسولا
قال العكبري: (... وقد أخطأ أبو الطيِّب في هذا الإفراط وتجاوز الحدّ) (شرح الديوان) .(1-244)
قال المتنبي:
أيّ محل أرتقي؟ *** أيّ عظيم أتّقي؟
وكل ما قد خلق ال *** له وما لم يخلق
محتقر في همَّتي *** كشعرة في مفرقي
قال العكبري: (... وكذب في ادِّعائه مرتقى العلوّ، بل محلّه العلوّ في الحُمق!) .(2-341)
ومن عبارات العكبري في نقده لمعاني شعر المتنبِّي: (وهذا من الغلوّ والإفراط والجهل) .(2-19)(وهذا مبالغة تُدخِل النار، نعوذ بالله من الإفراط وهذا الغلوّ). (3-244).
وثالثًا: إذا كان العكبري من شُرَّاح شعر المتنبِّي واحتججتَ بقوله -على فرضية أنه لم ينقد المتنبِّي-، فالواحدي أيضًا من شُرَّاح شعر المتنبِّي، بل إنّ العكبري ينقل عنه، وعندما جاء قول المتنبي في مدح بدر بن عمار:
يا بدر إنك والحديث شجون *** من لم يكن لمقاله تكوينُ
لعظمتَ حتى لو تكونُ أمانةً *** ما كان مؤتمنًا بها جبرينُ
قال الواحدي: (وهذا إفراطٌ وتجاوز حدٍّ يدُلّ على رِقّة دِين وسخافة عقل، بل يدُلّ على زندقة وكُفر) (شرح الواحدي) .(1- 356)
وعندما جاء ذِكر أبيات المتنبِّي السالفة:
أيّ محل أرتقي؟
أيّ عظيم أتّقي؟... إلخ
قال الواحدي: (... لأنه لو أراد للزمه الكفر بهذا القول، وإنما أراد ما لم يخلقه مما سيخلقه بعد، وإن كان قد لزمه الكفر باحتقاره لخلق الله وفيهم الأنبياء والمرسَلون والملائكة المقرَّبون) (شرح الواحدي) .(1-121)
وتجاوُزات المتنبِّي كثيرة مشهورة، وهي عند أهل الشأن معلومة، ولذا أجاد الثعالبي رحمه الله تعالى بقوله: (... ولكن للإسلام حقّه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولًا وفعلًا ونظمًا ونثرًا، ومن استهان بأمره ولم يضع ذِكره وذكر ما يتعلق به في مواضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى وتعرَّض لمقته في وقته، وكثيرًا ما قرع المتنبِّي هذا الباب). (يتيمة الدهر) .(1-210).
(6)عناية الإسلام بالشعر
الشعر كلام لكنه مختلف في سبكه ونظمه، ومع هذا كلّه يكون داخلًا في ضمن النصوص الشرعية المهذِّبة لجارحة اللسان.
}ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيد{، }وإنّ عليكم لحافظين كرامًا كاتبين.{
وعليه؛ فالشعر نوعٌ من الكلام الذي فيه ما يمدح وما يقدح.
قال صلى الله عليه وسلم: "الشِّعْرُ كالكلام، فحَسَنُه حَسَن، وقبيحُه قبيح".
ومن جميل كلام أبي بكر رضي الله تعالى عنه: (وهل الشِّعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي؟ فحسنُه حسَن، وقبيحُه قبيح) (تفسير القرطبي) .(3- 148)
ولقد عُني الإسلام بالشعر ورفع شأنه وجعله من أبواب تحصل الأجر لمن وظّفه في أبواب الخير، وأكتفي بكلام سديد للطوفي ذكر فيه ستّة وجوه في فضل الشِّعْر:
الوجه الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ من الشِّعْر لَحِكمة".
الوجه الثاني: أنّ الشِّعر مأمورٌ بأخذِه شرعًا.
الوجه الثالث: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "سمعَ الشِّعر وأجاز عليه".
الوجه الرابع: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نصبَ منبرًا لحسَّان، وأمره بإنشاد الشِّعر عليه، هجاءً للكفار، وفي هذا شيئان: عنايتُه صلى الله عليه وسلم بالشِّعر، وإنزالُه منزلةَ الخُطبة الشرعية في المسجد، ودُعاؤه للشاعر بالتأييد على الشِّعر بروح القدُس، وروحُ القدس لا يؤيِّدُ إلا على خير.
الوجه الخامس: اتّخاذ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةً من الشعراء يُنافحون عنه بالشعر: حسَّان، وابنَ رَواحة، وكعب بنَ مالك رضي الله تعالى عنهم.
الوجه السادس: أنّ الشِّعْر قد اعتنى به أشراف الناس الذين لا يُطعَن في شرفهم، وما اعتنى به هؤلاء فهو فاضلٌ.
(7)مَن قتل المتنبي؟
أستاذ إبراهيم... لعلّي أجيبُك عن سؤالك هذا، لكن لتعلم أنه مع كلّ تجاوزات المتنبِّي - ما ذُكِر وما لم يُذكَر- تبقى لأبي الطيِّب مكانتُه العلية في نظم الشِّعر الذي بلغ مبلغًا عظيمًا في الفصاحة والبلاغة، سواء كان مدحًا أو رثاءً أو هجاءً أو تشبيهًا مدحًا أو قدحًا.
وهذا ما جعل ابن رشيق القيرواني يقول عن المتنبي بأنه (مالئ الدنيا وشاغل الناس)، تلك المقولة التي سارت بها الركبان، وأضحت متلازمة مع المتنبِّي كالظلّ مع الشاخص.
تُرى لو سَلِمَ شِعر المتنبِّي مما شانه من المدح المفرط والغلوّ المتجاوز والذمّ المقذع وصُنِّف مع الشعراء الذين سلم شعرُهم من الخلل العقدي والسلوكي، ماذا سيقال عن أبي الطيب؟! ألا يبقى له إبداعُه وتزيد منزلتُه علوًّا؟ بلى وربِّي ولكن لله تعالى في خلقه شؤون? }إنّ ربَّك حكيم عليم.{
أمّا مَن قتل المتنبِّي؟ فالخلاف مشهور في ذلك عند أهل الأدب، لكن ألا ترى -ولعله من أقوى الأسباب إن لم يكن أقواها- أنّ مبالغته في مدح نفسه ومبالغته في ذمّ غيره كانت سبب ذلك؟
ومرَّة أخرى أجيبُك عن سؤالك بعبارة أدبية فأقول: رفعهُ شِعرُه ودفنه شِعرُه، وإن شئتُ قُلتُ: (شعر المتنبِّي في كفّتي ميزان؛ الأولى فوق السحاب والأخرى تحت التراب).
ففي الأولى بلاغةُ شعره وجزالته وإبداعُه، وفي الأخرى جُرأتُه وغروره بنفسه واحتقاره لغيره.
(8)عيار الأدب والشعر عندنا وعندهم
- (... وعيار الشعر أن يُورد على الفهم الثاقب، فما قَبِلَه واصطفاه فهو وافٍ، وما مجَّه ونفاه فهو ناقص... والفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحقّ والجائز المعروف المألوف ويتشوَّف إليه ويتجلّى له، ويستوحش من الكلام الجائر والخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر ويفرّ منه ويصدأ له...) محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي (عيار الشعر) (ص20).
-(علينا أن نتذكّر ما تعلمناه من (هوراس) وهو أننا لا يمكن أن نمتع أكبر عددٍ من الناس إلا إذا جعلنا عملنا الفنِّي منطويًا على هدف أخلاقيّ...). الناقد الفرنسي كورني (في الأدب المقارن) (ص67).
)-فالفنان مطالَب بأن يجعل الفضيلة محبَّبة، والرَّذيلة منكرة، ومُطالَب أيضًا بأن يناهض انحلال الأخلاق ولهو الطائشين وانغماسهم في الملذّات، وذلك بتصوير فضائل الحياة الأسريّة الوطيدة وعرضها على أنها هي الأكمل والأفضل(.
من توجيهات المفكِّر الناقد الفرنسي ديدرو، (الالتزام في الشعر العربي)، (ص22-23).
أستاذ إبراهيم... أليس معنى -بل صريح- معنى كلامهما (هوراس وديدرو) تصنيف أدب وأدباء للفضيلة والحث عليه وتشجيع أهله، وفي المقابل التحذير من أن يصنّف الفنان والأديب من أهل الرذيلة؟ أليست هذه هي أمانة الأدب عند جميع أهل الأمصار مع اختلاف الأعصار؟ أليس أدباء الإسلام وشعراؤه الذين هذّب الإسلام قلوبهم وجوارحهم أولى الناس بهذا المسلك؟!
ختامًا؛ أستاذ إبراهيم... الإسلام يحثّ على الإبداع في جميع شؤون الحياة، الإبداع الذي يسعى لبناء المدينة الفاضلة حسًا ومعنى، وأهل الإبداع يتفاوتون فيه، لكن أن يلمَّع شاعرٌ ويلبّس ثوبًا من ألقاب المدح والثناء دون أن يُنبَّه على ما عنده من الخلل العقديّ والسلوكي، فهذا من عدم الإنصاف.
والإنصاف لا ينفي الإبداع، إنما الاكتفاء بذِكر الإبداع وحده يخالف الإنصاف، وبخاصة إذا كان شعر الشاعر كثير الخلل العقديّ والسلوكي.
فالثوب إذا كان متّسخًا فهو بحاجة إلى غسله بالماء والصابون، فهذا إنصاف الثوب، أما الاكتفاء برشّ الثوب بالعِطر وأنّ ذلك يكفي عن غسله فهذا ليس إنصافًا ولا أحسبه يسمَّى إبداعًا.
وفقنا الله تعالى جميعا إلى سداد القول والعمل، ونلتقي أخي إبراهيم على خير إن شاء الله تعالى، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد