بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اطلعت على مشاركات كثيرة فيها شيءٌ من التجاذب في عدة مجموعات في وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية أحداث غزة- عافاها الله من كل مكروه، وأتم لها النصر والعزة - فرأيت أن أَذْكُر عدة وقفات؛ أُذَكِّر بها إخواني طلاب العلم والدعاة، والمحبين لدعوة أهل السنة والجماعة عمومًا، وهذه الوقفات المختصرة إنما هي من باب التذكير لأحِبتنا، وإلا فالظن فيهم أنهم سائرون – ولله الحمدــ على هذا الدرب منذ عشرات السنين، ولا يمنع هذا من التذكير لهم ولغيرهم بين الفينة والأخرى.
وسأقتصر في هذه الوقفات على علاج ما اطَّلَعْتُ عليه من بعض المشاركات في تلك المجموعات.
والوقفات التي سأذَكْرها- إن شاء الله تعالى- تتصل بما دار من مشاركاتٍ لها صلةٌ بعقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة، وإلا فالكلام على ذلك يطول، فأقول بتوفيق الله تعالى:
الوقفة الأولى:
حول منزلة علماء أهل السنة والجماعة عمومًا، والكبار منهم خصوصا، وخلاصتها في الآتي:
1- علماء أهل السنة والجماعة لهم منزلة رفيعة في قلوب أهل السنة عامة، وطلاب العلم والدعاة منهم خاصة.
2- ومع تلك المنزلة العظيمة لعلماء أهل السنة فهم غير معصومين، وبهذه النظرة المعتدلة فلا يَحُوم طالبُ العلم حول تعصيمهم ولا تأثيمهم، أو ذِكْرِهم بما يُفْهَم منه تَنَقُّصُهم، بل يَحْرِص على الاستفادة منهم فيما ظَهَر له أنه حق، والاعتذار لهم فيما ظَهَر له أنه خطأ.
3- مواقف علماء أهل السنة وفتاواهم عند أهل الاعتدال من طلاب العلم تُفْهَم على حُسن الظن بهم، وأنهم إنْ تكلموا؛ فإنّ كلامهم لله تعالي، وإنْ سَكَتوا؛ فإنّ سكوتهم لله تعالى، وليس كلامهم ولا سكوتهم لإرضاء أحد أو لإغاظة أحد.
4- علماء أهل السنة والجماعة رزقهم الله – جل شأنه- الحكمة وفصْل الخطاب، وبُعْدَ الأفق، والمراعاة الدقيقة للمصالح والمفاسد، والعمل بما ترجح من ذلك؛ فلا يجوز لأحد أن يُفَسِّر مواقفهم على أنهم انطلقوا منها بغير هذا القصد، ومَن ظن بهم سوءًا؛ فالعلماء خصماؤه بين يدي الله يوم القيامة، ومن كان العلماء خصماءه؛ كان حِمْلُه ثقيلًا، وَوِزْرُه عظيمًا، وسَيُبْتَلَى - إلا أن يوفقه الله للتوبة، أو يتوب الله عليه- ومن افْتَقَد هذا التوفيق؛ فيُخْشَى عليه من أن يُسَلِّط الله -جل وعلا- عليه من طلابه وإخوانه وغيرهم من يسئ به الظن، ويتهمه بفساد القصد، والجزاء من جنس العمل.
5- سوء الظن بالعلماء، والرغبة في الاستدراك عليهم، وتَتَبُّع زلاتهم: هو الباب الذي ولَجَتْ منه جماعاتُ التكفير والتفجير، فالناصحُ لنفسهِ يَحْذَر من ولوج هذا الباب، حتى يكون قدوةً صالحة في المجتمع على جميع المستويات إن شاء الله تعالى.
6- لا تقوم للدعوة قائمة إذا كان الخلف مُولَعًا بنشر عَثَرات أو زلات مَنْ سلف مِنْ علماء الأمة الأوائل أو المعاصرين؛ لأن الله يسلِّط على من كان كذلك مَن يسْعى في تشويه صورته ومواقفه أيضًا..... وهكذا!
الوقفة الثانية:
التعصب حيثما كان مرفوض عند أهل السنة، سواء كان لعالم، أو مقالة، أو جماعة.... الخ؛ فلا يجوز عقْد الولاء والبراء عندهم على حُبِّ شخص أو بغضه، أو على القول بقول فلان أو قول غيره، أو الانتماء إلى جماعة دون أخرى، أو معاداتها والبراءة منها، فليس في الأمة أحَدٌ معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو الذي يُعْقد الولاء والبراء على قوله والانتصار له فقط، وأي دعوى إلى غير ذك؛ فهي مِن دعوى الجاهلية المقيتة، وأصحابها في اختلافٍ وأمْرٍ مَريج!!
الوقفة الثالثة:
لزوم طالب العلم مراقَبَةَ قلبه، ومعرفةَ قَدْرِ نفسه، وتحقيق ذلك يكون بالآتي:
1- اتهام نَفْسِهِ، فقد خاف الصحابةُ رضي الله عنهم على أنفسهم النفاق وهُمُو هُمُو في عُلُوِّ المكانة والمنزلةــ، فما ظنكم بمن هو دونهم بمفاوز، ولو نصح أحدنا لنفسه؛ لازْدراها، ومن ازْدَرَى نفسَه؛ فإنّ غيره يَعْظُم في نظره، لاسيما العلماء الذين وضَعَ الله لهم القبول في الأرض.
2- لا يفرح أحدنا بكتابٍ أَلَّفه، أو بشهرة وصَل إليها عند الناس؛ فيظن أنه شيء كبيرٌ، ولا يدري ما هو الذي يُقْبَل من عمله، وما هو الذي يُرَدُّ عليه.
الوقفة الرابعة:
حول ما يدور من نقاش بين طلاب العلم والدعاة إلى الله تعالى في المجموعات وغيرها، ويمكن تلخيصه بالنقاط الآتية:
1- النقاش بين طلاب العلم والدعاة إلى الله – جل ثناؤه- ينبغي أن ينطلق أهله من قَصْدِ الحرص على معرفة الحق، والوصول إليه، سواء كان من فلان أو فلان، والحرص على إفادة الأخ أخاه، وليس لبيان ما في كلامه من زلات وعَثَرات.
2- وإذا كان في كلام من كَتَب أو شارك زلاتٌ أو أخطاء – في نظر القارئ- فلْيكن تقويم ما قرأه كالآتي:
• على الخاص بين القارئ المُمَيِّز والكاتب.
• وعند الاضطرار إلى إعلانه في المجموعات العامة؛ فلْيَحْرص على انتقاء الألفاظ التي تُفْتَح لها القلوب، ويُقْبَلُ بها الحق، وتُعالَج بها الأخطاء والعيوب، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
3- يُراقب الإنسان نَفْسَه في كل كلمة يتكلم بها أو يكتبها: ما هو الدافع لها؟ وهل ستكون في ميزان حسناته أم سيئاته؟ وهذه نصيحة عامة لنفسي ولإخواني في كل مكان: أن ننظر فيما يَصْدر منا مِن أقوال وأفعال، ظاهرة وباطنة: كَمْ صَدَر منها انتصارًا لله - جل وعلا - وكَمْ صَدَر منها انتصارًا لأنفسنا -عافانا الله وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا- وإذا كان القَصْد لله – جل ثناؤه- فلا بد أن يكون الإنكار بالقَدْر الذي شَرَعَهُ الله – جل شأنه- دون زيادة أو نقص.
الوقفة الخامسة:
ما يتعلق بالكلام حول حكام المسلمين:
1- الحكام الذين اسْتَتَبَّ لهم الأمر في بلادهم، وأصبحوا ولاة الأمور فيها - وإن كانوا جائرين ظالمين، ما دامو في دائرة الإسلام - لهم على رعيتهم حق السمع والطاعة في المعروف دون المعصية، ولا يجوز الخروج عليهم، أو ذِكْر مثالبهم، أو التهييج والإثارة عليهم في المجالس العامة ونحوها، من وسائل النشر والتواصل، والنقْدُ المُفْضِي إلى مفاسد عظيمة منها: سفكُ الدماء، والاعتداءُ على الحرمات من الأموال والأعراض، وانطلاقُ أيدي الدهماء وتسلُّطهم، وخرابُ الطرق والأسواق، وانفلاتُ زمام الأمن، وزلزلةُ الاستقرار.... الخ، كلُّ هذا بدايةُ الانحراف في الأمة – كما حصل من الخوارج وقَتْل عثمان رضي الله عنه فالواجب علينا: الحذرُ والتحذير من ذلك، والعلاج لذلك يكون بالآتي:
• الإمعان في قراءة ما ورد في هذا الباب من تحقيقات لعلماء السنة سلفًا وخلفًا في كتبهم، وما سَطَّروه فيها من مقالات وتقعيدات لهذا الأصل، منطلقةٍ من فهم السلف الصالح، والتابعين لهم بإحسان.
• البُعْدُ كُلُّ البُعْدِ- في مرحلة البناء والتأسيس لصغار الطلبة وأشباههم عن كل ما كُتِب من الشبهات حول الحاكم والحاكمية من اتجاهات مختلفة، منطلقُها: شبهاتٌ، وعواطفُ جياشةٌ، وعبارات حماسية ثورية، ومواقفُ غير منضبطة، وأحداثٌ جاريةٌ ومتجددةٌ.
•. الاستفادة والاعتبار والاتِّعاظ من تجارب من سلك من الجماعات والأحزاب غير مسلك السلف ومَنْ تَبِعَهُم من كبار العلماء المعاصرين في باب الحاكم والحاكمية - قديما وحديثا -؛ فإنّ هذا الاعتبار بما جَرى طاعة لله- جل وعلا- وفَتْحٌ لباب الخير على الأمة، وإغلاقٌ لباب الشر عليها.
الوقفة السادسة:
حول الخوض في التكفير للأعيان، وذلك في نقاطٍ:
1- الكلام في تكفير الأعيان، والخوض فيه بلا ضابط ولا زمام؛ ليس منهج علماء السنة سَلَفًا وخَلفًا، إنما هذا منهج أهل البدع من الخوارج وأذنابهم من جماعات التكفير في كل عصر ومَصْر.
2- يجب ألا يخوض في هذا الباب إلا من كان مؤهلًا لذلك من أهل العلم، وذلك عند الضرورة أو الاضطرار للخوض في ذلك؛ متقيدًا بقواعد السلف وفهمهم في هذا الباب الخطير، وعند قيام العلماء الكبار بهذا الباب؛ فيكفينا ما قاموا به، -لاسيما إذا كان هذا قولهم أو قول جمهورهم- ولا نعدل بالسلامة والعافية شيئا، لا سيما في هذا الباب الخطير، الذي تَهَيَّبه فحولُ العلماء، وسَكَتَ عنده كبارُ الفقهاء، والأصل أننا لا نَشْغَل أنفسَنا وطلابَنا وإخوانَنا بإطلاق الأحكام – لاسيما بالتكفير والتبديع - على الأعيان: حكامًا ومحكومين.
3- أن نعلم أن الخطأ في التكفير لمسلم أَعْظَمُ عند الله وفي أثره السيئ على المجتمعات من الخطأ في الحكم ببقاء الإسلام لمسلم وقع في أمر مُكَفِّر؛ فالخطأ في العفو أهونُ من الخطأ في العقوبة، والخطأ في العفو يمكن استدراكه، أما الخطأ في العقوبة – ومنها التكفير والتبديع للشخص -؛ فليس كذلك، ولو نظرنا في النصوص الشرعية؛ لوجدنا أن الأدلة قد وَرَدَتْ في التحذير من تكفير المسلم، كما في حديث *من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما...... *ولم يَرِدْ مثلُ ذلك في الحكم بإسلام من ليس كذلك، وعلى ذلك: فأنصح نفسي وإخواني ألا يستسهلوا فتح هذا الباب على أنفسهم وعلى طلابهم وإخوانهم، فما ضَلَّتْ الخوارج وأذنابهم إلا عندما تساهلوا في هذا الباب وخاض فيه الجهلة والمُتهوِّرون، وظنوا أنهم بذلك يُعَظِّمون حدود الله!!.
4- الذي عليه علماء السنة - رحمة الله عليهم - قديمًا وحديثًا: أن الأصل في أحكامهم أن تكون على المقالة لا القائل؛ وقد تكون المقالة كفرًا أو بدعة، فيقولون: هذا كُفر أو بدعة، أما الواقع في ذلك فلا يتعرضون إلى حقيقة الحكم عليه، إلا بعد استيفاء الشروط فيه وانتفاء الموانع عنه، وذلك طالما أن هذا الفعل المخالف قد صدر ممن ينتمي في الأصل إلى دين الإسلام، وأهل السنة والجماعة؛ لأن الكلام في الأعيان يحتاج الي شروط وضوابط، لا يتيسر إقامتها من كل أحد على كل أحد، ومن ثَبَتَ إسلامُهُ بيقين؛ فلا يُنْفَى عنه إلا بيقين، وكذلك من ثَبَتَتْ سُنِّيَتُهُ؛ فلا يُحكَم ببدعيته إلا بيقين، وكذا من ثَبَتَتْ عدالته؛ فلا يُفسَّق إلا بيقين، فلا تكفير ولا تبديع ولا تفسيق مع الاحتمال، وقد قال بعض أهل العلم: لو فعل المسلم فعْلًا يحتمل تكفيره من تسعة وتسعين وجْهًا، وهناك وجْهٌ واحد يشير إلى عدم تكفيره؛ فلا يجوز الإقدام على تكفيره؛ لأنه لا تكفير مع الاحتمال.
5- مَن حَذَّر مِن المقالة المخالفة للحق، التي صدرت من الموافق أو المخالف: فقد قام بما يجب عليه من البيان، وتصفيةِ الشرع مما لَحِق به، وتحذيرِ الناس من الاقتداء بمن وقع في هذا الخطأ فيما أخطأ فيه، والذي يَلْزَمُنا: أن نتكلم فيما نُحْسِنُه، وفيما يجب علينا أن نتكلم فيه، أما الكلام في الأعيان؛ فلا يجب علينا الكلام فيه، فالخوض في ذلك لا يسلم المرء فيه من زلل، والحصيفُ يَنْأَى بنفسه عن مواطن الزلل.
الوقفة السابعة:
حول الحب والبغض للمسلم:
1- المسلم يُحَبُّ ويُبْغَضُ، ويُوصَلُ ويُهْجُر، ويُمْدَحُ ويُذَمُّ بحسب ما فيه من خير وشر، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية، فالمسلم السُّني لا تُسْقِط سيئتُهُ أو بدعَتهُ التي وقع فيها جميعَ حسناته ومواقفه التي نَصَر بها الدين، ولكن يُنْصَحُ بالتي هي أحسن، ويُؤخذ بيده إلى الله -عزوجل- فإن استجاب؛ فالحمد لله، وإلا فيُحَذَّر من مخالفته للحق، مع الحرص على عَوْدَته إلى الحق، وعدم التسُّرع في التخلِّي عنه ومقاطعته.
2- المبتدع المنتمي لغير منهج أهل السنة، وينتمي إلى إحدى الفرق المنحرفة: كالمعتزلة والقدرية والمرجئة... ونحوهم، إذا كانت له مواقف حَسَنةٌ، فلنا معه أحوال:
• نقبلها منه، ولا نُطْلِق مَدْحَه أمام من لا يُحْسِن فَهْم الكلام؛ فيَغْترَّ به.
• الكلام على ذِكْر حسناته يختلف من حال إلى آخر:
1-إذا كنا في مقام الترجمة له؛ فإننا نَذْكر ما له وما عليه مما يُحْتَاج إليه من ذلك، أو يستدعيه المقام.
2- وإذا كنا في مقام التحذير من خطئه؛ فلا نَذْكُر شيئًا مِن حسناته؛ لأن ذلك يُفسد المراد من التحذير من الاقتداء به في الخطأ.
3- وإذا كنا في مقام المقارنة بينه وبين من هو أشد منه بدعةً أو شرًّا؛ فنقتصر على ذِكْر ما يُفَضِّلُه على غيره دون التَعُّرض لبقية أحواله؛ فلا نُطْلق القولَ بذِكْر حسنة المبتدع، ولا القول بعدم ذكرها، بل يُرجَعْ في ذلك إلى هذا التفصيل، وكل هذا مستفاد من طريقة السلف مع مَن وقع في بدعةٍ من أهل السنة، أو مَنْ كان في الأصل من أهل البدع.
الوقفة الثامنة:
المرء إذا قال قولًا يَلْزَم منه الكفر أو البدعة؛ فلا يُحْكم على قائله بذلك، إلا أن يُعْرَض على قائله، ويُوضَّح له لازمُ قوله، وأنه يلزم منه الكفر أو البدعة، فإن أقرَّه، وقال: ألتزم هذا اللازم؛ فيُحكم عليه بما يسْتحق من أهل العلم المؤهَّلين لذلك، وإن أنكر هذا اللازم، وقال: أنا لا أقصُدُ هذا، وتبرأ من لازم قوله؛ فلا يُنسَب إليه لازمُ هذا القول؛ لأن لازم القول ليس بقول، وغايته: أن يكون متناقضًا أو غافلًا عما يَلْزم من قُولِه، والرمْي بالتناقض أو الغفلة أهْوَنُ من الرمْي بالكفر أو البدعة.
الوقفة التاسعة:
دعوة أهل السنة والجماعة قائمة على مراعاة هذين الوصْفين :السنة والجماعة- فهي دعوة اتبِّاع واجتماع، أو كما يُقال: دعوة كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة؛ فلا بد من مراعاة الوصفين في مسيرتنا العلمية والدعوية والتربوية، فبينما ندعو الناس إلى اتباع السنة الصافية في المسائل العلمية والعملية والتربوية ؛ فإننا ندعوهم أيضا إلى لزوم الاجتماع والائتلاف على هذه السنة، فإن تحقق الوصفان؛ فهذا غاية المراد، وإن تَعذَّر أو شقَّ اجتماعهما: أي إن تمسكنا بالسنة الصافية أدى ذلك إلى الافتراق بيننا؛ فلا بد من مراعاة قاعدة تزاحم المصالح والمفاسد، والحكم للأغلب، فإن غَلَبَتْ مصلحةُ الاجتماع والائتلاف؛ تركْنا بعض الحق خشية الافتراق، كما تَركَ – النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قَتْلَ المنافقين، كي لا يقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه، ويُحْجِموا عن دخول الإسلام، وكما تَركَ إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خشية نُفْرة أو رِدَّة من آمن حديثا من قريش، وفي حالات أخرى نقدم مصلحة إحياء السنة وبثِّها في الناس وإن نَفَر البعض، لقلة النافرين، وضعْف تأثيرهم على مسيرة الدعوة.... ونحو ذلك، وتقدير هذا أو ذاك يرجع إلى العلماء أهل العلم والخبرة بالقرائن التي تحُفّ المقام؛ لأن تقدير المصلحة والمفسدة وتزاحمهما يرجع إلى أهل العلم والاختصاص بالمسألة وملابساتها، والظروف العامة والخاصة المحيطة بها، فالموازنةُ عملٌ دقيقٌ، تكتنفه عدة مخاطر؛ ولذا فهو يحتاج لفقيه نَفْسٍ، مُتَمَكِّنٍ من علوم الشرع، مُسْتَبْصِرٍ بواقع الحال، مُدْرِكٍ لمآلات الأفعال وآثارها.
وغالب أحوال الدعوة في زمن كثرة الجهل، وقلة العلم، وانتشار الأهواء: أن الوصفين لا يجتمعان؛ فلا بد من مراعاة قاعدة: "تكميل المصالح أو تحصيلها، وتعطيل المفاسد أو تَقْليلها" وهذا كله يكون بنظرة أهل العلم والخبرة بواقع وحجم كل أمر يُنْظَر فيه.
والخلاصة هنا: أننا دعاة إلى السنة بلا تشنيع، ودعاة إلى الاجتماع بلا تمييع.
الوقفة العاشرة:
أهل السنة هم أعلم الناس بالحق، وأرحم الناس بالخلق، بل هم أرحم بأهل البدع من أصحابهم المبتدعة، وهم أهل الاعتدال والقصْد في الأحكام على الموافق والمخالف، ولا يعاملون من أساء إليهم قولًا أو عملًا بمثل قوله وعمله، ولا يكفِّرون من كفرهم، ولا يبدعون مَن بدعهم؛ لكونه كفَّرهم أو بدّعهم، ولا يردُّون الباطل بباطل، ولكن يَلْزَمون الحق، وبالحق يُزْهق الباطل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.}
الوقفة الحادية عشرة:
قول بعض أهل العلم: *من لم يكفّر الكافر؛ فهو كافر* محمول على من لم يكفِّر من كَفَّره الله –جل وعلا- ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إما بعينه: كفرعون وهامان وأبي لهب وغيرهم، أو كان على دين غير دين الإسلام كاليهود والنصارى والوثنيين، وذلك بَعْد إقامة الحجة وإزالة الشبهة على من خالف في تَكْفيرهم؛ لاحتمال أنه جاهل أو مُلَبَّس عليه، ولا يعرف الأدلة الدالة على كفرهم أفرادًا أو جماعاتٍ، ونحو ذلك.
أما مَنْ اختلف العلماء في كفره )كتارك الصلاة مثلًا( ؛ فلا يدخل تحت هذه المقولة.
وأما إطلاق القول: *مَن لم يُبَدِّعْ المبتدع؛ فهو مبتدع* فلا يصح هذا الإطلاق، وللعلماء ضوابط وشروط لهذه الإطلاقات، ولما استعملها الغلاة في التبديع بجهلٍ وهوى؛ بدَّعوا كلَّ من خالفهم من أهل السنة، وإن كانوا من مشاهير الدعاة، بل ومن كبار العلماء، فالحذر الحذر من هذا التهور والطَّيْش!!
الوقفة الثانية عشرة:
الحكم بغير ما أنزل الله تعالى جريمة كبرى وطغيان عظيم، وقد يكون كفرًا أكبر إذا كان عن استحلالٍ، أو جحودٍ لحكم الله، أو استهزاءٍ بشرع الله، أو اعتقادِ عدم ملاءمته أو صلاحيته لهذا العصر.... أو نحو ذلك، وإذا لم يكن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى مصحوبًا بشيء من هذه الاعتقادات الفاسدة؛ فهو كبيرة من الكبائر، يُخشَى على صاحبها الفتنة في دينه، فنسأل الله لنا وله التوبة الصادقة.
الوقفة الثالثة عشرة:
الاستحلال المكفِّر لا يُعْرَف إلا بالقول الصريح، وليس بمجر الفعل، أو الإصرار أو الاستمرار عليه، فما من مرتكب لمعصية: كالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، الخ إلا وهو من الجهة العملية مستحلٌّ لما يفعل من معصية، لكنه لا يَكفُر بمجرد الاستحلال العملي، أما الاستحلال المكِّفر: فهو أن يقول على الحرام المُجْمَع عليه أنه: حلال، بعد أن يُوضَّح له أنه حرام بالأدلة المحكمة، وأقوال أهل العلم الصريحة بتحريمه: كشرب الخمر، أو الزنى.... الخ، فمهما يصُرِّ الرجل على المعصية؛ فلا يَكْفُر بذلك، ما لم يستحلها، ولا نعرف ذلك إلا بإقراره بلسانه.
الوقفة الرابعة عشرة:
أنصح من لم يكن بصيرًا بدعوة أهل السنة، عالمًا بشبهات المخالفين في أمور الدعوة: أن يَلْزَم في مرحلة التلَقِّي والتأسيس مجالسَ وكُتبَ أهل السنة الصافية، الثابتين على الاعتدال من جميع جوانبه؛ كي لا تختلط عليه المشارب؛ فيضطرب ويتَخبَّط في السير إلى الله –جل وعلا- فإن قَوِيَتْ شوكته، واستبصر بطريق أهل السنة؛ نظر في كتب الجميع –إذا احتاج المقام إلى ذلك- وفي مرحلة التأسيس لا يخوض الطالب في الكلام في فلان أو فلان؛ لكونه لم يبلغ هذه المرتبة، ولكونه لا يَلْزَمُه ذلك، إنما عليه أن يصون نفسه، ويستمر في طلب العلم، الذي يوصله إلى الله –جل قدْره- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.}
الوقفة الخامسة عشرة:
لا بأس بالاستشهاد بكلام المخالف – كيفما كان- إذا كان كلامه حقًا، واحتيج إليه، ولم نجد من كلام أهل الحق الصافي مِثْلَهُ أو نَحْوَهُ، وإذا ترجَّح أن القارئ أو المستمع لذلك سيغترف من صاحب هذا القول – صوابه وخطَأَه- دون تمييز؛ فإما أن يُترك نقْلُ ذلك عنه، أو يُبْهَم اسمه، فيقال: كما قال بعضهم، أو يُذْكر أن القائل أصاب في كذا؛ لكن لا يُقتدى به في كذا، والحق وسط بين طرفيْن ذميمين.
الوقفة السادسة عشرة:
ولا بأس بالتعاون على البر والتقوى مع المخالف – كيفما كان- بشرط أن لا تتضرر دعوة أهل السنة الصافية بهذا التعاون ضررًا أكبر من المصلحة المتحققة من وراء هذا التعاون، وبشرط أن الذي يقرر:هل المصلحة في هذا التعاون أرجح أم المفسدة: هم أهل العلم والخبرة بالأمر من جميع جوانبه.
والأصل: ألا يشتغل بذلك المبتدئون في سلوك طريق الدعوة، إنما هذا للكبار المستبصرين بالحق، والطرق المخالفة له.
الوقفة السابعة عشرة:
لا يجوز ردُّ قول المخالف –وإن كان حقًا- بزعم أن نيته سيئة، وأن قصْده مخالفتنا؛ فإن النيات لا يعلمها إلا الله –جل شأنه- وهذا مَسْلَكُ أهل الباطل: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} والعاقل لا ينظر إلى )من قال(، ولكن ينظر إلى )ما قال(، والحق مقبول من كل أحد، والباطل مردود على كل أحد، مع لزوم الأدب وحُسْن الخلق، وليس كل ما اختلفنا فيه افترقنا بسببه، فالعلماء الصادقون يختلفون ولا يفترقون، ويُفَرَّق في التعامل مع المخالف بين من خالف فيما أجمع عليه أهل السنة، ومن خالف في مسائل اختلف فيها أهل السنة، أو المسائل الاجتهادية، سواء كان ذلك في المسائل العلمية أو العملية.
الوقفة الثامنة عشرة:
لا يَشْتغل بالجرح والتعديل للأفراد والجماعات والجمعيات إلا أهل العلم والحلم والورع، ولا يكون ذلك إلا لحاجة شرعية، مصْلحتها أعظمُ من مفسدة الوقوع في عِرْض المسلم، وتقدير ذلك يكون من أهل العلم والفهم، لا من أهل الأهواء، أو التقليد والجهل والهوى.
الوقفة التاسعة عشرة:
رأيتُ كثيرًا من المشاركين ينزلون بعض المشاركات وفيها مخالفات واضحة لما عليه أهل السنة، وعندما كلمتهم على الخاص؛ قالوا: هذه المشاركة جاءتنا وحوّلناها في المجموعة، ولم نتدبرها، ولا شك أن هذا الحال لا يسْلم من المؤاخذة الشرعية، ولو لم يكن إلا حديث:" كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّث بكل ما سمع" لكفى به زاجرًا، ويُضاف إلى ذلك: أن في هذا فتنة لمن لا يتدبر الأمور، ولا يُحسن فهمها والمراد منها، فلا يكن أحدكم سببًا في ضلال غيره!!
الوقفة العشرون:
وفي النهاية: يلزمنا أن نسلك مسلك الاعتدال – الذي أكرمنا الله جميعا به - من جميع جوانبه، ولا نُغَلِّب جانبًا على جانب إلا إذا اقتضى الشرع ذلك، وسفينة الدعوة يقودها العلماء أهل العلم والحلم والفهم الرائق الصافي، وهم الذين عُرِفت آثارهم ومواقفهم النافعة، بخلاف أهل الهوى والطيْش، أو الازدراء للآخر، فلن تقوم دعوةٌ يَسْعَى خَلَفُها لإسقاط سلفها؛ والجزاء من جنس العمل، والناس رجلان: رجل يَحْمِل الدعوة، ورجل تَحْمِلُه الدعوة، فالأول يرفع الراية في كل محْفل، ويشرح الله تعالى قلوب الناس له، والثاني عبء ثقيل جاثم على صدْر الدعوة، ومواقفه وأحواله تُشوِّه الدعوة، وتُشْمت بها المخالفين الشامتين.
وقد سُئِل عبدالله بن المبارك – رحمه الله – عن أحسن الخصال التي يتحلَّى بها المرء؟ فقال: (عقْلٌ راجح)، قيل له: فإن لم يكن؟ قال: (فصديقٌ ناصح) قيل له: فإن لم يكن؟ قال: (فَصَمْتٌ طويل) قيل: فإن لم يكن؟ قال: (فموتٌ عاجِلٌ).
تنبيه:
أرجو أن ينفع الله – تعالى ذِكْرُه- بهذه الوقفات في ضبط مسيرة طلاب العلم والدعاة؛ حتى تكون مسيرتهم ومشاركاتهم قريبة من الحق الذي عليه علماء الأمة سلفًا وخلفًا.
وأنصح إخواننا المشاركينَ والمشرفينَ بتصفيةِ المجموعات من الكلام في العلماء، وما يشير إلى تنقُّصهم، ومن الكلام في الجماعات الدعوية، السالكين في الجملة منهج أهل السنة، ومن الكلام في حكام المسلمين، وما يؤول إلى التهييج عليهم؛ لأن كل ذلك يخالف المنهج السَّوِيَّ، ويفضي إلى التنازع بين الإخوة، وفساد القلوب والمقاصد، وهذا المقرَّر في هذه الوقفات هو منهجنا الذي هدانا الله – جل وعلا- إليه، ونُعلِّمه طلابنا في مراكز الدعوة ودور الحديث منذ عشرات السنين، ونناظرُ فيه المخالفين، في داخلِ البلاد وخارجها، فشبَّ عليه الصغير، وشاب عليه الكبير، والكل يرى الآثار المباركة -ولله الحمد والمنة- لهذا المنهج في جميع الأقطار والأمصار فلا نريد أي مشاركة تؤول إلى الإخلال بمنهج العلماء الكبار، وأكثر الشبهات التي تُثار في ذلك قد أجبْتُ عليها ضمن سبعين شبهة في كتابي*شفاء الأسقام في صُوَر وحُكم الخروج على الحكام* فليرجع إليه من شاء من إخواننا.
كما أنصح الجميع بإشباع المجموعات بالمسائل العلمية والتربوية واللطائف والدقائق واللفتات المفيدة في كل فنٍ من فنونِ العلوم التي حَفِظَ الله بها دينه.
جعلنا الله –جل ثناؤه- وإياكم جميعا مفاتيح الخير، مغاليق الشر، وعافانا وإياكم مما ابتلى به كثيرًا من عباده من العَجلَة والطيش وضيق الأُفق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد