بر الوالدين بعد وفاتهما


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

السلام عليك يا أبي.. السلام عليك يا من كنت ظهري... السلام عليك يامن كنت سندي بعد الله...

 أكبر المصائب التي قد تتعرض لها في حياتك، أن تفقد أباك، فمع موته يضيع الأمان في الحياة، ولا تعود الحياة أبدا مثلما كانت، فالأب نعمة لن يشعر بقيمتها سوى من فقده!! فلا حب كحب الأب ولا أمان كأمان الأب، فالأمان رب ثم أب!!

يسألونك عن سبب الحزن في عيني والغصة في قلبي!!، والذبول في وجهي، والخفوت في روحي!!، ألم يدركوا بأن فقدان الأب يقتل!! ألم يعرفوا أن موت الاب يشق الروح ويدمي القلب؟!!

أبتاه … عندما أتكلم عنك فأنا اتكلم عن حياة هانئة، عن دوحة هادئة، عن وطن كبير، عن جنة وارفة الظلال، عن حب لا يموت أبدًا!!

أبتاه لو كنت أملك أن أهديك قلبي لنزعته من صدري وقدمته إليك، ولو كنت أملك أن أهديك عمري لسجلت أيامي باسمك، ولكني لا أملك سوى الكلمات من صادق التعبيرات، أحاول تجميعها فلتكن هي هديتي لك..

 أبتاه.. يا من غرست حُب الله في فؤادي، ورسّخت عقيدة التوحيد في أعماقي، وسطرت الأمل والسعادة في صفحات حياتي، يا من كنت لي أُمًا في الحنان، ومعلمًا في الأخلاق، وصديقا في الوفاء، وأخا في النصح والإرشاد..

أبتاه.. نصائحك نور أسير عليه ما حييت، وابتسامتك التي رُسِمت على وجهك يوم أن فارقت الحياة الدنيا ثلجٌ يُطفئ خوفي وألمي ما دمت على ظهر الأرض.

ابتاه.. بحر قلبي الواسع أنت، وموج عقلي الدافئ أنت، وبياض قلبك بدرٌ في سماء نفسي، ومهما وصفتك فلن أستطيع أن أكمل، ليس تهاونًا يا أبتاه، ولكن شيء أعمق من ذلك!!

 أبتاه.. ماذا أفعل بعد رحيلك عن هذه الحياة، يا أبتاه كنت ظهري ومن ألجأ إليه من أذى الناس ووحشية الحياة، كنت الحِمى والأمان، كنت العطف والحنان، كنت السند وكنت كل الإحسان!!

 أبتاه.. حين رحلت، رحل معك كل شيء، الأمن.. الأمان.. الحب.. الحنان، الدفئ... الإحسان..، فلا يمكن وصف مرارة فقدك، كنت العطاء بلا حدود، كنت الغطاء بلا عُري، كنت الشفاء بلا دواء، كنت أعظم الرجال في حياتنا، مهما تعدد الرجال من حولنا، توليت أمرنا من المأكل والملبس صغارا، وتابعتنا شبابا، ودعوت لنا كبارا، كنت تجوع ونأكل، تصحو وننام، تشقي ونرتاح، حتى أنعم الله علينا بما رجوته أنت من ربك.

 أبتاه.. أنت من علمني مَعنى الحياة أنت من أمسكت بيدي على دروبها، أنت من حملتني على كتفك وذهبت بي هنا وهناك! أجدك معي في ضيقي، أجدك حولي في فرحي، أجدك معي في مرضي، أجدك توافقني في رأيي، حتى لو كنت على غير رغبتك، فأنت مُعلمي وحبيبي، تنصحني إذا أخطأت وتأخذ بيدي إذا تعثرت، تسقيني إذا ظمئت، وتمسح على رأسي إذا احسنت..

أبتاه.. أفتقدك مع كل حدث جميل يحدُث، وأفتقدك في كل فرحة تمرّ بي، وافتقدك كلما رأيت فيها حجرتك، وافتقدك في كل لقاء مع اخوتي أو أخواتي، وأفتقدك في كل لحظة من حياتي..

 أبتاه... عندما أشتاق إليك أستمع لقلبي فهو المكان الذي تبقى فيه دائمًا وأبدا!!

أبتاه.. كم كنت نظيف القلب، سموح النفس، كريم الخلق، لا تحمل حقدا لأحد، ولا بغضًا لشيء، ولا كرهًا لمخلوق، بل كنت ودودًا ساميًا مترفعًا عن الصغائر.

أبتاه.. دعوتِ لنا يا أبتاه حتى كبِرنا، ودعوت لنا حتى تزوجنا، ودعوت حتى حججنا، ودعوت لنا حتى بنينا وفرحنا، ثم رحلت عنا يا أبتاه، آه، آه والله لولا أنه قدر الله لكرهت الحياة، ولولا أنه أمر الله لفقدت النجاة، فهذا مصير الأولين والآخرين، ولِمِثْل هذا فليعمل العاملون!

أبتاه.. كل ما أذكرك يا أبي الغالي أشعر بالفخر والعزة، تركت لنا الستر، وبنيت لنا معروفا مع كل من عرفت، ظهر ذلك جليا في مشهدك، ذاك المشهد الذي ودعك الناسُ فيه، فأنت يا أبتاه مع أنك قريب من قلبي وعقلي لكنّ بُعدك عن عيني يؤلمني، وكلما تذكرتك يدمع قلبي قبل عيني!!

أبتاه... أصابتني الحسرة على موتك، وانتابتني الحيرة بعد فقدك، شعرت أني لم أوفيك حقك تمنيت أن تعود إلى هذه الحياة لكي أسد جزء من فضلك علىّ، لكن كيف تعود من الموت؟ والموت طريق ذو اتجاه واحد، ذهاب بلا عودة، فيا أبتاه انا لفراقك لمحزونون، وإنا للقائك مشتاقون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون…

ابتاه.. تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُ له".

 فأخذت عهدا على نفسي ألا يمر يوم إلا ودعوت لك ولوالدتي، ثم أمعنت النظر في الحديث فقرأت "وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُ له" فعلمت أنه لا يدعوا لوالديه إلا صالح، يا لرحمة ربي!! يا لفضل ربي!! حتى بدعاء الولد لوالده يكسبه صفة الصلاح!!، فالفضل لله ثم لهما في حياتهما والفضل لهما حتى بعد موتهما!!

وها هو رسول رب العالمين، الرحمة المهداة والنعمة المسداة صلى الله عليه وسلم، جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي عليّ من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما".

أسأل الله أن يوفقني لتطبيق بنود هذا الحديث الشريف، وأن يلحقني بكما على خير وفي خير..

اللهم إنك تعلم أن عبدك كان صواما قواما، يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، والأيام البِيض من كل شهر، وشهر رمضان من كل عام، وكان يقوم من الليل مع أمي الغالية ما وفقتَهما، فاجعل كل ذلك في ميزان حسناتهما.

اللهم إنك تعلم أنه كان توَّاقا لزيارة بيتك المحرم، فوفقته لزيارته، وأجبته لحجه، فاجعل له مكانًا مع عبادك عباد الرحمن! وأدخله برحمتك في عبادك الصالحين.

اللهم إنك كنت تكرمنا من أجله وتوفقنا لدعواته، فوفقنا لعمل صالح من بعده تكرمنا من أجله، فأنت الموفِّق، وأنت الكريم، وأنت على كل شيء قدير.

أبتاه … ما فقدناك؛ فأنتِ روح تسري فينا، وما نسيناك؛ فأنت غنوة لا زالت تنادينا، وما ودعناك؛ فأنت الغطاء لا زال بعد الله يحمينا!

أبتاه.. إلى أن نلقاك... رحمة الله تغشاك، ولطف الله يرعاك، وجنة الله مأواك …

 اللهم عن كل قطرة عرق نزلت من أبي سعيًا لرزقنا، فارفع بها درجته في الجنة، وحرم عليه حر الآخرة، وأظله بظلك، واشمله برحمتك، واسقه شُرب الهناء، شربة ماء من يد نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم

اللهم ارحم أبي رحمة واسعة واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..

الله أكرم نزله ووسع مدخله وتقبله في الصالحين، اللهم اجعل قبر أبي روضة من رياض الجنة، ووسع له فيه مد بصره، اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.

ولدك المشتاق إليك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply