بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يقول تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}:
{اهدِنَــــا} الهداية: الدلالة والإرشاد بتلطف، ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير، والهداية في اصطلاح الشرع حين تسند إلى الله تعالى هي الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير ويقابلها الضلالة.
{الصِّرَاطَ} الطريق، وأصله بالسين من السرط، وهو اللقم، ومنه سمي الطريق لقمًا، وإبدال سينه صادًا هي الفصحى، وهي لغة قريش، وبها قرأ الجمهور، وبها كتبت في المصحف الإمام، وأهل الحجاز نطقوه بالصاد مبدلة عن السين لقصد التخفيف في الانتقال من السين إلى الراء ثم إلى الطاء، لتطابق الصاد في الإطباق والاستعلاء والتفخيم مع الراء، استثقالا للانتقال من سفل إلى علو.
والصراط في هذه الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه.
{المُستَقِيمَ} الذي لا عوج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيما وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره فلا يضل فيه سالكه ولا يتردد ولا يتحير.
** والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخالطه شبهة باطل فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيات، عن ابن عباس أن الصراط المستقيم: «دين الحق»، ونقل عنه أنه: «ملة الإسلام»، فكلامه يفسر بعضه بعضا، ولا يريد أنهم لقنوا الدعاء بطلب الهداية إلى دين مضى، وإن كانت الأديان الإلهية كلها صرطا مستقيمة بحسب أحوال أممها يدل لذلك قوله تعالى في حكاية غواية الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[لأعراف:16].
وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام فعلمهم الله هذا الدعاء لإظهار منته، وقد هداهم الله بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة ويهديهم بما لحق من القرآن والإرشاد النبوي. وإطلاق الصراط المستقيم على دين الإسلام ورد في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا}[الأنعام:161].
** لقد تهيأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة ثم أتبعوا ذلك بقولهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار العبودية وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى، فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجوا من فضله، أفضوا إلى سؤل حظهم فقالوا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم، فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للناس ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة، أو الموضوع من الخطبة، أو الخلاصة من القصيدة.
** وفيه: لجوء الإنسان إلى الله عزّ وجلّ بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}؛ لأن الصراط المستقيم هو الشريعة التي جاء بها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
** قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: *إنما فُرض على العبد الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرار الصلوات، بل الركعات فرضها ونفلها {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} لأن العبد مضطر دائمًا لهذا الدعاء هو الهداية للصراط المستقيم والثبات عليه حتى الممات*.
** وقال ابن القيم رحمه الله: *على قدر استقامة العبد في الدنيا وثبوت قدمه على الصراط الذي نصبه في هذه الدار )القرآن والسنة( يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم. وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذلك الصراط؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطرف... فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا؛ حذو القذة بالقذة جزاءً وفاقًا: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل:90].
** وفيه: بلاغة القرآن، حيث حذف حرف الجر «إلى» من {اهدِنَــــا}؛ والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: «هداية علم وإرشاد»؛ و «هداية توفيق وعمل»؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عزّ وجلّ قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ}[البقرة:185]؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[فصلت:17]. {فَهَدَيْنَاهُمْ} أي بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا.
** ويقول ابن رجب: "وأما سؤال المؤمن: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} فإن الهداية نوعان:
«هداية مجملة»: وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلة للمؤمن.
«وهداية منفصلة»: وهي هدايته إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلًا ونهارًا، ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كل ركعة من صلاتهم {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} وإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو النبي يقول في دعائه بالليل: "اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"[مسلم] فكيف بغيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد