بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لو سُئل أحد عامة الأمم عشوائيًّا من ركن من أحد أركان الأرض القصية عن الدين غير المتسامح لأشار للإسلام، ولو سئل ربع مثقف في المذاهب الإسلامية من خارج الديانة عن المذهب غير المتسامح لأجاب بأنه مذهب السلف بعد الباطنية والخوارج! بل حتى المتشيعة الدمَويين نراهم يُلَقّبون اليوم بالبروتستانت الإصلاحيين الإسلاميين قياسًا على مارتن لوثر وكالفن وزونجلي وأضرابهم من الثوار على الكنيسة التقليدية بشقيها الصارم الأرثوذكسي والحالم الكاثوليكي، بزعم تسامحهم وتصحيحهم مذهب المسلمين! وهذا الخطل والعبث إنما هو من تأثير (البروباغندا) القديمة والحديثة، وتلاعبها بالحقائق من أجل الدفع بتوحيش الإسلام في نفوس غير المسلمين، حتى وإن وجد من آحاد المسلمين من يصدق عليه ذلك. ويتولى كبر ذلك دوائر فكرية غربية، زاعمة أن التسامح الحقيقي هو التسامح الذي جاء به دهاقنة الفلسفة وأساطين الفكر لديهم بما أسموه *التسامح الفلسفي*. وسأبين لك بطلان تلك الرؤية المتحيزة المتعصبة الجاهلية الظالمة، وما بنته على ساق الغرور والتعاظم غير المستغرب من أهل الإلحاد والخرافة. فألق إليّ سمع عقلك، وأرعني قلبَكَ، رعى الله قلبك.
ابتداءً؛ هناك ثلاثة أوعية لرواسب التفكير في العقل البشري، وهي اليقين والشك والجهل، وليس هناك رابع لها، وعلى ذلك قامت البشرية ببناء حضارتها دينية كانت أو دنيوية، وهذه الثلاثية لا ينفك المرء عنها مهما كان حاله.
فالجهل هو عدم العلم، وهو منقسم لبسيط ومركّب، فالبسيط: هو الاعتراف بعدم العلم بالشيء، أو الغفلة المطلقة عن مجرد طروئه في الذهن، فإن اعتقد الجاهل أنه يعلم وهو في الحقيقة لا يعلم فهذا هو الجهل المركب.
أما اليقين فهو رسوخ العلم واستقراره في جوهر الفؤاد، واليقينيات والقطعيات تختلف بحسب حال صاحبها وطريقة ترسيخ قطعيته العلمية، ونسيم الإحساس بهذا اليقين الجميل يسمى بثلج اليقين وبرد الطمأنينة وسكينة العلم.
أما التأرجح بين العلم والجهل فهو الشك والتردد، فليس كالجاهل الذي لم ينطبع في ذهنه التصور المعين للشيء، بيد أن ليس لديه يقين العلم بالشيء لقصور الدلالة، فهو بين الطرفين، وكل منهما يجذبه بحسب قوة وارد العلم أو ضعفه.
وحتى لا ينحو بنا الحديث في تشعبات طويلة الذيول؛ فسنكتفي بالتركيز حول مبدأ التسامح الفلسفي من جهات الماهية والحقيقة والآثار.
فالتسامح: هو التماس العذر لمن أخطأ، أو عدم الالتفات لخطئه في الأصل، والتغافل عن كل ما من شأنه إثارة التوتر بين الأطراف، أما نسبته للفلسفة فلأن التسامح الخاص بها ليس بالضرورة مطابقًا للتسامح العام المفرد عنها، فأصل تسامحها الفكر لا العاطفة، ودافعها الإغفال لا الاحترام، فلا تفرح بها، فليس هناك مضمون حقيقي بهذه الرؤية الجميلة الحالمة لمعناه اللفظي.
فكما ترى أنه عند طرق الذهن لكلمة التسامح الفلسفي يرد معناه المعتاد بجمالية التغافل والسماح ونحو ذلك، وليس الأمر كذلك. فالتسامح الفلسفي إجمالًا مبني على الشكِّ المطلق في حقائق الأشياء، وعدم امتلاك المرء ادعاء الحق المطلق، وبناء عليه لديهم؛ ينبغي وضع مسافة بين الفكرة ـ أيًّا كانت ـ وبين الإلزام بها، إلا في حدود الضرورات المادية كالأمن والسلم ونحو ذلك.
وهذا المعيار الفلسفي مبني على أنّ الحسّ وأقيسة العقل المبنية عليه هي ميدان الفلسفة في المجمل، أما الغيب فلا يصلح إلا عزاء لمن شاء ممن سحقتهم أحداث الزمان، أو أوْهَنتهم شؤون الحياة، أو أرهقت عقولهم تناقضات ثمرات التأملات وإلحاحُ المُحالات، فرضوا بالتسليم الإيماني المجرد من العقل المنطقي. وكل ذلك بسبب فقد قلوبهم وافتقار أرواحهم لثلج اليقين، وبرد السكينة، ودفء الطمأنينة. هذا مختصر تسامحهم، وهو ـ كما ترى ـ كفر محض بكل الأديان، لأن جوهر عامة الأديان الإيمان بالغيب، والدين الحق الوحيد هو الإسلام، وقد صُدّرت سورة البقرة بذكر أول وصف لأهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب.
والمقصود؛ أن الفلسفة في مجملها مادية جدلية جافة صرفة، ليس فيها طراوة الحياة، ولا ماء العاطفة، ولا نسيم الآمال، ولا رحيق الأحلام، ولا رحمة الإنسان، فهي مادّية صخرية باردة، ولا تعني حقائق الغيب لها شيئًا إلا ما كانت مقدماته حسية مادية، لهذا كانت حياة الفلاسفة هي حياة البؤساء! فالروح تصيح بين جوانح صدورهم حبيسة بأقفال جمود قيود مادِّيتهم، فلا ترفرف في سماء الغيب إلا الحين بعد الحين، على حين غفلة حارس المادة الفظّ القاسي.
ولربما عاش الفيلسوف حياة مزدوجة، فيظهر للناس ملازمته لقيود النظرة المادية بعواهنها، بيد أنه بينه وبين نفسه أو أخصّائه يعيش حياةً أخرى كالمتنفَّس لروحه الحَرَّى ونفسه الثائرة الجوعى، فيلقي إلى هذا الغيب والقَدَر أشلاء روحه الحيرى، وبعثرة نفسه المتقطّعة في أودية التناقضات الصارخة المُلِحَّة، فعقله يُلِحّ بطلب الحقّ المطلق، وفطرته تصيح به إليه، ولكنّ نفسه المتكبرة المترددة المضطربة النّزِقَة المخذولة تأبى هدى الله تعالى: }ومن يضلل الله فماله من هاد{، أبى الله إلا ضَنْك الشقاء على من أعرض عن ذكره.
إذا تقرر هذا؛ فثَمَّ وجود شهودي ووجود غيبي، والفلسفة لا تُسلّم إلا للشهودي، متسامحة تسامح المستكبرين لا المؤمنين مع الوجود الغيبي. وسبب التسامح الفلسفي، كما قدّمت لك، هو الشك المطلق في كل شيء، فيجعلون الشك أصل الانطلاق نحو الحقيقة، لكنهم يبقون طول أعمارهم في دائرته التي لا يستطيعون الخلاص منها، ولا الفكاك من قيود شبكتها، لأنها مبنية أصلًا على البناء الشكوكي المظلم الذي لا يمكنه حمل اليقينيات ولا احتمال القطعيات خلا ما كانت حسية أو مبنية على مقدمات مادية، لذا فالفيلسوف الملتزم بلوازمهم وحدودهم لا يستطيع الوصول لثلج اليقين وبرد الحقيقة وشمس الثبات إلا بعد انسلاخه من هذا المذهب الرديء، وعلى قدر انفكاكه من الكفر بالغيب، وانعتاقه من لوازم المادية المفصولة عن غيب صادقٍ؛ يكون قربه من منطقة راحة نفسه وسعادته واتّساق تكوينه العقلي والمعرفي والجسدي والروحاني، كلٌّ بكلٍّ، وجزءٌ بجزءٍ.
وثَمّ أمثلة شاهدة؛ فرواد الفلاسفة الأُوَل ما قبل المُحاور سقراط وتلميذه الحالم أفلاطون، ثُم التلميذ المشّاء أرسطو، مرورًا عليهم، ثم رواد الفلسفة الغربية الحديثة العقلانيون منهم كديكارت وسبينوزا وأضرابهم، والتجريبيون كجون لوك وهيوم وبيركلي، ووقوفًا عند كانط وهوبز وكبيرهم هيجل؛ تجد أنّ العامل المشترك بينهم – على كثرة تناقضاتهم - هو عدم القطع بحقيقة غيبية.
لذلك فإنهم يعيشون صقيعًا روحيًّا مميتًا، وصمتًا نفسيًّا موحشًا، وأكثرهم في أخرياته يترك الصرامة الفلسفية في رد (الغيب) والماورائيات إلى شيء من الدفء الديني، سواء كان كنسيًّا غربيًّا، أو طقوسيًّا شرقيًّا، فإن لم يكن هذا ولا ذاك؛ سلّموا بالمذهب الربوبي العام، القائم على ما يسمونه الدين الطبيعي لعدم استمداده من الوحي، القائل بأنّ فوق هذا العالم المشهود يوجد رب خالق مدبِّر قدير، أو ما يسمونه بمهندس الكون القدير، ومن أقوال أبي الفلسفة الحديثة ديكارت: *إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخيّر لدرجة لا حدود لها*، والعجيب أن مذهبه الشكوكي لم يقده إلى الإلحاد وإن قاد غيره.
وأكثرهم يقف على هذه الحافة لروحانيته، مكتفيًا بإلقاء حيرته العقلية وعَنَتِهِ النفسي وشقاءه الروحي على جدار ذلك الإيمان الناقص، وإن كان نافعًا بقدْرٍ في تنفيس روحه في الجملة، حتى لا تهلك تحت ضغط الضرورة الفطرية بالإيمان بالرب الواحد المعبود القدير، وإن كان هذا لا ينفعهم عند الله تعالى: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{. وخبر فولتير في كنيسته الخاصة مشهور.
وبالجملة؛ فسبب ما يُسمّى بالتسامح الفلسفي هو هذا، لذا فلا مجال للاتفاق بين قناعتين: إحداهما مبينية على يقين قطعي بوجود عالم غيبي وإله خالق مالك مدبر مستحق للعبادة وحده، فهو يقين يترتب عليه تصور متكامل خاص وعمل محدد ومصير نهائي، وبين قناعة أخرى مبنية على ضد ذلك كله، إما بنفي ما سوى ما يُشاهد بالحواس، أو على الأقل بعدم قطعيته والإبقاء على احتمالية فرضيته دون قطعيته مع التسامح العقلي الفلسفي حياله وحيال معتنقيه، وحالُه كحال من يرى الناس من علوٍّ حشراتٍ بشريّة حقيرة، تقتات على بعضها فلا تستحق الوقوف عند أحداثها، أو كحال مدمن الخمور والمخدرات الذي لا يرى بأسًا بمن خالفه أو وافقه لتبلّد إحساسه بفعل الانتشاء والغيبوبة عن حقائق ما حوله مكتفيًا بما يشاهد أو يسمع دون الالتزام بقواطع العقل ورواسخ الفطرة الدالة على وجود عالم حقيقي كبير جدًّا، غائب عن مشاهدتنا، لكنه حاضر موجود مؤثّر علينا.
وهذا الضرب الثاني بنوعيه وهما الإلحاد أو الشك هو الغالب اليوم على غير المسلمين، مع التنبيه إلى أن من يقولون بالقطع بردّ الغيب فإنّهم لا يُقرُّون ذلك في نفوسهم، ولا تطمئن به عقولهم، كما فضحهم من خلقهم بقوله الأعلى وبيانه الأجلى: }وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوًّا{، وحتى فرعون مدعي الربوبية هتف بعد الفوات: }آمن أن لا إله إلا الذي أمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين{. لذلك تجدهم يصرخون بالإلحاد صُراخًا، ويملأون الأرض ضجيجًا بأنهم يعتقدون بقطعية عدم وجود إله، وبعدم وجود بعث بعد الموت، وبعدم وجود عوالم غيبية من الأساس، محاولةً مستميتة منهم لإلغاء ضغط الضرورة العقلية والفطرية لديهم عنهم.
وهذا الصراخ الباكي والحزن الأليم هو نتيجة طبيعية لمجاراة صراخ الفطرة المدفونة في قعر قلوبهم تحت ركام الكفر والكبر والضلال، وهي الفطرة الخلْقيّة التي تأبى ذلك الهراء، فهو يقابل الصياح بمثله علّه أن يجد شيئًا من السكينة التقابليّة، كما أنه يحاول إقناع نفسه الحيرى بأنه على الحق المطلق، فيظلُّ يردّدها لعل نفسه يومًا ما تقتنع بتلك الكذبة الفاجرة، وأنّى لها، وأنّى له!
فإنكار الغيب ـ وأعظمه الإيمان بالله الرب المعبود ـ هو كالمطّاط الغليظ داخل جوف الفؤاد، فكلّما شدّ في إنكاره صرخت نفسه الفطرية وضرورته العقلية بإقراره، فلا مفرّ ولا مَقَرّ، فأين المفرّ والإله الطالب! وصدق الله ومن أصدق من الله حديثًا: }وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَال يَاليتَ بَينِي وَبَينَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَينِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ{.
من أمثلة ما مضى قول الفيلسوف المعاصر المشهور ول ديورانت في موسوعته *قصة الحضارة* فقد قال وهو في حالٍ من الضيق بجفاف المادية وبرودة الجدل الفلسفي باحثًا عن شيء من السلوان الروحي: *أفضل عقار مُسكّن في الطبيعة جرعة مما هو فوق الطبيعة*، فهو قد هتف بذلك مع أنه لم يرغب عن الفلسفة التي أُشرب حبّها واعتنق دينها. ولقد قال بشكوكية - ولو عمّم لاتّهم بالجنون -: *كثير من الأحكام القطعية لا ثبات لها، لأن الحقيقة حتى في العلم تذبل كالزهرة*. وقال: *وفي عصر الإيمان حين تجعل الصعاب الحياة شاقة لا تحتمل بغير أمل، تميل الفلسفة إلى الدين، وتستخدم العقل في الدفاع عن الإيمان، وتصبح دينًا متنكّرًا*. وقال بنصح ورثاء وشفقة: *النفس الرومانسية تقف عاجزة مكتئبة أمام الموت ما لم تكن متديّنة*. وقال: *قد يحفر التصوف جذوره في أعماق الشك*. قلت: وهذا اعتراف بالعطش الروحاني لدى أجلاف الفلاسفة. وقال بجمال أخّاذ: *والحق إن هناك لحظات تبدو فيها الحياة رائعة الجمال بحيث لا يمكن أن يكفر بالإله غير إنسان جحود*. }يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم{.
وهذه المعاناة الروحية عامة لدى هؤلاء على مر العصور، قال صولون في كآبة تشاؤمية سوداء شديدة: *أسعد الناس هو الذي لم يُولد، ويليه في هذه السعادة من يموت في طفولته*!
وقال أرسلوس: *لا شيء مؤكد، حتى ذلك القول نفسه*. وفي هذا غاية الشك وجحيمه!
وقال إينيوس: *يجب على الإنسان أن يتفلسف دون أن يسرف في فلسفته*. قلت: وذلك لأنها تطبعه بالجدّية دون المسلاة، فالفسلفة برود عقلي وصقيع فكري، بعكس الملهاة التي تعصف بالعقل فتلقيه بعيدًا عن مسرح التدبير، وبالجملة؛ فالمزج بينهما شيء جيد لمن أحسن. فالنفس في حاجة لمزج العقل والمنطق بالعاطفة والمشاعر، فالتفكير المنطقي المتأمل العميق مفيد لكبح طيش العاطفة، كما أنه في حاجة لدفئها من صقيع الأفكار، أما الملهاة فهي ركوب متن المشاعر بلا لجام، والحكمة هي في مزجهما بلطف.
وقال بسكال: *الاستخفاف بالفلسفة ملاك الفيلسوف الأصيل*. قلت: لأنه يبصر مفارقاتها وتناقضاتها وتصدّعات بعض جوانبها عبر منظوره الشامل المستوعب لا القصير القاصر. وقال أيضًا: *الإنسان مفخرة الكون ونفايته*. قلت: فلسفة نيتشة وتقريراته وتفريعاته في الخير والشر إنما هي دوران على هذى المعنى. وقال أيضًا في إحباط: *الفلسفة لا تستطيع على أحسن الفروض إلا أن تكون تبريرًا عقلانيًّا للهزيمة*.
وقال أيضًا: *من الحكمة أن يكون المرء مؤمنًا، ففي خاتمة المطاف لن يفقد المؤمن شيئًا، بينما يفقد غير المؤمن كل شيء إن ثبت خطؤه*. قلت: وهذه الحكمة الباسكالية معدودة من أجود وأسهل الردود على الملاحدة – على خلوّه من أية حجّة برهانيّة – أي: أن المصدق لن يفقد شيئًا إن أخطأ، والمكذب سيفقد كل شيء إن ثبت خطؤه. وقد استخدمها العلامة الألباني رحمه الله تعالى في مناظرته لأحد الملاحدة.
وكتب نيوتن في تواضع للعلم جميل: *لست أعلم كيف أبدو للعالم، ولكني أبدو لنفسي وكأنني صبي يلعب على شاطئ البحر، ألهو بين الحين والحين بالعثور على حصاة أملس أو صدفة أجمل من العادة، بينما ينبسط محيط الحقيقة العظيم مغلق الأسرار أمامي*. }وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا{.
وقال فرانسيس بيكون في بيانِ عجْزِ الفلسفة عن الوصول لحقائق الماورائيات والغيبيات: *التفكير الضيّق يؤدي إلى الإلحاد، والتفكير الواسع يصرفنا عنه*. وهذا الحرف حريُّ أن يذاع لصدقه وصوابه وسهولته ووضوحه، ولارتفاع قامة قائله عند كثير من المشتغلين بصراع الفكر الحديث.
وقد كان ديدرو يسير في الريف يومًا مع جريم، فالتقط سنبلة من القمح، واستغرق في التفكير في سرّ، فسأله جريم: ماذا تفعل؟ فأجاب: استمع. فقال: ولكن من الذي يكلمك؟ فرد عليه: الله!
قلت: وهذ معنى شريف نفيس، ويقصد بذلك أن الله تعالى كلّمه عن طريق قدرته ببسط إبداعه وجمال خلقه وروعة تكوينه عبر هذه المخلوقات. }سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد{. بلى وعِزّةِ ربي الأعلى. وبالمناسبة فقد افتقر ديدرو جدًّا حتى إنه قد باع مكتبته ليزوج ابنته، وقد كان المعمول به عندهم أن المهر (ويسمونه البائنة) إنما هو على المرأة لا الرجل، ولعل هذا من أسباب انفلات القوامة لديهم.
وقال فولتير مؤيدًا نظرية الشك الديكارتي: *عدم التصديق هو الأساس لكل أنواع المعرفة*. قلت: وهذا باطل، وسببه المادية الجافة المتعجرفة، ولو قال: بالتجربة والإثبات والبرهان يكون التصديق الحسي لعالم الشهادة لكان حقّا.
وقال فونتنل بخوف من الحقيقة التي لم يعطها حقها من الإيمان: *إذا كانت يدي مملوءة بالحقائق؛ فينبغي أن أفكر أكثر من مرة قبل أن أفتحها*. قلت: يذكّرني هذا القلق والخشية من المعرفة بالخرافة اليونانية صندوق باندورا ذات الرأس المقطوع المجدّل بالأفاعي، والتي يتحول من ينظر إليها حجرًا! ومنشأ هذا الجهل المخيف هو الحيرة الساخنة في العقل البارد القابض بقسوة على القلب الضعيف.. فتنتهي بكل أسى بالعطش والعطب والموت والفناء.
وقد قالت مدام دي ستيل في سكينة: *الدين سلوى البؤساء، وثروة الفقراء، ومستقبل الأموات*. أمّا بايرون فقد قال في انهيار وهو يصف نفسه مع حظه البائس ببلاغة حزينة باكية: *جذع أصابه التلف على صخرة ملعونة لا تمد الشجرة إلا بالفناء*.
وقال هوراس مؤصّلًا سبب التسامح الفلسفي: *هذه الدنيا ملهاة لمن يفكرون، ومأساة لمن يشعرون*. قلت: لا جَرَمَ، فمن حُرم عزاءَ اليوم الآخر فلا سرور له، فمِنَ الخطوب ما لا يداويه سوى موعود الآخرة.
ولقد قال روسو بتحسّر: *أهٍ، ما أسعد الإنسان الذي يستطيع أن يؤمن!*. قلت: للإيمان واليقين سكينة وطمأنينة وأمن لا يأمل بها أهل الشك والإلحاد.
وقال صموئيل جونسون بشجاعة: *الفلسفة متاهة عقلية، تؤدي إما إلى الشكّ الديني، أو إلى الهراء الميتافيزيقي*.
لذلك قال ديو ذو الفم الذهبي ناعيًا صلف الفلسفة: *نحن وإن كنا لا نعرف حقيقة الله، ندرك بفطرتنا أنه موجود، ونشعر أن الفلسفة بغير الدين شيء مظلم لا يرجى منه خير، وأن الحرية الحقة الوحيدة هي الحكمة*. أي: أن يعرف الإنسان ما هو حق وما هو باطل.
ولا قرار لقلبٍ شاكٍّ وفؤادٍ مستريب، وقد ذكروا أن الرازي مرّ ذات يوم في موكب له مع طلابه بامرأة من عجائز نيسابور، فسألت: من هذا؟ قالوا لها: إنه الإمام الجليل الفخر الرازي؛ الذي وضع ألف دليل على وجود الله، فقالت: سبحان الله! أو يحتاج الله للأدلة على وجوده؟ لولا عنده ألف شكٍّ، لَما وضع ألف دليل، فعندما بلغ الرازي مقولتها، قال: اللهم إيمانًا كإيمان عجائز نيسابور!
وقال الجويني عند موته: *لقد خضت البحر الخضم، وخلّيت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. فإن لم يتداركني ربي برحمته؛ فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي*. أي على الفطرة النقية، والدين النقي، والملة القويمة، والعقل السالم من شكوك المتفلسفة ومُتشَبِّعة أهل الكلام.
وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي ـ وكان من أجل تلامذة الرازي ـ لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يومًا، فقال: ما تعتقد؟ قال: *ما يعتقده المسلمون*، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟! قال: نعم، فقال: "اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد*، وبكى حتى أخضل لحيته!
وقال الخوفجي عند موته: *ما عرفت مما حصلته شيئًا سوى أن الممكن يفتقر إلى المُرجِّح، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئًا*! وقال آخر: *أضطجعُ على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء! قلت: الحمد لله كثيرًا على نعمة الإسلام والسنة، وعافية العقل، وطمأنينة النفس، وسكينة الروح*، }وأما بنعمة ربك فحدث{.
لقد كان الفلاسفة يبحثون عن أمان العقل عن طريق استخدام قواطعه والتزام لوازمه، وهذا جيد ابتداء، لكنهم أغفلوا أن العقل قاصر عن إدراك حقائق الوجود المتعلقة بعالم أكبر من عالمنا، وما عالمنا فيه إلا كالذرة تذروها الرياح، والتي طريق العلم بها النقل السليم مع فقهها بالعقل الصحيح، واستئناسها بالفطرة القويمة، فلما أنكروها وكفروا بها اصطدموا بحواجزها العقلية الظاهرة ورواسخها الفطرية الهائلة، فانسحقت نفوسهم تحت وطأة إلحاح الحقيقة، وضغط يقينات العقل، فمن اهتدى منهم لأثارة من المرسلين ـ وهي محصورة بعد البعثة في القرآن والسنة ـ فقد اهتدى واستراح وسعد وأفلح، وتكاملت أدوات عقلة مع مادة علمه من الوحي المنزل المعصوم، فصحّت الرؤية، واستقام العقل، وسعدت النفس، واطمأن الروح، وسكن القلب، واتّضح المعاد. أما من ضل فهو يتقلب على صفيحٍ يحرق عقله وروحه ونفسه في أتون الحيرة والشك والتهوّك والشقاء، والحمد لله رب العالمين.
لقد كان التسامح الفلسفي المصطلحي لدى القوم عمادًا لتعاملهم مع أنفسهم ومع الناس، وكما قالوا عن رابليه: *إنه كان يتسامح في كل شيء إلا عدم التسامح*!
وهذه المنظومة الفلسفية الفكرية محتاجة من صاحبها السالك في أسرابها لوقت طويل حتى يصل ذلك الفيلسوف للسلام الأدنى المُطاق في دينه الفلسفي، لأن العقل الفلسفي لا ينضج مبكرًا، وكما قال أبقراط: *الفن طويل، ولكن الوقت يمرّ مرّ السحاب*. وقال أغسطس في هذا وفيما هو أعمّ منه: *بادر على مهل*، لذلك فمّما امتاز به هؤلاء التؤدة والأناة والصبر والتدقيق وطول النفس، وهي سجايا تُحمدُ لهم. والفيلسوف في الجملة راكدٌ بجسده، عاصفٌ بفكره.
ومجال الفلسفة على صعوبته ومشقته وبرودته مفتقر لتأمل طويل جدًّأ حتى في الأشياء العابرة التي تمر على غيرهم بلا انتباه ولا إرعاء، ومن ذلك قول دوروثي: *طنين الحشرات تلك الضوضاء الصامتة*. وهم مقتنعون أن هذا هو الطريق الوحيد للوصول للحقيقة، قال الفيلسوف الماجن أبيقور: *الجسم إذا شُفي من مرضه مرّة كثيرًا ما ينتابه المرض مرة أخرى، أما العقل فإذا شفي فلن يعود إليه المرض أبدًا*. وهذه حكمة لم يُعملها، والأحق بها نقيضُه زينون الرواقي مقارنة به، وقد قصد أبيقور بذلك أن العقل عَرَضٌ يحكم الإنسان وليس بجسم تجتاحه الأمراض وتغتاله المنون، وغفل أبيقور عن إشكالية ضلال من يظن نفسه على الحق، ويحسب أنه قد شُفي من علته بينما هو في بطن مرض الجهل مدفون، كما قال رب العزة والجلال: }قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا{، وقال سبحانه في أولئك وأشباههم: }ويحسبون أنهم مهتدون{، ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وصرف قلوبنا على طاعتك، إله الحق.
لقد كان الفلاسفة حريصين أثناء جني ثمار الفلسفة كل الحرص على حراسة عقولهم ونفوسهم من غوائل انحراف العقل أو غيلة العاطفة، بغض النظر عن مدى اقترابهم من عين الحقيقة أو بُعدِهم عن أهدابها، كما قال أبكتس: *جوهر الفلسفة هو أن يشكّل الإنسان حياته وسلوكه، بحيث لا تتأثر سعادته بالظروف الخارجية إلا أقل التأثر*. وقال أيضًا مظهرًا عزاء الفلسفة: *في مقدور العبد أن يكون حرّ الروح كديجين، وفي وسع السجين أن يكون حرًّا كسقراط، وقد يكون الإمبراطور عبدًا كنيرون، وليس الموت نفسه إلا حادثًا عارضًا في حياة الرجل الصالح*. وقال أيضًا: *لا تسعَ لأن يكون ما يحدث لك يحدث كما تحب، بل أحِب أن يحدث ما حدث كما حدث، فإن فعلت وجدت الهدوء والطمأنينة*. قلت: وهذا ما يسمى بالسكون الفلسفيّ، وكما قيل: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، والرضا التامّ بالله تعالى هو إكسير السعادة حقًّا.
وقال دقلديانوس محاولًا تلمّس العزاء الفلسفي جوابًا لمكسميان لما ألحّ عليه أن يستولي على أزمّة الحكم مرة أخرى، ويقضي على الشقاق والحرب: *إن مكسميان لو رأى الكرنب الجيد الذي يزرعه في حديقته؛ لما طلب إليه أن يضحي بهذه المتعة جريًا وراء متاعب السلطان*.
وقال أرازموس في فلسفة رواقية لم يحققها: *يجب أن نتحمل ما يأتي به حظّنا، وقد هيأت عقلي لتقبل كل حدث*، لكنه لم يحتمل ما حدث، لافتقاره جوهر العزاء الحقيقي وهو الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وانفساخ العزائم وانتقاض الهمم ضعفٌ بشريٌّ عامٌّ، والله المستعان.
وفي محاولة لتبرئة العقل من طيش العاطفة قال لاروشفوكو: *ما نحن إلا عبيد شهواتنا، وإذا قهرت شهوة منها فقاهرها ليس العقل، بل شهوة أخرى*، وقال واصفًا وحدته الحزينة: *الحب الصادق أشبه بالأشباح، إنه شيء يتحدث عنه كل إنسان، ولكن نادرًا ما رآه أحد*. ومن باب ذكر الشيء بالشيء؛ فالفلاسفة بالمجمل يصعب العيش معهم لسوداويتهم وعجرفتهم ونَزَقِهِم وضعف تقبُّلِهم لمخالفات معاشريهم، فهم ـ وإن تدثّروا بالتسامح الفلسفي ـ إلا انّ كثيرًا منهم يفشلون في لحظة الامتحان، وهذا التسامح الفلسفي لا ينفع المُصاحَبَ شيئًا لأنه تسامح من علوٍّ، لا تغافل عن محبة. ومع ذلك فالفيلسوف مدني بطبيعته، وهو إنسان يحب الأُنس بالناس، وبخاصه من يرون الحياة بعينه، ويَزِنُونها بمذهبه، وفي ذلك قال توماس هوبز في حنينه للمدينة بعد سكناه الريف: *الافتقار إلى حديث العلم والعلماء كان أشد ما يضايق الفيلسوف في الريف*.
وكم من فيلسوف حاول تلمّس عزاء نفسه في ثَقْبِ شيء من جدار الكفر بالغيب علّه أن يجد لشِقوته سلوانًا. ولقد ألّف بوثيوس كتابه (سلوى الفلاسفة) في سجنه قبل أن يُقتل.
هذا؛ ولقد مرّت أوقات كان فيها ضجيج عارم لدى أهل الفكر والنظر مِن عَبَثِ الفلاسفة بالاحتكام لعقل كافر بالغيب وهو يجهل ماهيته، ولا يستطيع إثبات انعدامه، وفي نفس الوقت اشمئزازٌ مِن عَبَثِ مَن أقام عقائد غيبية مناقضة لأبسط قواعد العقل السليم كعقيدة التثليث لدى النصارى وأشباه ذلك الضلال، ومن ذلك قول أبلار (وهو الفيلسوف القديس - لديهم - عشيق تلميذته الجميلة هلواز التي اشتهر عنها قولها له: وداعًا يا كلّ من أُحبّ) قال في نقده للتثليث: *من العبث أن نُعلِّق بألفاظ لا يستطيع النقل تتبعها، وأنه لا شيء يمكن تصديقه إلا إذا أمكن فهمه أولًا، وإنّ من أسخف الأشياء أن يعظ إنسان غيره بشيء لا يستطيع هو نفسه أن يفهمه، ولا يستطيع من يسعى لتعليمهم أن يفهموه*!
كذلك؛ فقد أسّست الفلسفة للفردية الأنانية، دون التعاون المثمر، والرحمة المتبادلة، والتضحيات المحمودة، قال فيشته: *إن الحقيقة الأساسية لكل منا هي وعي الفرد بنفسه*. قلت: وهذا أساس مذهب الوجودية البهيمي والسارتَرِي الشيطاني.
ومن باب ذكر الشيء بالشيء فقد يختِلُ الفيلسوف الناس بالدين المشوّه قربانًا لرغيبة نفسه الجشعة لسلطة أو مال أو حاجة، كما قال مكيافيلي: *الدين خير وسيلة لتعويد الناس الذين فطروا على الشر الخضوع للقانون والنظام*. فالدين لديه لا حقيقة تحته بل هو مجرد وسيلة تبررها الغاية للسلطة. وقال أيضًا: *السياسة إذا قصد بها فن الحكم فالواجب أن تكون مستقلة عن الأخلاق استقلالًا تامًّا*. وقد أخذها عنه فولتير قائلًا: *إذا كان لديك قرية واحدة لتحكمها فلا بد أن يكون لها دين*. وقال أيضًا: *لو لم يكن الدين موجودًا فمن الضروري أن نخترعه*. }أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى{، }أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا{، }يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون{.
وعلى هذه المكيافيلية الفلسفية قامت فلسفات سياسية كثيرة كالبراجماتية النفعية وغيرها، واختار الساسة ومن في حكمهم تطويع الفلسفة لمآربهم الآنية الأنانية المادية، قالت مانورولان بحسرة وأسف وحرقة وهي تقاد للمقصلة: *آهٍ أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك*. وقال دانتون وهو في سجنه الذي قتل بُعَيده: *في الثورات يظل قابضًا على السلطة من هو أكثر نذالة*. ثم هتف بعد سماع حكم إعدامه من فم عدوّه اللدود: *حقير أنت يا روبيسبير! إن المقصلة تناديك أنت أيضًا، إنك ستتبعني*. وكان الأمر كما قال، لأن الثورات تأكل أبناءها، والحكم المبني على الغضب والتشفّي والانتقام سريع التصرّم والاحتراب والفوضى والأفول، ولقد كَالَ الله تعالى لدانتون بصاعه الأوفى، إذ كان دانتون مسؤولًا عن قتل الكثيرين على مقصلة باريس إبّان الثورة الفرنسية (الجيلوتين). وكما تدين تدان، وسبحان المنتقم العدل المدبّر المتصرف الحكيم، الذي لا يبقى سواه، ولا يُعبد بحقّ إلا إياه.
ولقد أحسن صمويل جونسون في قوله: *الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد* لأن المتسلقين يستفيدون من التلقّب بها ذريعةً لرغباتهم الخاصة، على حساب لباسها الواسع وخِبَائها الجامع، ويدفعون بها زورًا عاديات المخالفين لهم، فكانت لديهم حينها ملاذًا حِينًا، وفزَّاعةً حينًا آخر بحسب حاجة المنادي بها والمتدثّر زورًا بإهابها.
وهذا الجشع السلطوي أو الرأسمالي هو تطبيق حرفي عملي لكلام مكيافيللي في كتابه الأمير الذي قيل فيه: *أجمع الحكّام على ذمّه، وأجمعوا على العمل به*! وبكل حال؛ فلا يعني هذا إهدار الوطنية الحقة، فهي ملاذ الصالحين كذلك، وقد جعلها الله تعالى قالبًا صالحًا لإقامة الحياة، وبناء الحضارة، واستتباب الأمن، واستدرار الرزق، واجتماع الناس، وتعاونهم. إنما الواجب ضبطها تنظيرًا وتطبيقًا.
وتأمل لَيّ عنق الفلسفة الكلاسيكية الرواقية التي بنى عليها بولس دينه النصراني المزيّف حتى أضحت فلسفة صبيانية أبيقورية في شراهة وجشع وطمعِ من كان حقيقًا بالتقوى والنزاهة والشرف والأمانة، وهو البابا ليو العاشر إذ قال وقد أتخمه المنصب البابوي ـ المعصوم بنظرهم بالروح القُدُس: *ما دام الرب أعطانا هذا المنصب؛ فدعونا نستمتع به*! لذلك فبسبب معاول الفلسفة، مع ضميمة خرافات علم الغيب لديهم، مع بوائق علمية وعملية وأخلاقية؛ انهدم دينهم على رؤوس أهله، حتى صرخوا بأن الكنائس بعد هؤلاء أضحت أضرحة لوفاة الكنيسة، وموت الإله (الخرافي) لديهم!
ومع سعي الفلسفة الدؤوب للاكتشاف؛ فإنها تضل عوراء عشواء ناقصة، لفقدها عمودًا مهمًّا للمعرفة؛ وهو الإيمان بعالم الغيب المبني على مقدمات صحيحة، قال هيغل مؤسِّسُ مذهب المثالية المطلقة محاولًا ضخ الدم في الفكر الإنساني المادي غافلًا عن المنظومة المعرفية المتكاملة: *ينام التاريخ حينما تكون الفكرة المضادة معطلة*. أي: ضد الديالكتيك، والديالكتيك: هو الفكرة ونقيضها، أي: الجدلية. وقد أُخذ عنه هذا المعنى، وبُني عليها فلسفات مستقلة، طويلة الذيول، كثيرة الشُّعَب.
لقد كان للفسلفة ـ على ما فيها من بواقع ـ جوانب إيجابية لو أن أصحابها استضاءوا بالوحي المنزل المعصوم دون الخرافات البالية المتناقضة كخرافات النصارى، ومن ذلك قول جان لوك، ـ وكان ممن نبذوا خرافة التثليث وآمنوا بالتوحيد: *إن حب الحق من أجل الحق وحده هو الجانب الأساسي في الكمال الإنساني في هذه الدنيا، ومنبت كل الفضائل*. وهذا الحرف يجسّد حقيقة الفيلسوف، فهو الباحث عن الحق لأجل الحق والفضيلة، لذا فأصل البداية محمود، لكن الطريق انحرف لغياب نور السماء عن أَسَلَةِ يَرَاعِ المادية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومن جوانبها الجميلة كشفها عجز الإنسان وصغره وفناءه في فضاء الخلق الكبير الشاسع الفسيح، كما قال نابليون، وهو مثال للفيلسوف النَّهِم الساخن الواقعي العملي، لا العاجي البارد التنظيري: *كل حيوان ميكرسكوبي يجعل نفسه محورًا للكون*.
والحق يقال للإنصاف: إنّ الحضارة المدنية، والحقبة الصناعية، والاختراعات التجريبية، والنظريات الحديثة في الهندسة والطب والصناعة والفلك والتخطيط ونحوها، قائمة ـ في كثير منها ـ على جهود عقول فلسفية فائقة الذكاء وفولاذية العزم، أسّست وأتمّت كثيرًا من فصول علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك ونحوها. فهم يحسنون التعامل مع الظواهر القائمة على التجربة والبرهان والتأمل الطويل، حتى إنّ منهم من يُصاب بحالة ذهنية تؤرقه لعدة أيام وتمنعه النوم والزاد حتى يمرض ويصاب بوهن نفسي واعتلال جسدي كنيوتن وآينشتاين، كل ذلك ليخرجوا للناس بنظريات علمية برهانية قائمة على الحسّ والتجربة، قامت على إثرها الثورات الصناعية والتقنية الحديثة، وهذا هو ميدانهم الحقيق بهم، وإن كان كثير من المخترعين لا علاقة له بالفلسفة مطلقًا.
وإنما يكون انحراف هؤلاء القوم حينما يقيسون الغيب على الشهادة، أو حينما يلغون مفهوم الغيب من الأساس، لظنهم أن الغيب هو مجرد الأساطير البائدة والبالية التي يتداولها العوام، أو الخرافات للتي تتردد في أروقة الكنائس ونحوها، فالخرافة نقيض العلم، ولا يُلام الفيلسوف في اطّراحها، وحُقَّ له أن يعدّها هراء هرطوقيًّا، بل هو مصيب في ذلك ومشكور، ولكن يُلام على إدخال حقائق الغيب فيها بيْنَا هي بريئة منها.
لذا؛ فإنّ أول انحراف يعتري الفيلسوف حينما يدرس الظواهر الإنسانية المادية ويحكم عليها بالتجربة والتأمل مغفلًا جانب الغيب الذي لا يتجزأ ولا ينفصل عن هذا المخلوق الجثماني الروحاني. ولو أنهم وُفِّقُوا لهدي القرآن لعصمهم من الزلل بإذن الله تعالى. فالحكم على الكل بالنظر للجزء المختلف قصور في النظر، يتبعه الخطأ في الحكم، والانقطاع عند التسبيب.
هذا؛ مع التنبيه إلى أن من انشغل بالعلوم التجريبية البحتة كالفيزياء مثلًا فإنه في الأغلب لا ينشغل بتحليل وتوليد النظريات الفكرية البحتة، لذلك فكثير منهم ليسوا بفلاسفة أصلًا، إنما غالب من يفعل ذلك هم أهل العلوم الإنسانية، وهي من علوم الترف الفكري، لذا فعامة البلاء الفكري والهُراء المعرفي والاختلال المنهجي إنما يأتي من قبل الفلاسفة الإنسانيين لا العلماء التجريبيين، فالفلسفة تبدع في عالم الحس، وتفشل في عالم الغيب، وتراوح في الاجتماعيات. ومن هنا تميّز الإبداع الإسلامي في عصور ازدهاره.
هذا؛ وعلى المؤمن المطمئن بالإيمان السعيد بالاطمئنان ألا يحفل بكلام الفلاسفة، وأن يولّي وجهه عنه، فأصوله العقلية التي بُني عليها يعرفها العامي، ولا يستفيد من تفكيكها الذكي، كما أنها مؤدية مع قليل البضاعة الشرعية إلى مزالق فكرية حريٌّ بمن أحب نفسه أن ينأى بها عنها ابتداءً، وأن يهرب عنها توسّطًا، وأن يستغيث بالحي القيوم تبارك وتعالى انتهاءً ليحميه من لَوَث شبهاتها، ويطهره من نجاسة بعض أفكارها، فالقلوب ضعيفة، والشبه خطّافة، ورُبَّ شبهة انزلقت في القلب فنبتت وأثمرت شكوكًا وحيرة ونفاقًا، ومن عوفي فليحمد الله تعالى فالعافية لا يعدلها شيء، ودفع المفاسد مقدّم على جلب المصالح، ورأس مال المسلم دينه، ولا يقامر بدينه ويُخاطر بمصيره إلا بليدٌ شقيّ.
أما من ألجئ إليها فحق نفسه عليه الابتداء بالحصانة الفكرية العقديّة الشرعية، لأن الفلسفة تحمل غثاء كثيرًا، وشبهات، ومماحكات، ومماراة، وجدل، وإثارات معرفية لترهات فكرية كامنة في خلايا عقليّة خير لها الخمود إن لم يكن صاحبها محصنًا بالعلم الواسع والعقل الناضج والتجربة الحكيمة.
ولقد تتابع نهي السلف عن دخول وُحُولِ شبهاتهم وأمثالهم، وزجروا عن التساهل مع شبكات حيرتهم وضلالهم. فالعلم الإسلامي مصون بالوحي المعصوم القرآن والسنة، وقد تنبّه المسلمون لخطلِ كثير من بوائق الفلسفة، وتعاوروا على نبذها، حتى إن مفردة الفلسفة لدى كثير منهم تُرادف الهُراء، حربًا لها واحتقارًا ومنابذة. ولكم فتحت ترجمة كتبهم على الإسلام أبوابًا من الزندقة والفساد! قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5 / 87) متحدّثًا عن المنطق اليوناني الذي هو عمود دين الفلاسفة قاطبة، وبناء فكرهم أجمعين: *إنه من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان*.
وأما هو في نفسه فبعضه حق وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يُحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرًا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء، وكانت سبب نفاقهم وفساد علومهم.
ومختصر القول مما مضى: أن سبب اهتزاز قطعية الثبوت في العلميات عند غير المسلمين عدم قدرة اعتقادهم على الثبات أمام رياح الإلزامات العقلية، وذوبان شمع ظواهرهم أمام شمس الإيرادات الغيبية المنطقية، واقتلاع جذور أوهامهم بفعل معاول الفطرة الأولى. وهذا مُؤدَّى السرديات الفلسفية الكلاسيكية والحديثة في الجملة.
أمّا صخرة الهدى الإسلامية، بمحكماتها الشرعية، وأدلتها الوَحيِيّة؛ فإن الأمواج المخالفة لها ترتدّ عن ساحلها منكسرة خائبة أمام ثباتها ورسوخها ووضوحها وجمالها وكمالها واتّساقها، وقبول العقول الصحيحة لها، بل إنها لتمتصّ مَنْ صَدَقَ من مخالفيها لإلزام براهينها، وسطوع حكمتها، وشموخها، حتى يعتنقها من كان لها مناكفًا، ويحملها من كان لها غازيًا، ويذود عنها من كان لها محاربًا، فهي الحق الذي لا لبس فيه، والهدى الذي لا ضلال معه، والسَّكِينة التي لا شك فيها، والنور الذي ليس به خفاء.
والسؤال: هل هناك تسامح في الإسلام؟
والجواب المؤكد: أنّ الإسلام هو أكمل قيمة تشريعية على مستوى الفرد والجماعة والحكم في التسامح على الإطلاق، سواء على مستوى العبد مع ربه، أو مع خلق الله تعالى، وإذا أردت برهان ذلك فتأمل صوادق حقائقه منه لا من ألسنة خصومه.
ودع عنك هراء المدعين للتسامح وأيديهم تقطر من دماء الأبرياء، سواء بأسلحة فكرهم أو مصانعهم. فقل لي بربك: من أقام الحربين العالميتين اللتين ذهب ضحية لهما قرابة سبعين مليونًا من البشر، هؤلاء القتلى، فما بالك بالجرحى والمشردين ونحوهم؟! وهذي الحرب الثالثة تطرق أبواب القارات السبع! وإنك إذا تتبعت حقائق الأمور في تلك الحروب وفيما سبقها وما تبعها من استعمار واستخراب؛ ظهر لك الأمر عيانًا واستبان لك الصباح جهارًا، تأمل ـ وفقك الله تعالى ـ ثم قارن ذلك مع سماحة الإسلام.
هذا؛ وليس التوحش خاصًّا بالنصارى فأمم الأرض قاطبة لها حظّها الوافر منه، وإنما يضبط سعار وحشية الناس دينٌ صالحٌ هادي أو نفسٌ حازمة حكيمة، ولولا أن الإسلام حجز المسلمين لربما كان حالهم مختلف، ولكن القرآن ـ بحمد الله ـ يعظهم ويربيهم ويهذبهم ويهديهم حتى غدوا أرقى الأمم طُرًّا في التعامل مع المخالفين سلمًا وحربًا، ولهم حيال ذلك قواعد أخلاقية صارمة، وحدود تعامُلِيّة حازمة، وسجايا راقية مشهودة، وشيم جميلة مشهورة، ونماذج الإثبات لا تعدّها الأقلام، والتاريخ المنصف بذلك شهيد.
وتأمل حال البوذيين وتوحشهم، واليهود وجرائمهم، بل حتى أتباع المتسامح كنفوشيوس المشهور بحلمه ودعوته للعفو، وكذلك الهندوس وأشباههم من أهل الأوثان الطوطمية والملاحدة في أمم الضلال والوثنية.
أما المسلمون ففي الجملة هم أرقى الأمم تسامحًا، وإن ندَّ شذوذٌ من فرقٍ بدعية مخالِفةٍ جماهيرَ المسلمين وسوادهم الأعظم، أو من منتسبة للإسلامِ والإسلام منها براء، فالشيعة الباطنية والاثني عشرية والخوارج هم أشدّ المسلمين توحشًا ودموية وقسوة وإفسادًا، وتزيد المتشيعة على الخوارج في الاغتيال والغدر والكذب والنفاق، والباطنية لهم من ذلك أضعافًا مضاعفة. علمًا بأن الزنادقة ممن يسمّون بالفلاسفة الإسلاميين جُلُّهم شيعة باطنية، والتاريخ شاهد ناطق صادق خبير، فاقلب صفحات الزمان تجد أخبارهم، سواء في غابر تاريخهم أم حاضره، ومن تَبَصَّرَ بُصِّرَ، والله المستعان.
وسبب اللبس في تصور التسامح الحقيقي الإسلامي بين الأديان والسلفي بين المذاهب المنتسبة إليه راجع لثلاثة أمور:
الأول: التقصير الإعلامي في بيان وضوح الدلائل المادية والنصوصية والصاحبية المثبتة للتسامح، والرادّة لدعوى التوحش أو الدموية.
الثاني: وجود أفراد محسوبين على الإسلام أو السنة أو السلفية وقعوا في مزالق من التوحش، وهو لدى سواد الأمة مردود غير مقبول. وهذا مع اعتبار وجود كم كبير من الدعاية السيئة من جهة، والتزييف والكذب والتمثيل وتبادل الأدوار من جهة أخرى، وهي حاضرة بقوة في زماننا الحاضر، ولها أجهزة مخابراتية مهمتها الكذب الإعلامي والتجنيد التضليلي، وأخبارهم معلومة مشهورة.
الثالث: وجود أشخاص وهيئات من الأطراف الأخرى تمثل التسامح والرفق والاعتدال الأخلاقي، وهذه سنة الله تعالى في خلقه، فكل أمة لا تخلو من نبلاء ورحماء وعقلاء، ولكن كلامنا على الأعم الأغلب، لأن المسلمين يسيرون وفق نمط أدبي أخلاقي ساميّ، مبنيّ على مُثُلٍ دينية، وقِيَمٍ شريفة، وسجايا عالية.
ولك أن تعلم أن الحضارة الغربية ـ باعتراف كثير من كبرائها ـ قد مارست أرذل وأَلأَمَ وأمكر أساليب التزييف والكذب والغش والسرقات العلمية والأدبية وكتمان معروف الطرف الآخر.. في شرور لا تحصى، لكنهم يحاولون تجميل قبحهم الظاهر وتعطير زهم قذاراتهم الأخلاقية بما يُمَثّلون به على العوام، لأنهم يرون في الإسلام الخصم التقليدي الأشدّ للحضارة القِيَمِية والفكرية الغربية والشرقية.
وكما قدّمنا فمنهم طائفة يحترمون الحقيقة وينصفونها ويدعمونها، بل ويعتنقونها، فأصابعك ليست متساوية، والله تعالى قد جعل في كل أمة وطائفة أحرارًا لا يقبلون الزيف حتى وان غُلبوا وقلّوا ودُفنوا فكريًّا وإعلاميًّا، بل وحِسّيًّا. فمنهم من اعتنق الحق المبين، فأشهر إسلامه، وفاز بإيمانه، ومنهم من بقي على حافة الإنصاف يرقب الإسلام بإعجاب من بعيد.
والإسلام لا يُجبر أحدٌ على اعتناقه، لأن جوهره الإيمان، وقالَبه الإسلام، والقالب الفارغ لا خير فيه، وهذا شأن أهل النفاق، والمقصود؛ أنّ اعتناق الإسلام مبنيٌّ على قناعة فكرية ورغبة إيمانية، لا تمثيل نفاقي وتزييف تديُّني، فهو دين كامل يُؤسِّسُ لرؤيةٍ متكاملة لحقيقة الوجود الإنساني، وتحقيق العلاقات الحسنة والانفعالات الإيجابية بين الأشياء، فليس كالكهنوت الكنسي الضال المكتفي بالإيمان بخرافة يكتنفها تناقض لا محدود، وليس كالعنصرية اليهودية المتكبرة الظالمة المتقوقعة على أعراقٍ مختلطة الأهواء والدسائس، وليس كأمم الأرض الأخرى المبنيةُ أديانها على اعتقادات لا تمت للحقيقة بحبل واصل، ولا للقناعة الفكرية بعلاقة قبول. ومن تدبر آيات القرآن العظيم قبض بكلّية عقله وقلبه وروحه عليه قَبْضَ الفَرِحِ المهتدي الواثق السعيد، }قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون{، والله تعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، }من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد{، }وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارًا{، }لكم دينكم ولي دين{، والله ذو الفضل العظيم.
إنّ ممّا يميز الإسلام عزّته وقطعيته وواقعيته، ووضوحه في نفسه وفي بيان ضلال المخالفين، }قل يا أهل الكتاب لستم على شيء{، }من كان يريد العزة فلله العزة جميعا{. ففي الإسلام قطعية الإيمان، وثبوتية العلم، ورسوخ اليقين، وغلبة الحجة، وهذا ما أثمر الاستعلاء الفكري على من خالفه، والعزة النبيلة لدى من حاجج به، لأن جوهر مادته العلمية معصومة في أصولها من الزلل، فهي مُنزّلة من العليم الحكيم، فأصول الوجود، والغاية من الخلق، وأسباب السعادة، وتفصيل الأحداث، وتحديد نطاق الزمان الخاص بالبشر، مبيّنة في التنزيل الإلهي لكتابه العظيم، }إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون{، وقد قام به التحدي المعجز، ولا زال، وسيستمر أبدًا قاهرًا شامخًا عزيزًا، }قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا{، }لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد{.
وكلّ من يقرأه بتدبر وتفهّم وطلب الهدى؛ فإنه لا يملك إلا أن يسجد بكلّيته لمن تكلّم به، فيسجد قلبه، وتركع روحه، وتخضع نفسه، حتى وإن أبى جسده المتكبر ذلك خذلانًا وحرمانًا وخيبة. ذلك أن القرآن العزيز هو العهد الأخير من الله تعالى للبشرية، فناسب أن يكون خِتامُ عهودها كمالًا جمالًا جلالًا، }إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرًا{، }ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرًا{.
فتأمل عزّة الإسلام وشرفه وشموخه وعلوّه وسموّه وتساميه ورفعته، وتجاهله للجهلاء، والرفق بالجهلة، والدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال الحسن، والحزم مع الظالمين من الأمم، ففي الدعوة الإسلامية يكون الابتداء على الدوام بالشفقة والرفق والإحسان والبيان، فإن نازع المخالف بعد إقامة الحجة الرسالية بالبيان فيبين له الأمر بشيء من الاخشيشان رحمة به من الضلال، فإن تكبر وعاند وأبى فبالمفاصلة ولو بالسيف إن هو حارب ومنع الناس من قبول الحق واعتناق الهدى. فالحرب والقتال والغزو ليس بغاية في الإسلام، إنّما هو ووسيلةُ هدايةٍ بعد استنفاد كل ما قبلها من طرق الدعوة للهدى، حتى إذا ما اهتدى الكافر أخذ كافة حقوقه كمسلم، ولا يرتفع عنه كبير العلماء، ولا أعلى رتبة عسكرية، ولا أغنى تاجر، ولا أعظم قائد سياسي، فإن امتنع عن اعتناقه فلا يجبر اعتناقه، بل تُحترم حقوقه، وتُكفل إنسانيته، ويكتفى بالجزية، وهو مبلغ رمزي نظير حمايته ورعايته، وتنبيهًا لطيفًا ونداءً أنيقًا ينبِّهُ نَابِهَ عقله لكثافة ضلاله، فكيف لا يهتدي وهو يرى نور الإسلام الذي لا يعمى عنه إلا عميان القلوب!
وهذا الحزم الحادب والصرامة الرحيمة والحسم الرفيق في حقيقته رحمة وارفة لمن تأمله، فلا أعدى للإنسان من نفسه المتكبرة الظالمة الشكّاكة، ومن الناس من يُجرُّ إلى الجنة بالسلاسل. ولا أخسّ من مسخ العقل، وتشويه التصوّر، ونكس الفطرة. ولقد بيّنت ذلك مفصّلًا في رسالة أخلاق الكنيسة وأخلاق الإسلام، ورسالة هل انتشر الإسلام بالسيف، ففيهما مقارنات حيّة ومُشاهدة وموثّقة في ذلك.
هذا؛ وإنّ الشك في الإسلام يكون على ضربين:
الأول: الشك فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، ككبريات الإيمانيات من أركان الإيمان وما يتبعها، وكشعائر الإسلام العظام كأركانه وتوابعها؛ فهذه لا تسمح شريعة الإسلام بالشك فيها بعد العلم بها، بل إنّ ذلك الضرب من الشكوكيين المرتابين فيها هم أسوأ الناس طُرًّا وهم المنافقون، لأنهم عرفوا الحق وتظاهروا به مع كفرهم به، فليسوا بجاهلين ولا مُكرهين، وهم مُتوعّدون بالدرك الأسفل من النار، وهم العدو الأول للإسلام على مر القرون، }هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون{.
الثاني: ما جاز فيه الخلاف، واختلفت حياله مدارك نظر الفقهاء في القضايا الجزئية من أمور الشرع علميًّا وعمليًّا. وهذا في حقيقته رحمة، وفيه سعة، ولا إنكار فيما ساغ الخلاف فيه بضوابطه المعروفة، وقد فصلت ذلك في كتاب }ولا تفرّقوا{.
وبعد؛ فإن سكينة العقل، وطمأنينة النفس، وسعادة الروح؛ نِعَمٌ لا يعرف قدرها إلا من فقدها، أو تشوّش لديه تصوّرها، أو انقطع عن تحقيقها، لذلك كان دين الإسلام هو الحقّ الذي لا مرية فيه، والنور الذي لا ظلمة معه، والهدى الذي لا ضلال لمن اتّبعه، والأمن التام، والحق المبين، والسعادة الأبديّة، والسكينة الوارفة، والطمأنينة الجميلة، وإنّ مذهب السلف الصالح فيه كذلك، فالإسلام محضُ صوابِ الأمم، وأهلُ السنة والجماعة محضُ صوابِ أهله، فالحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد