بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
درس آخر من دروس الإسلام، وجبر آخر من جبر الخواطر، ومعلم آخر من معالم الدين، وأدب آخر من التأدب مع الله، الحنين إلى الوطن، والعودة إلى الماضي، والرجوع إلى القبلة الأولى.
التأدب مع الله: تحويل القبلة، حدث فريد، وعهد جديد، وعود حميد، لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقترح على ربه، أو يغير في الشريعة، او يجدد في الدين، كلا ثم كلا، وإنما كان يقلب وجهه في السماء، فقط يخطر علي باله، فقط يريد ويتمنى، أن يعود إلي قبلة آبائه وأجداده }قد نرى تقلب وجهك في السماء) {البقرة.(
يراه خالقه، دون أن يدعو، ودون أن يطلب، ودون أن يتكلم، يعرف مراده، ويعلم رغبته، أليس هو *العليم الخبير*، أليس هو*الحكيم العليم* لذلك تأتي الإجابة على الفور، ويُلبي الطلب في الحال، وتتحقق الرغبة على التو، }فلنولينك قبلة ترضاها{ )البقرة(.
إنه يرضي لرسوله ما يُرضيه، ويحقق لنبيه ما يتمناه، }ولسوف يعطيك ربك فترضى){الأعلى.(
والرضا أعلى قيم السعادة، وأجمل ما في الحياة!!
والرضا ليس للرسول وفقط، وإنما له ولأمته، كل أمته،*سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.*
الضعيف والقوي، الفقير والغني، العزيز والدني، الأبيض والأسود، الرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم، كلهم يتجهون لنفس القبلة التي أرادها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولاها له ربه، }وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره){البقرة(
إنّ تحويل القبلة حدث من شأنه اصطفاء واجتباء، تميُّز وتجرُّد، استقلال ووسطية، طاعةٌ وتلبية، إنَّها تأدُّب رفيع مع وحْي السماء، وأدب جمٌّ مع خالِق الأرض والسماء؛ }قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا{ [البقرة: 144].
التميز: يُريد الله للمؤمِن أنْ يتميز عن غيره، ويتفرد عمن سواه، يريد الله تعالى أن تكون قبلتهم لهم وحدهم، طريقهم غير طريق اليهود، وقبلتهم غير قبلة اليهود، وتوجههم غير توجه اليهود، لماذا؟!، ليرفع قدرَهم، ويتولَّى أمرَهم، ويُعلي شأنَهم، ويهديهم إلى صِراطه المستقيم، }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{[الأنعام: 153].
ومن ثم يعودون أقوى إيمانًا، وأثْبَت يقينًا، وأَصلَبَ عودًا، وأرْحب صدرًا، وأوْسع صبرًا، يُمكنهم مِن الصمود في وجْه العوادي والنكبات، لا تَلين لهم قناة، ولا يُفتُّ لهم عزم، ولا تضعُف لهم هِمَّة، لكن مَن منهم يتزوَّد؟ ومَن يسارع؟ ومَن يباشر هذه الدروس والعبر؟!
إنها قبلة الخير، قبلة الصلاح، قبلة الهدي، قبلة الحق، بكة وما ادراكم ما بكة، مكة وما ادراكم ما مكة، مكان الأمن والأمان، مشعل النور والإيمان، تهوي إليه القلوب، وتطهر فيها الذنوب، وتسكب عندها العبرات، كيف لا وهي منبت الرسالات، مكان وُلد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، درجت عليه قدماه، وهناك بدأ مسعاه، واستقبل وحي الله، اختار الله لأوليائه وأصفيائه، خير مكان، واصطفى لهم خير قبلة، وأنزل عليهم خير كتاب، وأرسل إليهم خير رسول، فكانوا خير أمة أُخرجت للناس.. }كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ] {110:آل عمران.[
الوحدة: قويت الأمة بدينها، واعتزت بإسلامها، وتشرفت بنبيها، ذلك بأن الإسلام جمعهم من شتات، وأحياهم من موات، وهداهم من ضلالة، وعلمهم من جهالة، كيف ذلك؟!
يعبدون ربًّا واحدًا، ويتبعون نبيًّا واحدًا، ويقرؤون كتابًا واحدًا، ويتعبدون بأعمال واحدة...!!
ويتجهون إلى قبلة واحدة...!! هل هناك تميز أفضل من هذا؟ هل هناك وحدة أجمل من هذه...!! الله يجمعهم وهم يتفرقون }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا]{آل عمران: من الآية 103[.
إنها الوحدة في أبهي صورها.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا *** وإذا افترقن تكسرت آحادًا
كيف؟! الله يوحدهم وهم يختلفون }إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{ ]الأنبياء92[، الله يهديهم وهم يضلون }وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ ]آل عمران: من الآية 101[، الله يعزهم وهم يستذلون }الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا{(النساء139)، الله يعلمهم وهم يجهلون }وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ (البقرة: من الآية 282).إلا من رحم ربي وعصم.
لقد ربط الله عز وجل بين القبلتين }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{[الإسراء: 1]، وهذا دليل واضح على أن القبلة بوصلة الأمة، وحياتها، وسعادتها، أي كان النوجه، حتى حولت الي البيت الحرام لتكون مرضاة لرسول الله، ووحدة لأمته، وتجردا لأتباعه!!
الطاعة: الاستجابة الفورية، والطاعة الوقتية، في تحويل القبلة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "بينما الناس - بنو عمرو بن عوف - في صلاة الصُّبح بقباءٍ، إذ جاءَهم آتٍ، فقال: إنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد أُنزِل عليه الليلة، وقد أُمِرَ أن يَستقبلَ الكعبة، فاستقْبِلوها، وكانتْ وجوههم إلى الشامِ، فاستداروا إلى الكعْبة"؛ رواه البخاري، ومسلم.
لم ينتظروا حتى يسألون، لم ينهوا صلاتهم اولا ثم يستفسرون، وإنما تحولوا وهم في صلاتهم، طاعة مبنية على الثقة، الثقة في المنهج، والثقة فيمن أنزل عليه المنهج، والثقة فيمن حمل لهم المنهج.
الأمة اليوم معها المنهج هو هو، ونبيها هو هو، لذلك هي في حاجة إلي الثقة ومن ثم الطاعة، عندما فقدوا الثقة، وابتعدوا عن الطاعة، اختلفوا، وتشرذموا، وتفرقوا، وتشتتوا، فحل بهم ما حل، تمكن منهم عدوهم، إلا ما رحم ربي وعصم.
اللهم هيئ لهذه الأمة امر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، ينتصر فيه أهل الحق، ويُخذل فيه أهل الباطل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد