بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهُ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ". (أخرجه الترمذي 3971 وابن ماجه 154 واللفظ له، وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح).
في هذا الحديث النبوي الشريف أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض كبار صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين بما يستحقون وبيّن فضلهم وما تميزوا به عن إخوانهم من الصحابة الأفاضل رضي الله عنهم أجمعين، وكان من أهداف هذا البيان وذلك الثناء إعلام غيرهم بما ينبغي أن يستحقوا من مكانة ومنزلة تتناسب مع فضلهم وقدراتهم وعلمهم وخصالهم، بالإضافة إلى أن هذا كان دعوةً غير مباشرة إلى الناشئة وأفراد المجتمع إلى اتخاذهم قدوة ومثلًا لهم في حياتهم ومحاولة النسج على منوالهم في خصالهم الطيبة وأفعالهم المحمودة حسب الطبائع والميول والقدرات.
كما أن في هذا الحديث الشريف استكشافًا للمواهب والعمل الجاد على رعايتها، فلم يكن ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم رضي الله عنهم أجمعين، إلا بعد أن عَلِم واستكشف مواهبهم بما أعلمه ربه سبحانه أو بالملاحظة والتجربة والمعايشة أو هما معًا.
كما أنه صلى الله عليه وسلم قد عمل على رعاية تلك المواهب وتنميتها، فقد كان يقرأ القرآن على أبي بن كعب رضي الله عنه بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى، (الحديث متفق عليه: أخرجه البخاري 3809 ومسلم 779)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفتح المجال واسعًا أمام الموهوبين في إدارة شؤون الأمة والقيام على مصالحها كأبي بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول، كما أخبر بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "جئتُ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر" (متفق عليه: أخرجه البخاري3474 ومسلم 2389)، فكانا رضي الله عنهما في مقام الوزيرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سياسة الأمة وتدبير مصالحها المختلفة.
كما اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم معاذ بن جبل رضي الله عنه، طرق استنباط الأحكام عند وجود النص الشرعي وعند عدم وجوده، عندما بعثه إلى اليمن من أجل تعليم الناس ودعوتهم والقضاء بينهم، وكان أسلوب التعليم فريدًا في ذلك بأن كان السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم والجواب من معاذ رضي الله عنه، وذلك ليكون التعليم أعمق أثرًا وأكثر استيعابًا، فلما ظهر أن معاذًا قد استوعب التعليم جيّدًا، أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثناءً لافتًا بأن ضرب بيده صدر معاذ. (حديث معاذ أخرجه أبو داود 3952 و3953، والترمذي 1376 و1377، وغيرهم، وفي إسناده ضعف لكنه مجبور بتلقي الأمة له بالقبول. ينظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/470-471، وإعلام الموقعين لابن القيم الجوزية 2/344-354).
ويطول بي المقامُ لو أردت أن أستقصي مظاهر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه الكرام ورعاية مواهبهم وتنميتها، لكن ما ذكرته يكفي للتدليل على ذلك، والمقصود من هذه المقالة أنه يمكن الانطلاق من هذا الحديث الشريف لتوضيح الاهتمام باستكشاف المواهب ورعايتها وتنمية قدراتها وأهمية ذلك للأفراد والمجتمعات والأوطان، وذلك على النحو التالي:
1- إن المجتمع النشط الحيوي الذي يسعى إلى التقدم والإنجاز، هو ذلك المجتمع الذي يبذل القدر الكافي من طاقاته وموارده لاستكشاف المواهب ومعرفة الموهوبين والوصول إلى المبدعين في الوقت المناسب ولا يتأخر عن ذلك، لأن كل تأخر معناه إهدار قدرات تلك المواهب بقدر هذا التأخر، ومن ثمّ كان استكشاف الموهوبين والمبدعين والمتميزين في الوقت المناسب له أثر كبير على المجتمع وهيئاته وإنجازاته، فهو من ناحية يضع البرامج المناسبة لأن يندمج هؤلاء الموهوبون فيها لتنمية مواهبهم، وفي معرفة ما يناسبهم من التخصصات والمسارات التعليمية والنشاطات الإبداعية التي تعمل على صقل تلك المواهب وتنميتها. ولا شك أن هذه البرامج وتلك الأنشطة تحتاج إلى موارد مالية ليست بالقليلة ورغم ذلك فإن على المجتمع أن ينفق عليها بسخاء؛ لأن هذه النفقات ستعود أضعافًا مضاعفة بما يقدمه المبدعون والموهوبون من اختراعات وأفكار ومبادرات وحلول تساهم مساهمة فعالة في تقدم مجتمعاتهم وأوطانهم وإحلالها المحل المناسب في سلم التطور والتقدم والإنجاز.
2- المواهب طبعها الاختلافُ، فهي أبعد ما تكون عن التشابه والتكرار، وسرُّ تميزها هو ذلك التفرد والبعد عن القوالب المألوفة النمطية، ولذلك كان من المهم جدًّا أن يكون بين أصحاب تلك المواهب تآلفٌ وتكاملٌ وتآزرٌ وتعاونٌ لا أن يكون بينهم تعارض أو تناقض أو تصارع، حتى يساهم كل موهوب في الجانب الذي هو موهوبٌ فيه، بحيث تمثل هذه الجهود تيارًا عامًّا يساهم في نهضة المجتمع وتقدمه وترقيته، فالمجتمع يحتاج إلى كل موهوب، كلٍّ في مجاله، أن يسهم بقدر ما يستطيع من جهد في إفادة مجتمعه ونفعه بحيث تمثل تلك الجهود نهضة عامة وإرادة مجتمعية في تجويد حياة الناس وربطهم بالأهداف العليا والقيم السامية والمقاصد النبيلة التي تعمل عملها الفعال الإيجابي في حياة الناس والمجتمع.
3- ويرتبط بهذا أن تُفتحَ السبلُ الممكنة والطرق الممهدة وتُتاحَ الوسائل المعينة لأن يجد كل موهوب بعد اكتشافه أو قبل اكتشافه الطريق أمامه ميسرًا لأن يعرف ما يلزم ليطور مهاراته ويزيدها صقلا ويكسبها قدرةً على الإنجاز والفاعلية والاستمرارية في الإنجاز والإبداع، فإن هؤلاء الموهوبين ثروة علمية يجب المحافظة عليها والترحيب بها وتسهيل العقبات أمامها، وليس من اللائق أبدًا ولا من مصلحة المجتمعات والأمة، أن يضع بعض أفراد هذا المجتمع، لأسباب خفية أو ظاهرة، العقبات أمام تلك المواهب تحت دعاوى شتى؛ لتعطيلها وتحجيمها وتقزيمها أو التقليل منها، فإن الثقافة المجتمعية تجاه الموهوبين من الأهمية بمكان: فإن كانت ثقافة مُرحبة سعيدة بهم أخذت منهم أحسن ما عندهم، وإن كانت لا ترحب أو لا تهتم بهم أو تعمل على تعطيلهم تحت دعاوى مختلفة، شعر هؤلاء الموهوبون المبدعون بأنهم غرباء عن أهلهم منبوذون من أوطانهم، مما يجعل المجتمع يفقد جهود خِيرة أبنائه وقد كان كلُّهم طموح وأمل أن يرحب بهم مجتمعهم أو على الأقل ألا يقف حجر عثرة في طريقهم.
4- إن استكشاف المواهب والعمل على رعايتهم وإبرازهم أمام الفرد والمجتمع وإلقاء الضوء على مزاياهم وعلى الآمال المعلّقة عليهم والإنجازات المرتقبة منهم، كل هذا يجعلهم قدوة أمام الناشئة الذين هم عدة الأوطان والمجتمعات في المستقبل؛ ليتخذوهم قدوة لهم ينهجون نهجهم ويسيرون سيرهم ويتغلبون على الصعاب كما تغلبوا ويحافظون على مواهبهم وعلى ما حباهم الله من نعم وفضل كما حافظوا ويعملون أن يكونوا منجزين منتجين فاعلين كأمثال هؤلاء الموهوبين، ولا يخفى أهمية القدوة للأفراد والمجتمعات، فلا يخلو مجتمع من القدوات، وإنما تتمايز المجتمعات والأوطان بقدر سمو القدوات وتنوعها وإنجازها السامي الراقي في نواحي الحياة المختلفة، وخاصة أننا نعيش في زمن قد تشوهت فيه مفاهيم القدوة والاقتداء تشوّهًا كبيرًا حتى أصبح مفهوم القدوة مضطربًا عند كثير من الناشئة؛ لأنه أصبح تُقدّم نماذجُ على أنها قدوة وهي أبعد ما تكون عن القدوة والاقتداء بها، ومن ثمّ كان من المهم جدًّا إلقاء الضوء على القدوات الحقة أمام الناشئة حتى يقتدوا بها ويُعرضوا عما سواها وإن ادعو أنهم قدوة ونماذج لغيرهم.
5- إذا كان الموهوبون ينالون المكانة العالية والمنزلة المستحقة عند أفراد مجتمعهم، وهذا من حقهم على مجتمعاتهم، فإنّه بالمقابل على هؤلاء الموهوبين أن يستشعروا مسؤولياتهم تجاه أنفسهم ومجتمعهم وأفراده، فإن الغُنم بالغرم والخراج بالضمان والحقوق أمام الواجبات، لذا فإن عليهم أن يستشعروا دورهم في إنهاض هذا المجتمع قدر استطاعتهم وهذا واجب كفائي إن لم يكن واجبًا عينيًّا على كل واحد منهم، ومن ثم عليهم ألا يضيعوا مواهبهم وملكاتهم فيما لا يفيد وألا يضيعوا الأوقات سدىً دون فائدة ودون العمل على اكتساب ما يفيد مواهبهم وينمِّيها، فإن لم يفعلوا هذا بكل جدٍّ واجتهادٍ فإنهم ما قاموا بحق مواهبهم ولا بحق مجتمعاتهم عليهم، كما أن عليهم أن يعلموا أنهم بمجتمعاتهم لا بانفرادهم وانعزالهم، ومن ثم عليهم أن ينظروا إلى هذا المجتمع وأفراده نظرة تقدير واحترام: فاحترامٍ باحترامٍ وتقديرٍ بتقديرٍ، وعليهم أن يعلموا أنهم أبناء هذا المجتمع فلا يتكبروا ولا يستطيلوا على أفراده مهما أحرزوا من تقدم أو إنجاز، كما عليهم أن يوطنوا أنفسهم على أن الصعاب أو المضايقات التي قد يلاقونها في مسيرة حياتهم، هي من الأمور العادية التي لا تزعجهم أو تثنيهم عن طريقهم المأمول، بل إنهم يجعلون ذلك سبيلًا لأن يصمّموا ويثابروا على العمل من أجل النجاح والإنجاز والوصول إلى ما يطمحون ويؤمنون به من قيم سامية وأخلاق عالية، وإسداء وردًّا لبعض فضل مجتمعاتهم عليهم.
والخلاصة أن السنُّة النبوية المشرفة قد اهتمت باستكشاف المواهب ورعايتها، كما يتضح في هذا الحديث الشريف، بداية من استكشافها وإلقاء الضوء عليها وتمهيد السبل المختلفة لتنميتها وصلقها والعمل على تمكينها حتى تكون هذه المواهب فعالة ونشيطة ومساهمة في نهضة المجتمعات والأوطان، ومن ثم تكون قدوة صالحة ونماذج مشرفة أمام الناشئة ليكونوا على نهجها في الإنجاز والفاعلية والإيجابية، ومقابل هذا فإن على تلك المواهب أن تعترف بفضل المجتمعات والأوطان، وأن تعامل أفرادها بكل ود واحترام، وترى أن إنجازها من إنجاز الأوطان والمجتمعات ومسيرتها من مسيرتها، وتاريخها من تاريخها وتقدمها من تقدمها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد