بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مُقتَرَحُ خُطبَة الجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ مِن شَهرِ رمضَانَ، وَدُرُوسُ هذا الأُسبُوعِ، وَدُرُوسُ النِّسَاءِ:
1- عِبَادَاتُ المُتَّقِينَ فِي رَمَضَانَ.
2- كَيْفَ الوُصُولُ إلى عِبَادَاتِ المُتَّقِين؟.
الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: لِبَيَانِ صِفَة عِبَادَاتِ المُتَّقِينَ، وُكَيْفِيَّة الوُصُولِ إِلَيْهَا، وَالتَّأَسِّي بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ.
مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:
أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فقد حدد القرآن الكريم الهدف الأعلى، والمقصد الأسمى من فريضة الصوم.
فقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
ونحن في هذا الموسم العظيم: شهر رمضان، وهو موسم ربح عظيم لأهل الإيمان، ولا يضَيِّع هذا الموسِمَ إلا خاسرٌ، ولا يقعد عن المنافسة فيه إلا شقي حائر؛ لأن ثمرة الاجتهاد في هذا الموسم: هي التحصل على ذلك الكنز العظيم، والفضل الكبير؛ ألا وهي تقوى الله تعالى؛ فلابد من شحذ الهمم، والأخذ بكل سبيل يوصل إلى تقوى الله تعالى.
فالتقوى هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين.
كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ..﴾ وهي صفة الأولياء والصالحين.
قال الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ لذلك سوف نستعرض بإذن الله تعالى في هذه الخطبة بعضًا من عبادات المتقين حتى نقتدي بهم ونسيرَ على دربهم؛ عسى اللهُ أن يَمُنَّ علينا ويجعلنا منهم.
أولًا: الإيمانُ بالغَيْبِ.
فإن أول عبادة للمتقين ذُكِرَت في القرآن الكريم: هِي الإيمانُ بالغَيْبِ.
قال الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...}
فإن الإيمان بالغيب: بُنِيَ عليه دينُ الإسلامِ؛ فما أركان الإيمان الستة إلا إيمانٌ بالغيب إلا القرآن الكريم فإنه بين أيدينا.
والإيمانُ بالغَيْبِ: من أجلِّ الأعمال وأفضلِها على الإطلاق.
يقول ابن القيم رحمه الله: *والإيمان بالغيب أجل المقامات على الإطلاق.*
والإيمانُ بالغَيْبِ: يُؤَثِّرُ في المسلمين تأثيرًا عظيمًا، ويورِثُ في القلوب توجُّهًا وإقبالًا على الله تعالى والدار الآخرة، وبه يستقيمُ العبد، وفيه راحة للنفوس وطمأنينة في القلوب، وهو من أعظم بواعث التقوى والورع، وأن صومَ شهرِ رمضانَ لهو دليلٌ واضحٌ على حسن إيمان العبد، ويقينه بالغيب، وأنه ينتظرُ الجزاء من الله تعالى على صومه، وأن هناك جنة، وهناك نار، وأن في الجنة بابًا يقال له الريان أعده الله تعالى للمتقين والصائمين.
كما في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون".
ثانيًا: المُسَارَعَةُ إلى الخَيَرَاتِ.
إن من أسمى سمات عبادات المتقين، ومن أعظم ما يميزهم عن غيرهم في العبادات أنهم سبَّاقون إلى الخيرات مسارعون إلى الطاعات.
كما قال الله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغفِرَة مِّن رَّبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ}.
ولقد كان إمام المتقين وسيد المرسَلين صلى الله عليه وسلم سبَّاقًا إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وسريعًا في طاعة الله تعالى.
فقد ضرب أروع الأمثلة، وأعلاها في ذلك؛ كما في صحيح البخاري عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعًا فتخطى إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته؛ فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته! فقال: "ذكرت شيئًا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته".
وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: "أمرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أن نتصدَّق، ووافق ذلك مالًا عندي، فقلتُ: اليومَ أسبقُ أبا بكرٍ، إن سبقتُه يومًا، قال: فجئتُ بنصفِ مالي، قال: فما أبقيتَ لأهلكَ؟ فقلتُ: مثلَه، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: يا أبا بكرٍ، ما أبقيتَ لأهلك؟، فقال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه"؛ [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وهذا الحسن رحمه الله يقول: (من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في الدنيا فألقها في نحره).
وقال وهيب بن الورد رحمه الله: (إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل).
ثالثًا: الصِّيَامُ.
فإن الصيامَ صفةٌ ملازِمَةٌ للمتقين، وعبادةٌ لا ينفكون عنها؛ فهي سببٌ لوصولِهِم لتقوى الله تعالى.
كما قال الله تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}.
ولقد أخفى الله تعالى أجر الصائمين لأنه عمل خفي بين المتقين وربهم سبحانه.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَملِ ابنِ آدَمَ يُضَاعفُ الحسَنَةُ بِعشْر أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائة ضِعْفٍ، قال اللَّه تعالى: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وأَنا أَجْزي بِهِ: يدعُ شَهْوتَهُ وَطَعامَهُ مِنْ أَجْلي، لِلصَّائم فَرْحتَانِ: فرحة عند فطره، فَرْحةٌ عِنْدَ لقَاء رَبِّهِ، ولَخُلُوفُ فيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ريحِ المِسْكِ".
ولقد حافظ المتقون على صيامِهِم من كل فعل أو قول يخدشُ صيامَهُم ممتثلين أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذا كَانَ يوْمُ صوْمِ أَحدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ".
رابعًا: إقامة الصلاة، والخشوع فيها.
فإن من أجلِّ عبادات المتقين وأعلاها قدرًا ومكانة وفضلًا: إقامة الصلاة على وقتها، وحضور القلب فيها، والخشوع عند الوقوف بين يدي رب العالمين.
فقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى عبادات المتقين، وذكر منها أنهم يحافظون على صلواتهم.فقال تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} فهم يحافظون عليها في أوقاتها ويتمون الركوع والسجود مع الخشوع فيها؛ فهي قرة عيونهم.
كما كان سيدُ المتقين وأمامُهم صلى الله عليه وسلم يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))؛ [صححه الألباني]
ومن فضائل شهر رمضان: أنه يعود المسلم على المحافظة على الصلاة على وقتها؛ بل الأمر أعظم من ذلك فهو يجعله يحافظ على قيام الليل والتراويح في بيوت الله تعالى، فهو والله، فرصة عظيمة، ومنحة ربانية؛ ينبغي للمسلم ألا يضيعها حتى يكون من المتقين.
خامسًا: قيامُ الليل.
فإن قيامَ الليل: هو لذة المتقين، وقرة عيونهم، وراحة نفوسهم، وهو سنة الأنبياء والمرسلين، وهو بستان العابدين، وتجارة الفائزين الرابحين، وثمرة نفوس الخاشعين، وهو طريق المعالى ونيل الدرجات العلى في جنات النعيم.
ولذلك حافظ عليه المتقون؛ فقاموا يتهجدون في ظلام الليل بين يدي الله الكريم، تركوا لذة النوم ولذة الفراش الدافئ المريح طلبًا لما عند الله تعالى.
فجاء القرآن الكريمُ بالثناء عليهم ومدحهم، فقال ربنا سبحانه وتعالى: {إِنَّ ٱلمُتَّقِينَ فِي جَنَّت وَعُيُونٍ * ءَاخِذِينَ مَا ءَاتَاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كَانُواْ قَبلَ ذَٰلِكَ مُحسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلا مِّنَ ٱلَّيلِ مَا يَهجَعُونَ * وَبِٱلأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ}.
ووصف لنا ربُّنا سبحانه وتعالى حالَهم، فقال سبحانه: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُم عَنِ ٱلمَضَاجِعِ يَدعُونَ رَبَّهُم خَوفا وَطَمَعا وَمِمَّا رَزَقنَٰهُم يُنفِقُونَ * فَلَا تَعلَمُ نَفس مَّا أُخفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُن جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ}.
ولقد كان سيدُ المتقين وإمامُهم صَلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، وكان يقوم في رمضان.
كما وصفت لنا أم المؤمنين عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها فقالَتْ: "ما كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولَا في غيرِهِ علَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا"؛[صحيح البخاري].
ولقد ضرب لنا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في قيام الليل حتى أنهم وهم فى الغزوات والحروب لا يتركون قيام الليل؛ فهذا عبادُ بنُ بشر رضي الله عنه يصلى قيام الليل حتى وهو فى الجهاد.
فعن جابر رضى الله عنه قال: (لما عدنا من غزوة ذات الرقاع نزلنا منزلًا فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن رجُلٌ يَكْلؤُنا؟" فانتَدبَ رجلٌ منَ المُهاجرينَ، ورجُلٌ منَ الأنصارِ، فقالَ: "كونا بفَمِ الشِّعبِ"، قالَ: فَلمَّا خرجَ الرَّجُلانِ إلى فَمِ الشِّعبِ اضطجعَ المُهاجريُّ، وقامَ الأنصاريُّ يصلِّي، وأتى الرَّجلُ؛ (يعنى من العدو) فلمَّا رأى شخصَهُ (أي عباد رضي الله عنه) عرفَ أنَّهُ ربيئةٌ للقومِ، فرماهُ بسَهْمٍ فوضعَهُ فيهِ فنزعَهُ، حتَّى رماهُ بثَلاثةِ أسهمٍ، ثمَّ رَكَعَ وسجدَ، ثمَّ انتبَهَ صاحبُهُ، فلمَّا عرفَ أنَّهُم قد نذَروا بِهِ هربَ، ولمَّا رأى المُهاجِريُّ ما بالأنصاريِّ منَ الدَّمِ، قالَ: سُبحانَ اللَّهِ ألا أنبَهْتَني أوَّلَ ما رمى؟! قالَ: كنتَ في سورةٍ أقرَؤُها فلَم أحبَّ أن أقطعها)؛ [صححه الألباني[.
ومن أعجب ما جاء عن السلف في القيام؛ ما جاء عن ثابت البناني رحمه الله قال: (اللهم إن أذنت لأحد أن يصلى في قبره فإذن لثابت أن يصلى في قبره).
فهذه هي أخبار القوم؛ فتشبهوا بالرجال إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح.
سادسًا: الدُّعَاءُ.
فإن الدعاءَ: من أظهر صفات المتقين، ومن أسمى سماتهم فهم لا ينفكون عنه، ولا يتركونه، كما كان حال سيدِ المتقين وإمامِهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الدعاء هو مفتاح الخيرات، وبه تستجلب الرحمات، وبه تدفع النقم والبلايا والرزايا.
وإن للدعاء صلة عظيمة بشهر رمضان.
كما أخبر عنها الرحمن سبحانه حين قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُواْ لِي وَليُؤمِنُواْ بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ} فقد جاءت هذه الآية في وسط آيات الصيام؛ لنعلم أن الصيام والدعاء قرينان.
فاحرصوا يا عباد الله، على الاجتهاد في الدعاء في رمضان؛ فلعل الله أن يتقبل منا دعوةً تكونُ فيها نجاتنا في الدنيا والآخرة.
وطوال شهر رمضان يعظم الدعاء ويكون أرجى للإجابة، وفي ليلة القدر يزداد الدعاء.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني"؛[ورواه الترمذي، وصححه الألباني].
سابعًا: تلاوة القرآن الكريم.
فإن لشهر رمضان خصوصية بالقرآن عظيمة؛ ولم لا وهو الشهر الذى نزل فيه القرآن.
قال الله تعالى: {شَهرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ٱلقُرءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰت مِّنَ ٱلهُدَىٰ وَٱلفُرقَان..}.
ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأن مع القرآن في رمضان.
كما في الصحيحين عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القران).
وفي رواية: (وكان يعارضه القرآن في كل عام مرة، وفى العام الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه جبريلُ القرآن مرتين). بل كان صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره، وكان يبكي عند سماعه.
كما في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضى الله عنه، قال: قالَ لي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيَّ"، قُلتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قالَ: "فإنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِن غَيرِي"، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ النِّسَاءِ، حتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، قالَ: أمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
وكان صلى الله عليه وسلم كثير القراءة للقرآن؛ حتى أنه كان يقرأ وهو على راحلته.
كما في صحيح البخاري عن عبدالله بن مغفل رضى الله عنه، قال: (رَأَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ وهو علَى نَاقَتِهِ أوْ جَمَلِهِ، وهي تَسِيرُ به، وهو يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ، أوْ مِن سُورَةِ الفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ وهو يُرَجِّعُ).
وكان صلى الله عليه وسلم شديد التأثر بالقرآن إذا سمعه، أو قرأه.
فعن عبدالله بن الشخير رضى الله عنه قال: (رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وفي صدرِه أزيزٌ كأزيزِ الرَّحى مِنَ البكاءِ)؛ [صححه الألباني].
وهكذا كان المتقون الأوائل من الصحابة رضى الله عنهم، والتابعين رحمهم الله، ومن سار على نهجهم مع القرآن الكريم.
فهذا عثمان بن عفان رضى الله عنه عاش حياته مع القرآن حتى أنه قتل رضى الله عنه وهو يقرأ القرآن؛ فقد قالت زوجته رضى الله عنها لمن أرادوا قتله عندما دخلوا عليه: *اقتلوه أو دعوه فو الله لقد كان يحيي الليل بالقرآن فى ركعة*.
وهذا قتادة رحمه الله: كان يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان يختم كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة.
وهذا أبو بكر بن عياش رحمه الله لما حضرته الوفاة؛ بكت أخته، فقال لها: *ما يبكيك؟! انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها القرآن ثمانية عشر ألف ختمة*.
نسأل الله العظيم أن يوفقنا للباقيات الصالحات، وأن يجعلنا من عباده المتقين.
الخطبة الثانية: كَيْفَ الوُصُولُ إلى عِبَادَاتِ المُتَّقِين؟
أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فإن الوصولَ إلى عبادات المتقين ليس بالأمر الصعب فلقد بلغها أناس كثيرون؛ فما عليك أخي الكريم إلا أن تأخد بأسباب الوصول إليها والتوكل على الله تعالى، والله وحده هو الموفق والمعين سبحانه.
وإليك بعض أسباب الوصل إلى عبادات المتقين.
أولًا: عليك باللجوء إلى الله تعالى.
فإن اللجوء إلى الله تعالى، وطلب العون منه سبحانه من أعظم أسباب الوصول إلى المراد.
ولقد كان سيد المتقين وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم يطلب العون من الله دائمًا ويسأل ربه التوفيق والعون؛ فكان من دعائه: :"اللهم آت نفسي تقواها"؛ [رواه مسلم].
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم أيضًا: "اللهم إني اسألك التقى والهدى والعفاف والغنى".
وكان يقول أيضًا: "اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"؛ [صححه الألباني].
ثانيًا: عليك بتعظيم شعائر الله تعالى.
فإذا عظَّم العبدُ شعائر ربه فحافظ على الصلاة في أول وقتها، وعظم أمر الصيام فحفظه من اللغو والرفث، وعظم شأن سائر شعائر الله تعالى؛ كان ذلك سببًا فى الوصول إلى عبادات المتقين.
قال الله تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ}.
ثالثًا: عليك بمصاحبة أهل الصدق المتقين.
فإذا صحِبَ العبدُ أهلَ التقوى تأثر بهم فتعلم منهم، واقتدى بهم، وسار على نهجهم، وأقتفى أثارهم.
قال الله تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّدِقِينَ} .
رابعًا: عليك بمطالعة سير المتقين وأخبارهم.
فإن القراءة في سير المتقين من الأنبياء والصالحين، ومن تبعهم؛ ترفع الهمم، وتدفع العبد إلى أن يكون مثلهم في عباداتهم وتقربهم إلى الله تعالى.
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .
خامسًا: عليك بتعلم العلم النافع.
فإن العلم النافع: يرشد صاحبه ويدله على الخير، ويزيد من خشيته لله تعالى، ويزيد من معرفة العبد لربه سبحانه وتعالى، ويرفع الجهل عنه.
قال ابن القيم رحمه الله: *كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع، والعمل الصالح وهما الهدى ودين الحق*.
سادسًا: عليك بالإكثار من ذكر الآخرة.
فإن ذكر الآخرة: يحيي القلوب ويوقظ النفوس من غفلتها؛ فبذكرها يقف العبد على حقيقة الدنيا وحقارتها فيدفعه ذلك لتقوى الله تعالى.
نسأل الله العظيم أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من عباده المتقين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد