بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ليلة القدر أشرف ليلة في السنة ليلة مباركة ولها فضل عظيم في الشرع قال تعالى: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بإذن رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ{. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". متفق عليه. وهذا في تكفير الصغائر أما الكبائر فلا بد من التوبة منها بخصوصها.
ولهذه الليلة خصائص عظيمة من نزول الملائكة وكثرة الخيرات والبركات وسلامتها من الشرور والآفات وتقدير مقادير الخلق وتضعيف العمل الصالح فيها وتكثير ثوابه وغير ذلك من المزايا العظيمة.
وقد كانت ليلة القدر معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ثم أخفاها الله عز وجل عن عباده لحكم كثيرة منها اجتهاد المسلمين في العبادة حتى يدركوها عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ يُخْبِرُ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّه تَلَاحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، التَمِسُوْهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ". رواه البخاري.
والصحيح أن ليلة القدر تكون في العشر الأواخر من رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التَمِسُوها في العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ". متفق عليه. والصحيح أنها تتنقل من ليلة لأخرى في كل سنة وآكد الليالي التي تتحرى فيها ليالي الوتر ليلةُ إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين وآكدها ليلة سبع وعشرين كما صحت بذلك الأخبار وهذا اختيار التابعي أبي قلابة الجرمي ونصره جماعة من المحققين وهو مقتضى الجمع بين دلالة الأحاديث الصحيحة. وأما القول بتحديدها في ليلة معينة ثابتة كل سنة لا تنتقل فقول ضعيف مخالف للأحاديث الصحيحة.
ويستحب للمؤمن أن يكثر في ليالي العشر من هذا الدعاء: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". قالت عائشة رضي الله عنها: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِن عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُوْلِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العفْوَ فاعْفُ عنِّي". رواه الترمذي. أما ما اشتهر عند بعض الجهال من تخصيص أدعية خاصة لكل ليلة من العشر فبدعة لا أصل له في الشرع.
وقد ذكر العلماء علامات كثيرة لليلة القدر من اعتدال الجو وسكون الريح ونزول المطر وانشراح الصدر ونباح الكلاب وانقطاع النجم وعذوبة البحار وانتشار الأنوار وغير ذلك ولكن الذي ثبت في السنة علامة واحدة تظهر بعد انتهاء الليلة: وهي أن تخرج الشمس في صبيحتها صافية لا شعاع لها كالطست لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه مرفوعا: "وَأَمارَتُها أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيْحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا". رواه مسلم. وأما باقي العلامات فقد وردت في أحاديث ضعيفة لا تثبت.
والذي يظهر لي أنه لا فائدة كبيرة من المبالغة في تحري تعيين ليلة القدر وإشغال العامة به لأن الله أخفاها عنا لنجتهد في العمل طيلة العشر وهذه حكمة جليلة أرادها الله وهي خير لنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ". قال ابن رجب: (وإنما رجا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك خيرا لأن إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله أو أوتاره في طلبها فيكون سببا لشدة الاجتهاد وكثرته). ولأن تعيينها أمر ظني ليس بقطعي تختلف فيه الأنظار. ومهما غلب على ظن المرء أن هذه الليلة هي ليلة القدر فهو أمر خاص به لا يركن إليه غيره من المسلمين ولا يترتب عليه عمل لأنه أمر قد أخفي عن هذه الأمة وقد اختلف الصحابة في تحديدها. وإذا اطلع المؤمن على علامة أو رأى قرينة لليلة القدر أو رأى رؤيا حسنة تدل عليها وسكنت نفسه إلى اجتهاد فليحمد الله وليكتم ولا يعمم رأيه ويمتحن الناس به كأنه وحي أوحي له. وطريق الرؤيا بعد انقطاع الوحي أمر ظني لأنه لا يقطع بصحة الرؤيا إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وقد انقطع الوحي بعد موته فالمؤمن يستأنس به ولا يجزم به. ولذلك الأولى للمؤمن أن ينصرف شغله وهمه إلى الاجتهاد بالعمل الصالح في سائر الليالي ليعمل باليقين ويوافق ليلة القدر.
فينبغي للمؤمن أن يجتهد في هذه الليالي العشر خاصة في الأوتار منها بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر قالت عائشة رضي الله عنها: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ". رواه مسلم.. وإذا اجتهد العبد سائر ليالي العشر محتسبا للثواب مصدقا بالوعد محسنا الظن بربه فهو مدرك ليلة القدر بلا شك وفضل الله واسع. وليست العبرة في معرفة هذه الليلة وتحديدها إنما العبرة في الاجتهاد والإخلاص فقد يجهل الإنسان هذه الليلة وهو من المقبولين المرحومين فيها وقد يعرفها وهو من المحرومين فيها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد