كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى البحث عن التوفيق


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

اتقوا الله عباد الله، واستعدوا للقائه؛ فإنه يقول: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[العنكبوت: 5].

عباد الرحمن: إن من أعظم وسائل تحقيق الافتقار للعزيز الغفار جل جلاله البحثَ الصادق عن التوفيق، والعملَ لاستجلابه.

وهذا باب واسع، ويجمعه علمه وعقد قلبه بأن عُقَدَ الأمور وحلَّها، ومقاليدها وملكوتها هو بيد رب العالمين، فيعمل بقلبه وجوارحه على إرضائه حتى يسدِّدَه ويوفِّقه، ويمنحه ويعطيَه، ويرفعه ويهديَه، ويدفع عنه الأذى قبل نزوله، ويرفعه بعد حُمِّه ووقوعه.

وقد ذكر الإمام ابن القيم جملة وصايا نافعة نفيسة هي خلاصة علمه وتجرِبته ونصحه؛ فقال تحت قاعدة أصل التوفيق:

قاعدة: أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذٍ أن الحسنات من نِعَمِهِ فتشكره عليها، وتتضرع إليه ألَّا يقطعها عنك، وأن السيئات من خِذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يَحُول بينك وبينها، ولا يكِلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك.

وقد أجمع العابدون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكل شر فأصله خذلانه لعبده، وأجمعوا أن التوفيق ألَّا يكِلَك الله نفسك، وأن الخذلان أن يُخلِّيَ بينك وبين نفسك، فإذا كان كل خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد.

ومِفتاح التوفيق الدعاء والافتقار، وصدق اللجأ، والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاحَ، فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضلَّه عن المفتاح، بقِيَ باب الخير مُرتجًا دونه.

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا أُلهِمتُ الدعاء فإن الإجابة معه.

وعلى قدر نية العبد وهِمَّتِهِ ومراده ورغبته في ذلك، يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هِمَمِهم وثباتهم، ورغبتهم ورهبتهم، والخِذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم، وما أُتِيَ من أُتِيَ إلا من قِبَلِ إضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفِر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار والدعاء، ومِلاكُ ذلك الصبرُ، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطِعَ الرأس فلا بقاء للجسد.

وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوة القلب والبعد عن الله، وقد خُلقت النار لإذابة القلوب القاسية، وأبعْدُ القلوب من الله القلبُ القاسي، وإذا قسا القلب قَحَطَتِ العين.

وقسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة، كما أن البدن إذا مرِض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرِض بالشهوات لم تنجَع فيه المواعظ.

ومن أراد صفاء قلبه، فَلْيُؤْثِرِ الله على شهوته، فالقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها، والقلوب آنِيَةُ الله في أرضه، فأحبُّها إليه أرقُّها وأصلُبها وأصفاها.

ومن أشْغَلَ قلبَه بالله والدار الآخرة، جال قلبه في معاني كلام الله وآياته المشهودة، ورجع إلى صاحبه بغرائب الحِكَمِ وطُرَف الفوائد، وإذا غُذِّيَ القلب بالتذكُّر، وسُقِي بالتفكُّر، ونُقِّيَ من الدَّغَلِ، رأى العجائب، وأُلْهِمَ الحكمة.

وليس كل من تحلَّى بالمعرفة والحكمة وانتحلها، كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيَوا قلوبهم بقتل الهوى، وأما من قتل قلبه فأحيا الهوى، فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه.

وخراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذِّكْرِ، وإذا زهِدتِ القلوب في موائد الدنيا، قعدت على موائد الآخرة، وإذا رضِيَت بموائد الدنيا، فاتَتْها تلك الموائد.

والشوق إلى الله ولقائه نسيم يهُبُّ على القلب، يروح عنه وَهَج الدنيا، ومن وطَّن قلبه عند ربه، سكن واستراح، ومن أرسله في الناس، اضطرب واشتدَّ به القلق.

هذا ولا تدخل محبة الله في قلبٍ فيه حب الدنيا، إلا كما يدخل الجمل في سَمِّ الإبرة[1]، وإذا أحب الله عبدًا اصطنعه لنفسه، واجتباه لمحبته، واستخلصه لعبادته، فشغل همَّه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بعبادته[2]، والقلب يمرَض كما يمرض البدن، وشفاؤه في التوبة والحِمْيَة، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذِّكْرِ، ويَعْرَى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن وطعامه وشرابه العلم[3] والمحبة والتوكل، والإنابة والخدمة.

وإياك والغفلةَ عمن جعل لحياتك أجَلًا، ولأيامك وأنفاسك أمَدًا، ومن كل ما سواه بد[4].

ومن توكَّل على الله ووثِق بتدبيره له، وحسن اختياره له، فألقى كنفه بين يديه، وسلَّم الأمر إليه، ورضِيَ بما يقضيه له، استراح من الهموم والغموم والأحزان، ومن أبي إلا تدبيره لنفسه، وقع في النَّكد والنَّصَب، وسوء الحال والتعب، فلا عيش يصفو، ولا قلب يفرح، ولا عمل يزكو، ولا أمل يقوم، ولا راحة تدوم.

والله سبحانه سهَّل لخلقه السبيلَ إليه، وحَجَبَهم عنه بالتدبير، فمن رضِيَ بتدبير الله له، وسكن إلى اختياره، وسلَّم لحُكْمِه، أزال ذلك الحجاب، فأفضى القلب إلى ربه، واطمأن إليه وسكن.

والمتوكل لا يسأل غير الله، ولا يرُدُّ على الله، ومن شُغِلَ بنفسه شُغِلَ عن غيره، ومن شُغِلَ بربِّه شُغِلَ عن نفسه.

والإخلاص هو ما لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه، ولا عدوٌّ فيُفسده، ولا يُعجب به صاحبه فيُبطله.

والرضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام، والناس في الدنيا مُعذَّبون على قدر هِمَمِهم بها، وللقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها، ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية:

فالسافلة: دنيا تُزيِّن له، ونفس تحدِّثه، وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها.

والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده، والقلوب جوَّالة في هذه المواطن.

واتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد، فإن اتباع الهوى يُعمي عن الحق معرفة وقصدًا، وطول الأمل يُنسي الآخرة، ويصُدُّ عن الاستعداد لها.

ولا يشم عبدٌ رائحةَ الصدق وهو يداهن نفسه أو يداهن غيره، وإذا أراد الله بعبد خيرًا جعله معترفًا بذنبه، ممسكًا عن ذنب غيره، جوَّادًا بما عنده، زاهدًا فيما عنده وعند غيره، محتمِلًا لأذى غيره، وإن أراد به شرًّا، عَكَسَ ذلك عليه.

والهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء: تتعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة لمنَّة تزداد بملاحظتها شكرًا وطاعة، وتذكُّرًا لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلَّقت الهمة بسوى هذه الثلاث، جالت في أودية الوساوس والخَطَرات.

ومن عشِق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده، فصيَّرته من خَدَمِها وعبيدها وأذلَّته، ومن أعْرَضَ عنها نظرت إلى كِبَرِ قدره، فخدمته وذلَّت له.

وإنما يُقطَع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسَيْرِ الليل، فإذا حادَ المسافر عن الطريق ونام الليل كله، فمتى يصل إلى مقصِده؟![5].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

[1] أي: أن محبة الله تطرد محبةَ الدنيا والإخلاد لها والركون إليها بنسبةٍ وتناسب، فعلى قدر تلك المحبة يكون نصيبها وسلطانها ومكانها وحيزها من القلب، طردًا وعكسًا، ولعل هذا مراد المؤلف إذ قصد حيزًا في القلب لا يجتمعان فيه، أو أنه قصد كمال أحدهما، أما عموم القلب فقد يجتمعان، فالقلب متشعب، وللإيمان شُعَبٌ قد يتخلف بعضها لضعف القلب وقصوره وتقصيره، ولضده كذلك، لكن ليست من النواقض، فقد يكذب، لكن لا يُبطِن الكفر، وقد يغدر لكن لا يشرك شركًا أكبر، وهكذا، وهي جادة أهل السنة خلافًا للوعيدية من الخوارج والمعتزلة، وكذلك المرجئة من الكلابية والأشاعرة والماتريدية، وغيرهم الذين جمعتهم بدعة القول بأن الإيمان كتلة واحدة لا تتجزأ، فجنح الوعيدية للحكم بخلوده في النار - قالت الخوارج بكفره في الدنيا، وقالت المعتزلة بأنه في منزلة بين المنزلتين، واجتمعوا في حكم الآخرة أنه من الخالدين في جهنم، أما الوعدية المرجئة فجنحوا لضد ذلك فحكموا بنجاة وفلاح كل من كان في قلبه معرفةٌ لله أو تصديقٌ، ولو فعل من المكفِّرات ما فعل، وكلها أقوال باطلة للوعيدية والوعدية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فهدى الله أهل السنة لما اختلف الناس فيه بإذنه فقالوا: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه شُعَبٌ، منها ما يزول الإيمان بزوالها كالتوحيد، ومنها ما ينقص بنقصها كالبر والصلة، وعليه فقد يُجامع النفاقُ الأصغر كالكذب والغدر أصلَ الإيمانِ في القلب، أما الأكبر فمُحْبِطٌ للإيمان جملة، كذلك الشرك والكفر، فهي تحبط الإيمان وتنقضه، كما يُحبِط الحدثُ الطهارةَ؛ وتدبَّر حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"؛ [رواه البخاري في الأدب المفرد (1/ 209)، وصححه الألباني].

[2] في الأصل *بخدمته*، ولو قال: بعبادته بدلًا عن خدمته، كان أولى وأحسن، فهي لم تُعرَف عن السلف، وإنما عُرِفت عن بعض كتب أهل الكتاب ثم تلقَّفها المتصوفة، كذلك فلفظ العبادة هو اللفظ والتسمية الشرعية، وفيها غِنًى وكفاية، ولا يقوم غيرها عنها، مهما تكلفوا البلاغة، وتنطَّعوا الكَلِم.

[3] في الأصل *المعرفة*، ولفظ المعرفة ورد في التنزيل: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾[المؤمنون: 69]، وقوله: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾[النحل: 83]، وقد وردت السُّنَّة به كذلك؛ كما في حديث معاذ رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن، كذلك في حديث الرؤية: "فيأتيهم الله عز وجل في صورته التي يعرفون"؛ [رواه البخاري (7437)، ومسلم (182)]، أما الجادة المشهورة فهي العلم.

[4] أي: في التوكل على الله كفاية وغناء عن غيره.

[5] الفوائد لابن القيم (1/ 99-100، 141-142، 154، 225-226) باختصار وتصرف يسير.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply