نظرة سبينوزا إلى الإسلام


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

لم يكتب سبينوزا (1677م) كثيرًا عن الإسلام، لكن الشذرات والإشارات التي كتبها عنه تدل على موقف متناقض وعلى عدم معرفة حقيقية وواعية به، ولا تدل على وقوفه على خلفيَّة علميَّة عنه أو استقائه عن مصادر موثوقة، مع قرب عهده وسهولة حصوله على معرفة جيدة بالإسلام.

ومن الكتب التي اطلع عليها سبينوزا؛ كتاب (حي بن يقظان) الذي ألفه ابن الطفيل، وأعجب كثيرًا بهذه القصة التي ترجمت إلى اللاتينية عام 1671 على يد إدوارد بوكوك، وحصد إعجاب فلاسفة التنوير كلايبنتز وجون لوك، الذين وجدوا فيها كثيرًا من الأفكار التي تلتقي مع رؤيتهم الفلسفيَّة للحياة والدين والمجتمع.

تأثر سبينوزا -بطريقة غير مباشرة كما يبدو- بكثير من تعاليم الإسلام النقديَّة، نقد التراث الإسلامي للكتاب المقدس، خصوصًا ما كتبه العلامة ابن حزم، حيث تسربت له تلك الأفكار النقديَّة عن طريق العالم اليهودي ابن عزرا المفسر الذي قرأ تراث ابن حزم، وعن طريق ابن عزرا تعرف الغربيون على نقد الكتاب المقدس، ومنهم سبينوزا الذي نقل عنه صراحة.

ومن التعاليم القرآنية التي تسربت إلى سبينوزا؛ تصوير إبراهيم عليه السلام كمؤمن لا ينتمي إلى اليهودية ولا إلى المسيحية، حيث ميز سبينوزا إبراهيم تمييزًا خاصًا يسمح له بأن يكون لديه إيمانًا حقيقيًّا بالله من دون أن يكون يهوديًا؛ لأن الله بحسب نظرته لم يوجد بعد أمة وأبناء إسرائيل.

ومع ذلك، فإن سبينوزا عاش في أوروبا في وسط أجواء عدائية تجاه الإسلام، ويمكن أن يتم إسقاط الشخص بمجرد اتهامه بقربه من الإسلام أو تشابه تعاليمه مع تعاليم الإسلام، فتلك تهمة استخدمت كثيرًا في أوروبا كسلاح للحروب الطائفية بين الطوائف المسيحية، وبين المثقفين أنفسهم لإسقاط بعضهم بعضًا!

فمثلًا: انتقد لامبرت دو فيلتهوزن (1685م) سبينوزا انتقادًا شديدًا، ومن ضمن انتقاداته: أنه يعلم الإلحاد وأن مناقشاته تنتهك سلطة الكتاب المقدس بأكمله من ناحية، ومن ناحية أخرى تتبنى رفع القرآن إلى مستوى كلام الله، ولم يقدم حجة واحدة لإثبات أن محمدًا لم يكن نبيًا حقيقيًا، بل يمدح المسلمين لتوقرهم الفضائل الأخلاقية وفقًا لأمر نبيهم.

وحاول سبينوزا تبرئة نفسه بالتهجم على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ضد الدين الطبيعي، لكنه عاد وقال: *لكن إذا أجاب أحدٌ بأن محمدًا قام أيضًا بتعليم الشريعة الإلهية، وقدم علامات مؤكدة لرسالته، كما فعل الأنبياء الآخرون، فلن يكون هناك حقًا سبب يدفعه إلى إنكار أنه كان نبيًا حقيقيًا.*

ثم يعقب سبينوزا على قضية المسلمين واحترامهم لفضائل الأخلاق، فيقول للامبرت دو فيلتهوزن إن المسلمين *إذا كانوا يعبدون الله من خلال ممارسة العدالة والإحسان تجاه جيرانهم، فأنا أعتقد أن لديهم روح المسيح وسيخْلَصون.*

وفي جدال دار بين سبينوزا وألبرت بورغ، ذلك الذي تحول إلى مذهب الكنيسة الكاثوليكيَّة وصار مغاليًا في المنافحة عنها، أخذ سبينوزا في انتقاده ومهاجمة نظام الكنيسة الكاثوليكيَّة، وأنَّها أكبر مؤسسة لتضليل وخداع الناس واضطهادهم وإجبارهم على الدخول في دينها.

ويربط سبينوزا مقدار سوء تلك الكنيسة الكاثوليكيَّة بسوء *الكنيسة المحمدية* كذا! التي يزعم أنها اضطهدت وقهرت الناس، ويستدل على قهر الإسلام للناس بأنَّ *الكنيسة المحمدية* لم يحدث فيها منذ نشأتها أي انقسامات أو انشقاقات أو فرق ومذاهب!

وواضح أنَّ أدنى معرفة بتاريخ الإسلام ونشأته توضح أنَّ خلفية سبينوزا المعرفية عن الإسلام كانت ضئيلة جدًا، إذ لا يسع من له أدنى معرفة بالإسلام أن يقول مثل ذلك، لا من ناحية مزاعم اضطهاد الإسلام للناس لدخول الدين، ولا من ناحية أنه لم يحصل انشقاقات أو انقسامات داخل الإسلام.

وبعض الباحثين يفسر هجوم سبينوزا على الإسلام، مع قلته واختلاطه بمدح مبطن، أنه كتب في وسط مليء بروح العداء للإسلام، وأنه استخدم الإسلام لمهاجمة الكاثوليكيَّة أساسًا، كما فعل كثيرٌ من فلاسفة التنوير كفولتير، الذين هاجموا الكاثوليكيَّة متسترين بشعار الإسلام الذي يكرهه الأوروبيون.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply