إخراج زكاة الفطر نقدًا لا يجزئ


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

إخراج زكاة الفطر نقدًا لا يجزي على الصحيح وبيان ذلك من وجوه:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجها طيلة حياته طعامًا من قوت أهل البلد وإخراجها نقدًا مخالف لفعله وقوله فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ". متفق عليه.

وقد كان النقد موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود حاجة الفقراء إليه فعدوله عنه وأمره بإخراجها طعامًا يدل على اشتراطه في زكاة الفطر ولم ينقل أنه رخص أو خير بين الطعام والنقد. ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة المطلقة من مال أو عرض مجزئ لقال: على كل مسلم صدقة ولكنه قصد عبادة مالية لها صفة شرعية مقيدة بإخراج طعام يكال من قوت أهل البلد ففرضها صاعًا من طعام وهذا المعنى كان واضحا عند أصحابه الذين تلقوا عنه وتمسك به أهل الحديث المتبعون للأثر.

الثاني: أن تجويز إخراجها نقدًا يعد من معارضة السنة بالرأي وتقديم قول الرجال على السنة قال أبو طالب: (قال لي أحمد: لا يعطي قيمته. قيل له قوم يقولون: عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ بالقيمة. قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان؟ قال ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال الله تعالى: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ{. وقال: قوم يردون السنن: قال فلان: قال فلان). وقال أبو داود: (قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطي دراهم يعني في صدقة الفطر؟ قال: أخاف ألا يجزئه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم). وقال صالح بن الإمام أحمد: (قلت: قوم يقولون: الطعام أنفع للمساكين. وقوم يقولون: الخبز خير؟ فكرهه أبي وقال: توضع السنن على مواضعها قال الله تعالى: }فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا{. ولم يأمرنا بالقيمة ولا الشيء نعطي ما أمرنا به. وحديث ابن عمر: "فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير". فيعطي ما فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقال: لم يلتفت أبو سعيد ولا ابن عمر إلي قيمة مقوَّمة). فلا عبرة بقول العالم مهما كانت منزلته إذا خالف السنة الصحيحة الصريحة ولذلك أنكر علماء أهل الحديث على أهل الرأي لما قدموا رأيهم وقياسهم على دلالة الأحاديث الصحيحة.

الثالث: إخراجها نقدًا مخالف لمذهب الصحابة رضي الله عنهم حيث استقر عملهم على إخراجها طعامًا اتباعا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح عن أحد منهم أنه أخرجها نقدًا فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صاعًا مِنْ أَقِطٍ". متفق عليه. واستمر هذا العمل عهد الخلفاء الراشدين وخلافة معاوية رضي الله عنهم حتى انقضى زمن الصحابة وهم على هذه السنة المحفوظة متفقون على إخراجها طعامًا فلو كان في الأمر سعة لترخص الصحابة في إخراجها نقدًا في بعض الأحوال. وأما قول معاذ بن جبل رضي الله عنه لأهل اليمن: (ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة). فهو أثر منقطع لا يصح العمل به لأن طاوس لم يسمع معاذا قال علي ابن المديني: (لم يسمع طاوس من معاذ بن جبل شيئا). وقال أبو زرعة: (وطاوس عن معاذ مرسل). وقال الدارقطني: (طاوس لم يدرك معاذا). وفي متنه نكارة كما نقده البيهقي وفسره الشافعي بالجزية وقال ابن قدامة: (وحديث معاذ الذي رووه في الجزية بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتفريق الصدقة في فقرائهم ولم يأمره بحملها إلى المدينة وفي حديثه هذا: فإنه أنفع للمهاجرين بالمدينة). ومع ذلك فهو أثر وارد في زكاة المال أما زكاة الفطر فعبادة مستقلة ومغايرة لزكاة المال في صفتها ووقتها ومصرفها ومقصدها فلا تلحق بها كما فرق بينهما الإمام أحمد بن حنبل. وأيضًا لو صح الأثر فلا يستدل به في زكاة الفطر لأنه مخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين. وأما عمل الخليفة معاوية رضي الله عنه في جعله نصف صاع من الحنطة الشامية يعدل صاعًا من تمر المدينة فلا حجة فيه على جواز دفعها نقدًا من ثلاثة وجوه:

الأول: أنه لم ينقل الزكاة من الطعام إلى النقد وإنما قدر نصف صاع من حنطة الشام عن صاع من طعام المدينة فخفف المقدار في قمح الشام لأنه يرى أنه أجود من طعام المدينة ولو كان إخراج النقد جائزا عنده لعدل إليه ورخص فيه.

الثاني: أن مذهبه اجتهاد منه رضي الله عنه وهو مخالف للحديث ولا حجة في قول الصحابي إذا خالف النص. ونظيره ما في الصحيحين اجتهاده رضي الله عنه في استلامه الأركان الأربعة في طوافه بالبيت فخالفه ابن عباس رضي الله عنهما وبين له أن السنة هي الاقتصار على استلام الحجر الأسود والركن اليماني وقال له: (‏لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ‏صلى الله عليه وسلم ‏يَسْتَلِمُ ‏غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ). وفي رواية أحمد في مسنده: (فقال ابن عباس: "لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ". فقال معاوية: صدقت).

الثالث: قد خالفه غيره من الصحابة فتمسك بالصاع النبوي والصحابي إذا خالفه غيره من الصحابة لم يحتج بقوله قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ، أَبَدًا مَا عِشْتُ". رواه مسلم. وأخذ به الإمام الشافعي: (ولا يخرج من الحنطة في صدقة الفطر إلا صاع).

الرابع: زكاة الفطر طعامًا شعيرة عظيمة من شعائر الدين الظاهرة شرعت لحكم ومصالح من أعظمها ظهور التكافل الاجتماعي للفقراء ورحمة الأغنياء وتربية الأهل والعيال على تعظيمها والحرص على أدائها وهذا متحقق في إخراجها طعامًا أما إخراجها نقدًا لا سيما عن طريق التحويل البنكي فيضعف هذه الشعيرة في نفوس المسلمين ويغير معالم هذه العبادة. وقد شرعت هذه الشعيرة على صفة شرعية فوجب التقيد بها وعدم تبديلها فالأبرأ لذمة المسلم أن يحتاط لدينه ويلزم الجادة ولا يخاطر فيترخص بقول فلان ويعرض عبادته لعدم القبول.

الخامس: قولهم أن إخراج زكاة الفطر نقدًا أصلح للفقير فيه نظر من ثلاثة وجوه:

الأول: لا يعرف مصلحة الفقير أحد أحكم وأعلم وأرحم من الشارع الحكيم قال تعالى: }وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ{. وقال تعالى: }وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{. فالله الذي شرع زكاة الفطر طعامًا أعلم بمصلحة الفقير من نظرنا القاصر. وأنظار الناس تختلف في تحقيق المصلحة الظنية فإذا تملك الفقير الطعام فهو بالخيار إن شاء أكله أو ادخره أو باعه وتمتع بقيمته. ومن أراد الصدقة بالنقد على الفقير فهذا متيسر في الزكاة وصدقة التطوع طيلة السنة.

الثاني: أنه لا مصلحة مع وجود النص الشرعي فهي فاسدة الاعتبار ومخالفة لمقصود الشارع لأن الله تعبدنا بهذه العبادة على هذه الصفة الشرعية إخراجها طعامًا ولم يتعبدنا بتحقيق المصلحة وإنما النظر والاجتهاد في تحقيق المصالح في أمر لم يرد فيه النص أو أمر ورد فيه التخيير. ومن تعبد الله بهذه العبادة على غير الصفة التي شرعها الله فهو ليس متبعا للشرع ولن يقبلها الله منه لأنها على خلاف ما شرعه الله ورسوله قال الإمام مالك: (ولا يجزئ الرجل أن يعطي مكان زكاة الفطر عرضا من العروض. وليس كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الإمام الشافعي: (‌ولا ‌يؤدِّي ‌قيمته). وقال ابن المنذر: (لا يجوز ذلك بحال). ولو فتحنا المجال للرأي في تحقيق مصلحة الفقراء في العبادات المالية لغيرنا شعائر الدين من الأضحية والكفارات وسائر حقوق الناس. والدين مبناه في العبادات والقرب على التسليم والاتباع وليس على الرأي والاستحسان قال علي رضي الله عنه: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأيِ لَكَانَ أَسفَلُ الخُفِّ أَوْلَى بِالمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَمسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيهِ". رواه أبو داود.

الثالث: أن المقصد من زكاة الفطر في يوم العيد هو إطعام الفقراء الذين لا يجدون قوتا وإغنائهم عن السؤال كما ورد في الخبر: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ". رواه أبو داود. وروي في سنن الدارقطني: (أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ). والقوت من أعظم ضروريات الحياة والإطعام من العبادات الشرعية التي ورد التنصيص عليها في الكفارات وغيرها فلا ينبغي إلغاؤها أو التزهيد بها. وليس المقصد من زكاة الفطر هو تحقيق الغنى للفقير وسد حاجياته المعيشية مدة طويلة كما يراعى هذا المعنى في زكاة المال ولذلك قدرها الشارع بطعام يسير يسد حاجته يوم فرح المسلمين ولو استبدل الطعام مالا لكان يسيرًا لا يكفي لحاجة عام أو أشهر ففرق بينهما.

والحاصل أن إخراج زكاة الفطر نقدًا وإن قال به قلة من الفقهاء فهو قول شاذ لا يلتفت إليه وهو مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين وعمل الصحابة. ومن أخرجها نقدًا لم تصح منه ولا تبرأ ذمته بذلك. والصحيح هو ما ذهب إليه فقهاء أهل الحديث وجمهور الفقهاء من اشتراط إخراجها طعامًا وهم أسعد بالدليل. فلا تتساهل أخي المسلم في دينك ولا تفرط في شعيرتك وتمسك بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لتصح زكاتك وتنال كمال الأجر وتبرأ ذمتك ويبارك الله في صدقتك وإياك واتباع الرأي فإنه ينزع البركة من عملك ويفسد عبادتك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply