من مات فقد قامت قيامته


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

يقول الله عز وجل: ﴿يسألك الناسُ عن الساعةِ قل إنما علمها عند الله وما يُدريك لعلَّ الساعةَ تكون قريبًا﴾[الأحزاب:63] قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: *يسألك الناس يا محمد عن الساعة، متى هي قائمة؟ قل لهم: إنما علم الساعة عند الله، لا يعلم وقت قيامها غيره، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبًا، يقول: وما يشعرك يا محمد لعل قيام الساعة يكون منك قريبًا، قد قرب وقت قيامها، ودنا حين مجيئها.*

فما بقي من الساعة شيء قليل بالنسبة لما مضى منها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أجلكم -في أجل من خلا من الأمم- ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس"[أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: مدة هذه الأمة بالنسبة إلى مدة الدنيا من أولها إلى آخرها لا يبلغ قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس بالنسبة إلى ما مضى من النهار، بل هو أقل من ذلك بكثير.

ويدل عليه صريحًا: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى بهم صلاة العصر يومًا بنهار، ثم قام خطيبًا، فلم يدع شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، فذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: قال: وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه" قال الترمذي: حديث حسن.

وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، قال: كنّا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، والشمس على قُعَيقعان بعد العصر، فقال: "ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقى من النهار فيما مضى منه" انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا كله يدل على أن ما بقي بالنسبة إلى مضى كالشيء اليسير، لكن لا يعلم مقدار ما مضى إلا الله تعالى، ولم يجئ فيه تحديد يصح سنده عن المعصوم، حتى يصار إليه، ويعلم نسبة ما بقى بالنسبة إليه، ولكنه قليل جدًا بالنسبة إلى الماضي.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: معناه أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس إلى بقية النهار.

والساعة يسبق وقوعها أشراط وعلامات، قسمها أهل العلم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: قسم ظهر وانتهى، الثاني: قسم ظهر ومازال يكثر، الثالث: قسم لم يظهر إلى الآن.   

والأشراط والعلامات التي لم تقع ليست ببعيدة، قال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: قد وجد مبادئ وأوائل قرب الساعة، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم نبي الساعة، وهو الذي تقوم الساعة على أمته... وعلاماتها الكبار إلى الآن لم تاتِ، وغير بعيد أن تقع...

وقال الامام عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله: أشراط الساعة الكبار لم تقع وستقع، ويغلب على الظن أن زمانها ليس ببعيد، زمان خروج المهدي وخروج الدجال ونزول المسيح ليس ببعيد والله أعلم؛ لأن الدنيا قد كثر فيها الشر، وانتشر الكفر بالله والمعاصي والمخالفات.

ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن جعل للساعة علامات وأشراط قبل وقوعها من أجل يستعد الناس ويتوبوا إلى الله، قال الإمام القُرطُبي رحمه الله: قال العُلَماءُ رَحمِهمُ اللهُ تعالى: والحِكْمةُ في تَقديمِ الأشراطِ ودَلالةِ النَّاسِ عليها: تَنبيهُ النَّاسِ مِن رَقدَتِهم، وحَثُّهم على الاحتياطِ لِأنفُسِهم بالتَّوبةِ والإنابةِ؛ كَي لا يُباغَتوا بالحَولِ بينَهم وبينَ تَدارُكِ العَوارِضِ مِنهم، فيَنبَغي لِلنَّاسِ أن يَكونوا بَعدَ ظُهورِ أشراطِ السَّاعةِ قَد نَظَروا لِأنفُسِهم، وانقَطَعوا عَنِ الدُّنيا، واستَعَدُّوا لِلسَّاعةِ المَوعودِ بها. واللهُ أعلَم.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: الحكمة في تقديم الأشراط إيقاظ الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد.

وقال العلامة العثيمين رحمه الله: ولَمَّا كانَ هَذا اليَومُ عَظيمَ الأهوالِ شَديدَ الأحوالِ، قَدَّمَ اللهُ بينَ يَدَيه مِنَ العَلاماتِ والدَّلائِلِ ما يُبَيِّنُ به اقتِرابَه؛ ليُستَعَدَّ لَه ويُحذَرُ عَذابُه.

فينبغي الاستعداد فقيامة كل إنسان قريبة فكلّ من مات فقد قامت قيامته قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مذهب أهل السنة والجماعة ما دلّ عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها: الإيمان بالقيامة العامة التي يقوم الناس فيها من قبورهم لرب العالمين، ويجزي العباد حينئذ ويحاسبهم، ويُدخل فريقًا الجنة وفريقًا النار كما هو مبين في الكتاب والسنة. والإيمان مع ذلك بنعيم القبر وعذابه وبما يكون في البرزخ من حين الموت إلى حين القيامة من نعيم وعذاب، فالإنسان منذُ تُفارق روحُه بدنه هو إما في نعيم وإما في عذاب، فلا يتأخر النعيم والعذاب عن النفوس إلى حين القيامة العامة، وإن كان كماله حينئذٍ، ولا تبقى النفوس المفارقة لأبدانها خارجةً عن النعيم والعذاب ألوفًا من السنين إلى أن تقوم القيامة الكبرى، ولهذا قال المغيرة بن شعبة: أيها الناس! إنكم تقولون: القيامة وإنه من مات فقد قامت قيامته.

قال عبد الواحد بن الخطاب: سمعت زيادا النميري رحمهما الله ونحن في جنازة وذكروا القيامة، فقال زياد: من مات فقد قامت قيامته.

وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: كانت جماعة تقول: قيامةُ كُلّ نفس موتها.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كل من مات فقد دخل في حكم الآخرة، وبعض الناس تقول: *من مات فقد قامت قيامته*، وهذا الكلام بهذا المعنى صحيح. 

وقال العلامة ابن باز رحمه الله: أنت لا تدري متى تقوم قيامتك... كل من مات فقد قامت قيامته، فالقيامة قيامة صغرى وكبرى، فالكبرى يوم القيامة عندما يإذن الله بقيام الساعة، وينفخ في الصور، ويقوم الخلائق بين يدي الله جل وعلا، أما الموت فهو القيامة الصغرى، من مات فقد قامت قيامته، وهو حين ذلك إما أن يبشر بالجنة وإما أن يبشر بالنار عند خروج الروح. وقال العلامة الألباني رحمه الله: بعض الوّعاظ يقولون إن من مات فقد قامت قيامته وهذا صحيح لأنه بموته انتهى كل شيء فإما أن يكون سعيدا فسيلقى جزاء عمله الصالح أو شقيا فعلى العكس من ذلك.

وقال العلامة العثيمين رحمه الله: الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته، أنت إذا مت قامت قيامتك، لأنك غادرت الدنيا، وانتقلت إلى عالم الآخرة، إلى الجزاء، لم تبق من أهل الدنيا، وإن كان قبرك في الأرض، ومشاهد، لكن الواقع أنك أنت في الآخرة، ولهذا يقال من مات قامت قيامته.

فلنعجل بالتوبة إلى الله من جميع الذنوب فقيامة أحدنا موته، والموت ليس ببعيد، بل قد يكون لبعضنا أقرب قريب، قال ابن مسعود رضي الله عنه: الموت يأتي بغتة.

نسأل الله الكريم الرحيم أن يعفو عنا جميعًا وأن يتجاوز عنا، وأن يحسن خاتمتنا، إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply