كشف القناع عن بلاد الأحلام


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فلقد مرت على خَلَدي ذكريات قديمة، كنت دومًا أحتفظ بها لنفسي، ولكني وجدت فيها دروسًا وعِبَرًا قد تفيد القارئ، لا سيما الشباب الذين يفكرون بالسفر إلى بلاد الأحلام، وسمَّيتُها كذلك لانخداع كثير من الناس بها، وظهورها لهم بثوب الصلاح والإصلاح، بينما داخلها تعُجُّ بالفساد والظلام، وكذلك لأنه من السهل على القارئ معرفة أيَّ بلدٍ أقصد بهذا الاسم، فأرجو أن تكشف لهم هذه المذكِّرات الغطاءَ - أو بالأحرى القناع - عنها، وسأبدأ بيوم سفري إليها، ووصف عام لشكل الحياة فيها، وما يقوم به الفرد العادي هناك، ثم أذكر شيئًا من أوضاع النساء والأطفال.

تبدأ قصتي بيوم سفري الذي كنت أنتظره، مشاعر متضاربة تزور قلبي، وتتركني في حَيرة من أمري، ما بين الحزن والفرح، والغمِّ والمرح، وما بين هذا وذاك، لقد أنهيتُ إجراءات سفري ووصلت لمقعدي في الطائرة بسلام، وربطت الأحزمة، كنت قلِقة وأخشى المجهول، وكان أبي رحمه الله إلى جواري يدعمني بنظرات عينيه وتبسُّمه، وكأنه يقول لي لا تخافي، كل شيء سيكون على ما يرام، ثم ما هي إلا دقائق حتى تحركت الطائرة، وأقلعت واقتلعت معها قلبي من جذوره، وكنت أنتظر السفرَ وفرِحةً به للقاء زوجي، ولأذهب إلى بلد سمعت عنه الكثير، ورغم أني لم أسعَ للذهاب إليه، ووجدته واقعًا فُرِض عليَّ، ولكني كنت مستأنسة به؛ وذلك لِما سمِعت عنه في أحلام كثير من الشباب من تمنِّي الذهاب إليها، ووصلنا المدينة التي قابلنا فيها زوجي حفظه الله، ففرحت كثيرًا ونسيت مخاوفي، وتوكلت على الله، وودَّعت أبي، وواصلت الرحلة برفقة زوجي، كنت حينها كالطير الـمُغمَض العينين، الذي لم يَكَدْ أن يغادر عُشَّه من قبل، وشاء الله أن أذهب من ذلك العش إلى تلك البلاد البعيدة والغريبة عني.

وعندما وصلنا كنت عندها سعيدة ومتشوِّقة للنظام والتطور والتكنولوجيا والعلم المتاح للجميع، والحرية كما كنا نسمع عنها، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن كما يقولون، فما إن وضعت قدمي هناك، حتى شعرت بالبرد والبرودة في تلك البلاد، فالبرد من انخفاض درجة الحرارة فيها، وأما البرودة هناك، فهي شيء آخر يعرفه من عاش فيها، إنها برودة المشاعر والحياة، وبرودة الناس وعدم اهتمامهم بشيء سوى أنفسهم، وبرودة المجتمع؛ حيث لا حياة اجتماعية طيبة كالتي تعوَّدت عليها في بلاد المسلمين، فلا أحد يدعو أحدًا على مأدبة، ولا يجتمع الناس ليتسامروا ويتزاوروا، ولا يتهادَون أو يحب بعضهم بعضًا، كل تلك الصور المليئة بالمشاعر النبيلة والمحبة قد غابت هناك، ولم أعُدْ أراها أو أستمتع بها كما كنت في بلادي، وليس هناك تكافل اجتماعي أو تعاون بين الناس، فالكل ذاهب لعمله، ولا يلتفت لأحد، ولا يهمه غير نفسه وقرشه الذي يسعى لتحصيله، وإنْ مرِض شخص لا يزُره أحد، ولا يتفقده قريب ولا بعيد إلا ما ندر، وإن مات لا يعرف جاره عن موته إلا بعد أسابيع، فلا جار يتفقَّد جاره، ولا ولد يسأل عن والده الذي قضى عمره وصحته وماله في رعايته، فلم يجد منه بعد ذلك سوى الإهمال والتهرُّب، وربما يصل الأمر إلى نقل الابن والدَه إلى دار المسنين، وكأنه قطعة ثوب بالية ألقى بها في سلة النفايات، وراح يواصل لعِبه ولهوه دون أن يلتفت وراءه، وهذا هو حال معظم الكفار هناك، والله المستعان.

 وبعد هذا تجد برودة المجتمع هذه مغطاة بثوب الضغوط العملية، ومتطلبات الحياة القاسية، فالحياة فارغة ولا شيء فيها للمسلم الملتزم سوى العمل لكسب العيش، ويُضاف إليه العمل داخل المنزل؛ حيث لا توجد عمالة منزلية أو مساعدو البيوت، وإن وُجِدوا فإن تعيينهم يكلف الكثير من المال الذي يأخذ جلَّ المرتب أو نصفه، فلا يستطيع تعيينهم إلا الأغنياء لعلوِّ التكلفة، ويترتب على ذلك وقوف الإنسان بنفسه على جميع الأعمال المنزلية، بما في ذلك النظافة وغسل الصحون وغسل الملابس وكيُّها، وترتيب البيت والحديقة، ورعاية الأطفال، وغيرها من العمل الكثير المتعب، دون وجود من يمُدُّ يد العون، وليس ثمة أم هناك تساعد ولا خالة ولا أهل، فمعظم الناس هاجر هناك تاركًا عائلته في بلده، فيضطر أن يعيش متفردًا في حياته، وحيدًا مجهدًا كادحًا في أعماله دون مساعدة ولا راحة، يعمل كعمل العمال دون مقابل ولا يستطيع أن يرتاح.

 ورغم مساعدة الأزواج إلا أنه ما يزال هناك الكثير من العمل المنزلي الذي تقوم به الزوجات، وفوق ذلك على الأم منهن قيادة السيارة لأخذ أولادها للمدارس وإرجاعهم منها، مما يأخذ من وقتها الكثير، وتصير بمثابة السائق حتى ولو كانت من حملة الدكتوراة أو الماجستير، ولا تستطيع عادةً العمل لأجل هذه المشكلة، ولعدم أمان وسلامة طرق الترحيل الأخرى هناك؛ حيث *باص* المدرسة غير متاح لكل الطلبة، ويكلف مبلغًا ليس قليلًا شهريًّا، وبعد ذلك لا يوصل التلميذ أمام بيته، بل ينزله على بعد نصف ميل، ما يعرضه لخطر مجرمي الطريق وخاطفي الأطفال، وكلاب الجيران والمتشردين، وغيرها من المخاطر، فلا يكون وسيلة آمنة لنقل الصغار من وإلى المدرسة؛ ولذا تختار كثير من الأمهات سلامة أبنائهن على العمل، ومن تختار العمل من الزوجات لا تدري مدى الضرر الذي يصيب أطفالها، وكثيرًا ما تتحدث وسائل الأخبار عن الاعتداءات الجنسية على الأطفال وخطفهم أثناء غياب الأهل، وكذلك هناك حوادث الإدمان والانحراف الأخلاقي والديني والسلوكي للأطفال في عمر المراهقة وما بعدها، الذي يكثُر عند غياب الأهل وعمل الأم، وهذا بالإضافة إلى أن تكلفة الحضانة ومربيات الأطفال عالية جدًّا، وكذلك تكلفة شراء سيارة وتسجيلها، وتأمينها المفروض على الجميع، وصيانتها ووقودها، كل ذلك يستقطع الكثير من راتب الزوجة؛ مما جعل كثيرًا من الأُسَر - حتى من غير المسلمين - اختيار ترك الزوجة العمل لتقليل التكلفة.

وأما بالنسبة للأزواج، فإن العمل يأخذ معظم وقتهم؛ حيث يستمر الدوام من الثامنة أو التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً في الغالب، ولا بد للعامل منهم من إتقان عمله والدراسة المكثَّفة له ليكون على قدر الكفاءة المطلوبة، ويستطيع أن ينافس في سوق العمل الطاحن، ويحافظ على وظيفته، ثم تجد معظم المرتبات بالكاد تكفي لتغطية متطلبات الحياة، فكل شيء غالي الثمن، بما في ذلك الطعام والشراب والسكن، وهذه ضرورات الحياة الأساسية التي لا يستطيع الفرد تركها، ومع ذلك لا يستطيع تغطيتها كثير من العاملين؛ لغلائها بالنسبة لِما يُصرَف لهم من مرتبات؛ ولذا تجد من يفقد عمله هناك يصير من سكان الشوارع؛ لأنه لا يستطيع دفع تكاليف الإيجار وغيره، كما أنه إن مرِض لا يستطِع زيارة الطبيب، أو الحصول على دواء لعلوِّ تكاليف العلاج، وهذا خلاف من يفقد عمله في بلاد المسلمين، فإنه في الغالب يستطيع مواصلة حياته دون تغيير يُذكر؛ وذلك لانخفاض التكلفة، ومساعدة الناس والأهل، والجمعيات الخيرية والتكامل الاجتماعي.

ولا يوجد تراحم هناك، فمن لا يستطع أن يوفر ذلك لنفسه، فلن يوفره له أحد أو يساعده بشيء، وحتى الأقارب والأهل والجيران في تلك المجتمعات الكافرة لا يمدون يد العون في معظم الحالات، فهؤلاء رغم مسمياتهم لا يقفون مع المرء منهم في ساعة العسرة، فصداقتهم وقرابتهم زائفة، وخاوية لا مغزى وراءها ولا وزنَ لها، ثم تجد فوق ذلك حكم السلطة وتهكُّماتها تفوق التصور، وقد تحرم الإنسان حتى من أمواله وبيته، بل قد يفقد أطفاله أيضًا؛ حيث تترقب الآباء منظماتهم الاجتماعية، وما إن يلحظوا شيئًا ولو بسيطًا، إلا اتخذوه حجة ليأخذوا بها الطفل من والديه، ويجعلوه يتربى في أسوأ بيئة؛ ليفقد فيها دينه وحياءه ومعالم شخصيته الإسلامية؛ حيث يُعطَى الطفل لأسرة تتبنَّاه وتكون في الغالب ملحدة أو مسيحية بالمسمى فقط، فتعلِّم الطفل الكُفْرَ والزنا، والخلاعة والفجور، وتنسيه ما تعلمه من قرآن وعلم وأدب، وكثير من هؤلاء الأطفال تُساء معاملتهم، ويتعرضون للضرب من الأُسر التي تتبنَّاهم، وكثير منهم تعرضوا للاغتصاب والانتهاكات الجنسية، وكل هذا يحدث في تلك الدولة التي تدَّعي الحرية والعدل وحفظ حقوق الإنسان.

وفوق ذلك فإن العمل هناك يأخذ جُلَّ وقت الإنسان؛ حيث تتراوح الإجازة السنوية للفرد بين أسبوعين إلى ثلاث، وليس هناك إجازة خاصة بعيدي الفطر والأضحى، وعلى المسلم هناك أن يستقطعها من إجازته السنوية، وبعضهم لا يتمكن من حضور صلاة العيد التي هي أهم حدث في العيد، وفي بعض المناطق تكون هي العيد كله، فليس هناك أي طعم للعيد، ولا زيارات ولا أهل، ولا جيران ولا حياة، فيوم العيد يوم عمل عادي كبقية الأيام، ولا يستثنون المسلمين بِعِيدٍ كما يفعلون للمسيحي، وكثير من أماكن الترفيه فيها لا يناسب المسلمين.

ورغم أني حصلت على جوازها، فإنني لم أشعر يومًا بأنها بلدي أو أني أنتمي إليها، فتلك البلاد رغم كل ما تتمتع به من عمران وحدائق، وشوارع نظيفة، وتطور وخدمات، لم تستطع أن تحل محل بلدي الذي افتقدته هناك، ولا أن تعدل حَفْنَةً من ترابه الحنون، بلدي الذي يتواصل فيه الناس ويسأل بعضهم عن بعض، ويتراحمون ويساعدون غيرهم، ويتفقدون الجيران، ويزورون المرضى، ويُطعمون الطعام، فتلك ليست بلاد الأحلام؛ لأنها مظلمة لا نور فيها، جافة لا مشاعر، قاسية لا حنان فيها، وظالمة لا عدل فيها، غير عدل المظاهر الكاذب.

وقد كان سفري هذا منذ وقت بعيد، حينما كانت البلاد ما تزال أكثر التزامًا ببعض الآداب والنواحي الإنسانية، وتقدير حقوق الأطفال والآباء، وفيها شيء من حرية الرأي حتى ولو كان زائفًا، والآن هي في حال أسوأ من قبله؛ حيث فُتِح المجال للمثليِّين وغيرهم، وصارت حرية الرأي في طريقها للموت والانقضاء، وكشفت البلد عن قناعها الخبيث تحت مسميات الحرية والسلام ومساعدة الضعفاء، فأظهرت أنيابها الفتَّاكة التي تدعم بها جيوش أعداء الله، ونظامهم الدموي الذي يسمح بقتل الأطفال والمدنيين دون رحمة، وها هي اليوم ظهرت على حقيقتها، بعد أن خدعت العالم أجمع بادعاء العدل والسلام وحماية حقوق الإنسان، فأي حقوق هذه التي تتحدث عنها؟ لقد ظهر كذبها للعالم، وصار معظم الشعوب -مسلمهم وكافرهم- يقفون ضدها، وينادون بإيقاف إرهابها.

وهناك الكثير من المضايقات التي لم يسعْني ذكرها، ولكن أرجو أن ما ذكرته يكفي لإثناء من يفكر بالهجرة إلى هناك، ومن كان يهمُّه دينه وسلامة أطفاله فلن يتوانى عن مغادرتها، أرجو أن أكون قد أفدت بمقالي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلاد المسلمين، وينشر فيها الأمن والسلام.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply