الطريقة النموذجية لحفظ القرآن الكريم 2


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

أُسس حِفظِ القرآن الكريم

التقوى هي أساسُ التوفيقِ والهُدى:

حين يتأمَّلُ المؤمنُ آيات التقوى في كتاب اللهِ جلَّ وعلا. كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}. وقولهِ جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وقولهِ عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}. وقولهِ تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.

يعلمُ أنهُ بغير التقوى لن يقوى. وأنَّ التقوى هي أساسُ التوفيقِ والهدى، وأنها هي سببُ القبولِ والرضا. قال جلّ وعلا: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

وبعد التقوى. تأتي الاستعانةُ بالله جلَّ وعلا. ففي الحديث الصحيح: "استعن بالله ولا تعجز". والمعني أنه إذا صحَّت استعانتُك بالله جلّ وعلا. فلن يأتيك العجزُ بإذن الله.

وما جعلَ اللهُ هذه الآية العظيمةَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، واسطةَ العقدِ في أعظمِ سورِ القرآن الكريم.

ولا أوجبَ على المسلم أن يدعو اللهَ بها في كلِّ ركعةٍ من صلاتهِ، وبما لا يقلُّ عن سبعةَ عشر مرةً في اليوم والليلة. يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. إلا لأنَّ الاستعانةَ أمرٌ في غاية الأهميةِ، وضروريٌ جدًا لبلوغ كلِّ ما يريدهُ الانسانُ من خيري الدنيا والآخرة.

ولذا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه أن يقولَ دُبرَ كلِّ صلاةٍ: "اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسنِ عبادتك".

ثم ليحذر المسلم من الذنوب والمعاصي. فإنها شؤمٌ ومآسي.

خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى     ***     واصنع كماشٍ فوقَ أرض الشوك يحذرُ ما يرى

لا تحقرنَّ صغيرةً   ***     إنَّ الجبالَ من الحصى

ومن شؤم الذنوبِ والمعاصي حِرمانُ التوفيقِ ونسيانُ العلمِ.

شكوت إلى وكيعٍ سوءَ حفظي       ***     فأرشدني إلى ترك المعاصي.

وقال اعلم بأنَّ العلمَ نورٌ             ***     ونورُ اللهِ لا يُهدى لعاصي.

ومن غلبتهُ نفسهُ الامارةُ بالسوء. فتلوثَ بشيءٍ من أدران الذنوبِ والمعاصي. فعلية بكثرة الاستغفار، ففي الحديث القدسي: "يا ابنَ آدمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي".

وفي محكم التنزيل يقولُ العزيزُ الغفور: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

وفي صحيح البخاري يقولُ المصطفى صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ إِنِّي لاَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً".

إذن فأساس التوفيق لكل خيرٍ تقوى الله جلَّ وعلا، والاستعانةُ به تبارك وتعالى، وكثرةُ الاستغفار.

غير قناعاتك تتغير حياتك ومنجزاتك:

حين يتأملُ المسلمُ قولَ الحقِّ تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. يتساءلُ ما هو الشيءُ الذي إذا تغيَّر في نفس الإنسان، تتغيَّرُ معهُ حياتِه ونتائِجه ومُنجزاته. والجواب: إنه القناعاتُ. نعم أيُّها المبارك: غير قناعاتِك. تتغيرُ حياتك وتتغير نتائجك ومُنجزاتك. وتأمَّل قولَ الحقِّ جلَّ وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. لتعلم أنَّ الأصلَ في الانسانِ أنهُ خُلقَ لينجح (قناعةٌ إيجابية). إلا إذا استسلمَ للفشلِ ورضيَ به (قناعةٌ سلبية).

ذُكر أنَّ على بن أبي طالب رضي الله عنه، سُئلَ يا إمام، كيفَ تغلِبُ خُصومك؟ فقال: ذلك أني أُقدِرُ أني أهزِمُ خصمي، ويُقدِرُ هو أني أهزمُه، فأكونُ أنا ونفسهُ عليه. والمعنى أن لديه (قناعةً إيجابية)، بينما خصمهُ لديه (قناعةٌ سليبة).

وهناك مقولةٌ جميلة لأحد مُفكري الغرب تقول: "إن كنت تعتقد أنك تستطيع (قناعةٌ إيجابية)، أو كنت تعتقد أنك لا تستطيع (قناعةٌ سبية)، فأنت على حقٍّ في كلا الحالين. من فضلك أعد قراءة العبارتين.

ثم تذكر جيدًا: أن النجاحَ في أيِّ مجالٍ (ومن ذلك حفظُ القرآن الكريم) يحتاجُ إلى أمرين أساسينِ.

·       الأمر الأول: الثقةُ والاقتناعُ النفسيُّ التامَّ، بأنَّ اللهَ تبارك وتعالى قد منحَ كُلَّ انسانٍ من الطاقات والقُدرات ما يكفي (وزيادة) لكي يُحقِّقَ كُلَّ ما يُريدُهُ من أهدافٍ وغاياتٍ. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.

فمثلًا في مجال الحفظ: هناكَ دلائِلُ كثيرةٌ، ومؤشِراتٍ قويةٍ، تدلُ على أنَّ اللهَ تبارك وتعالى قد منحَ الانسانَ (العادي) طاقاتٍ عقليةٍ هائلةٍ جدًا. يستطيعُ بها أن يحفظَ كتابَ اللهِ كاملًا بكُلِّ سهولةٍ ويقينٍ، وبإتقانٍ شديد.

من هذه الدلائلِ والمؤشرات: حِفظُ الإنسانِ لما لا يُحصى من النصوص، والقصائد، والقصصِ، والأحداثِ، والمشاهدِ، والعناوينِ، والمعلومات، والأشكالِ، والوجوهِ، والأسماءِ، والصفاتِ، والكلماتِ، والمعاني، والتعابير، والأفكار، والتراكيب البيانية، والصورِ البلاغية، والشواهدِ الأدبية، والكم الهائل جدًا من الذكرياتِ القديمة والحديثة. (ولا شك أن من يحفظُ كُلَّ هذا لابد أن يكون لديه ذاكرةٌ ضخمة ٌجدًا).

ومن الدلائل: قُدرةُ الإنسانِ المذهلةِ على فهم المعاني بدقةٍ، والربطِ بين الأشياءِ المتناسقةِ، والتمييزِ بين الألوانِ المتقاربةِ، والتفريق بينَ الأصواتِ المتشابهةِ، والروائحِ المتداخِلة، والقدرةِ على تخمينِ الأبعادِ والأوزانِ والأحجامِ والمسافاتِ، والقدرةِ على تحديدِ الاختلافاتِ المكانيةِ والزمانية، وكذلك توقعِ واستنتاجِ بعضِ الأشياءِ الغائبةِ. (وكل واحدةٍ من هذه القدراتِ تحتاجُ إلى مخزونٍ هائلٍ من المعلومات).

ومن الدلائل: إتقانُ الإنسانِ للكثير من المهاراتِ المعقدةِ، كالكلام والقراءةِ والكتابةِ، والرسمِ والإنشادِ والإلقاءِ وسائرِ أنواعِ الألعابِ العقليةِ والبدنيةِ وهي كثيرةٌ جدًا. (وكل مهارةٍ منها تحتاجُ إلى مخزونٍ هائلٍ من المعلومات).

ومن الدلائل أيضًا: قدرةُ الإنسانَ العجيبةٍ على تكوين الاحلامِ أو الخيالاتِ ورؤيتها كمشاهد حقيقةٍ، تقولُ الدراسات أن حُلمًا قصيرًا (لعدة ثوانٍ) يحتاجُ في تكوينه إلى مساحةٍ تخزينيةٍ هائلةٍ جدًا.

وغير ذلك من الدلائل والمؤشراتِ الكثيرةِ والمتنوعة كلٌّ منها يدلُ على أنَّ الله تبارك وتعالى قد منحَ الانسانَ (العادي) طاقاتٍ وقدراتٍ عقليةٍ هائلةٍ وضخمةٍ جدًا.

كما أنَّ هناك قواعدَ عامةٍ ومسلمات (قناعات) يؤمنُ بها الجميع، يحسُن التذكير بها، من ذلك على سبيل المثال:

- ما هو ممكنٌ لغيرك ممكنٌ لك إذا بذلتَ نفسَ الأسباب.

- كُلُّ من سارَ على الدَّربِ وصل.

- إذا بذلَ الانسان كُلَّ ما في وسعه، فستُذهِلُه النتائج.

هذا فيما يتعلق بالثقة والاقتناع النفسي، (تكوُّن القناعات)، فلا بُدَّ أن يمتلكَ الانسانُ قناعةً نفسيةً إيجابيةً قويةً، وثِقةً ويقِينًا تامًَّا بأنه وبما أعطاهُ اللهُ من طاقاتٍ وامكانيات (كثيرةٍ)، يستطيعُ بإذن اللهِ أن يصلَ إلى هدفه (الحفظُ المتقن لكامل القرآن).

·       والأمرُ الثاني: أن يُتقنَ المهاراتِ والسلوكياتِ العمليةِ الخاصةِ بالمجال الذي يُريدُ النجاحَ فيه. إذ أنَّ لكل مجالٍ مهاراتٌ خاصةٌ به، وسلوكياتٌ عمليةٌ تساعد على بلوغه ينبغي إتقانُها جيدًا. وذلك من خلال التدريبِ المكثفِ، والممارسةِ الجادَّةِ ولفترةٍ تدريبيةٍ كافية.

ففي مجال الحفظ: لا بدَّ من اتقانِ المهاراتِ الخاصةِ بالحفظِ النموذجي، وكذلك المهاراتِ الخاصةِ بالمراجعةِ المثالية. وهذا ما سنفصِّلهُ (في الجزء الثالث) بإذن الله.

فمن فضلك لا تكمل القراءة حتى تفهم جيدًا ذانك الامرينِ الاساسينِ جيدًا.

الهمَّةُ طريقُ القمَّة

ثمَّ اعلم أخي الكريم: أنكَ في طريقٍ مباركٍ. ومشروعٍ عظيم. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

فاستفرغ الجُهدَ والطاقَةِ                   وعليك بعُلوِ الهمَّةِ، وقوةِ الإرادةِ

فعلى قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ          وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ

ومن تكُنِ العلياءُ همَّةَ نفسهِ               فكلُّ الذي يلقاهُ فيها محبَّبُ

ومن كانت له نفسٌ تواقةٌ                 طارت به نحو المعالي

ومن طلبَ العُلا سَهِرَ الليالي             وبقَدْرِ الكدِّ تُكتَسبُ المعالِي

ومن يتهيب صعود الجبال                يعِش أبدَ الدَّهرِ بين الحُفر

فكُن رجُلًا إن أتوا بعدهُ                  يقولونَ مرَّ وهذا الأثر

وما لم تكُن قد وهبتَ نفسك لغايةٍ عظيمةٍ وأهدافٍ جليلة فحياتُك لم تبدأ بعد.

فسابق نحو العلا، ونافس في المكرُماتِ، وزاحم قوافلَ العظماء، فبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى. وعلى قدر المؤونةِ تأتيك من الله المعونةِ، و{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. واعلم أن من ثبت نبت، ومن صبر ظفر، ومن جدَّ وجد، ومن زرع حصد، ومن سارَ على الدَّرب وصل. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

وتيقن أُخي المبارك: أنك لست بأقلَ من غيرك، ولا أبطأَ ممن سبقك، ولا أدنى ممن فاقك. فجهز أدواتك، ونظِّم أوقاتك، وحدِّد أولوياتك، وغير قناعاتك لتتغير حياتك ومنجزاتك. وركز تُنجِز، واستعن بالله ولا تعجز. وقُم وانطلِق إلى حيثُ تستحِق. وهيا لتكُون، أفضلَ ما يمكنُك أن تكون. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.

ثم اعلم وفقك الله أن الهمَّةَ هي طريقُ القمَّةِ، وهي طليعةُ الأعمالِ وبدايتُها، وهي الباعثُ عليها والمحركُ لها. والناسُ إنما يتفاوتونَ بتفاوتِ هِممِهم وعزائِمهم، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}. وكُلَّما عظُمتْ الِهمَّةُ، وارتفعتْ العزِيمةُ، اقتربَ الانسانُ من النجاح أكثر.

نعم أيُّها المبارك: كلُّ إنسانٍ بحسبِ همَّتهِ وعزيمتهِ. فمن اجتهدَ ورفعَ نفسهُ، علت وارتفعت. ومن قصَّرَ بها وأهملها، سفُلت وانحدرت. ولذا ينبغي للعاقل اللبيب، أن يهتمَ غايةَ الاهتمامِ بتقويةِ هِمَّتهِ، ورفعِ عزيمته. وواللهِ إنَّ الأمرَ يستحِقُ أن يضعَ لهُ الانسانُ جدولًا خاصًا، يملأهُ بالطاعات والقربات، والنوافل والأذكار والصدقات، وغيرها من الأعمال الصالحات. يتوسلُ بها إلى فاطر الأرض والسموات، عسى أن يُكرِمَهُ ربهُ. ويرزقهُ هِمةً في الخير عاليةً، وعزيمةً في معالي الأمور ماضية.

فمتى صلُحت همَّةُ المرءِ وعزيمتهُ، صلُحَ لهُ ما وراءَ ذلك من الأعمال. وزادَ حظُّهُ من المعالي والخيرات. وحقَّق بإذن الله ما يصبوا إليه من أهدافٍ وغايات.

 -كما أن من الأمور التي ترفع الهمَّةَ وتزيدُ الدافعيةَ لحفظ كتاب الله تعالى:

الحفظُ على يدِ شيخٍ قارئٍ مُربٍّ: حيثُ أن كلَّ من لهُ تجربةٌ ناجحةُ في حفظ القرآن يتفقُ على أن قراءة القرآن وحفظهِ على يدِ شيخٍ مُتقنٍ مُربٍّ أمرٌ في غاية الأهمية. ليس فقط لتصحيح القراءةِ والتأكُدِ من سلامة المحفوظِ لُغةً وتجويدًا. بل هو كذلك من أهمِّ وسائلِ الثباتِ وتقويةِ الدافعيةِ والاستمرارية: فالارتباطُ يقوي الانضباط.

ومن حسناتِ الشيخِ أنه يُتابِعُك ويُراعِيك، ويَنصَحُ لك ويُشيرُ عليك، ويُفيدُك من خِبراتهِ وتجارُبهِ وعلومه، يُقوِّمِ أخطاءك، ويُصحِحُ قراءتك. يُشجِعُك إذا تقدمت، ويدفعُك إذا تراخيت، ويُعاتِبُك إذا تماديت. فلا غِني لطالب القرآن عن شيخٍ يتابعهُ ويهتَّمُ به. جزا اللهُ مشايخنا عنَّا كُلَّ خيرٍ، وبارك في أعمارهم واعمالهم، ورفع قدرهم ومقامهم في الدنيا والآخرة، وتقبَّل اللهُ منَّا ومِنهُم.

 -ومن الأمور التي ترفع الهمَّةَ وتزيدُ الدافعيةَ لحفظ كتاب الله تعالى:

التنافسُ مع الأقرانِ. يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا عن نعيم الجنَّة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. ويقولُ جلَّ وعلا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}. وفي الحديث المتفقِ عليه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ حَسَدَ إِلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا".

وقد أظهرت دراساتٍ عِدّة، أنّ للمنافسة النزيهةِ دورٌ مُحفزٌ في رفع مُعدلِ الانضباطِ والتركيز، وأنها تدفعُ الانسانَ لبذلِ المزيدِ من الجُهد والعطاءِ، وتمنحهُ شعورًا إيجابيًا يُساعدهُ على تحقيق المزيدِ من الأداء الأفضلِ. بل وتجعلهُ أكثرَ تصمِيمًا على مُواجهة التحدياتِ والصُعوبات. وتزرعُ فيهِ رغبةً قويةً مُستديمة، نحو التَّميزِ والتَّحسُن.

فمتى تيسَّرَ للحافظ بيئةٌ تنافسيةٌ نزيهة، فسيُسهِمُ ذلك في تحقِيق إنتاجيةٍ أعلى من إنتاجيةِ البيئةِ التي تخلو من التنافس. لذا يقولُ الشاعر:

عن المرءِ لا تسأل وسل عن قرينهِ    ***    فكُلُّ قرينٍ بالمقارن يقتدي.

وكل هذا يُمكنُ أن يُوجدَ في بيئةِ حلقاتِ التحفيظِ ومقارئِ القرآن الكريم، حيثُ يجدُ فيها الحافظ بُغيتهُ من الشيوخ المتقنين، والأقرانِ المتعاونين.

وكم للحلقات من دورٍ كبيرٍ في ربط المسلم بكتاب الله عزَّ وجلَّ، والانشغالِ بمعالي الأمور، واستثمارِ الأوقاتِ في أحبِّ الأعمالِ إلى الله.

وكم للحلقات من أثرٍ واضحٍ في الانضباطِ وتقدُمِ الحفظِ، وزيادةِ الإتقانِ. إضافةً إلى الأجور العظيمةِ، والجوائزِ القيِّمةِ.

جاء في صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونهُ بينهم إلا حفَّتهم الملائكة، وتغشَّتهم الرحمة، وتنزَّلت عليهم السَّكينةُ، وذكرهم اللهُ فيمن عنده".

- ومن الأمور التي ترفعُ الهمَّةَ وتزيدُ الدافعيةَ لحفظ كتاب الله تعالى:

قراءةُ سِيرِ العُلماءِ والحفاظِ، وما وردَ عنهم من قَصصٍ وأخبارٍ. يقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. فلا شكَّ أن الاطلاع على سيرِ العلماءِ ومناقِبهم، ومعرفةُ أخبارِ الحفاظِ ومُنجزاتِهم، لا شكَّ أن لذلك فوائِدَ مُتعدِدةٍ، ومنافِعَ مُؤكدَةٍ، فهو يستنهِضُ الهِمم، ويُحرِكُ العزائِمَ، ويُزيلُ عن النفوس ما تراكَمَ عليها مِن غُبارِ الغفلةِ والتراخِي، وما علِقَ بها مِن شُؤمِ الذنوبِ والمعاصِي، فتنتعشُ بعد ذُبول، وتنشطُ بعد خمول.

كرر عليَّ حديثهم يا حادي. فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.

ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: سِيرُ الرجالِ أحبُّ إليَّ من كثيرٍ من الفقه.

ثم إن الانسانَ لن يُعدمَ أن يستفيدَ من تَجارُبِهم، وينهلَ من عُصارةِ أفكارِهم، ولو لم يكُن في قراءة سِيرهِم، إلا شرفُ الصحبةِ لكفى، فهم القوم لا يَشقى بهم جليسُهم؛ الرحمةُ تتنزَّلُ بذكرهم، ومن أحبَّ قومًا حُشرَ مَعهم.

ومن الكتب التي يُنصح بقراءتها في هذا الباب: كتاب *صفحاتٍ من صبر العلماءِ* للشيخ عبدالفتاحِ أبو غده، وكتاب *قيمةُ الزمنِ عند العلماء* لنفس المؤلف. وكذلك كتاب *علو الهمَّةِ *لمحمد إسماعيل المقدم، وكتاب *الهمَّةُ العالية* لمحمد إبراهيم الحمد. وكتاب *الهمَّةُ طريقٌ إلى القمَّة* لمحمد موسى الشريف.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يجزيهم عنا خير الجزاء، وأن يتقبَّل منَّا ومنهم.

وإلى اللقاء في الجزء الثالث.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply