النبأ العظيم


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الدكتور محمد عبدالله دراز رجل قرآني صميم ولا نكون مغالين - إن شاء الله - لو قلنا: إن أهل العصور لو فاخروا ببعض الكتب التي ألفت في عصرهم، وأحببنا أن نفاخر بكتب من عصرنا، لكان منها كتاب «النبأ العظيم».

يقول أحمد حسن الزيات: رجلان يُربكان الكاتب إذا حاول أن يكتب عنهما: رجل لا يستطيع أن يجد ما يقوله فيه، ورجل لا يستطيع أن يختصر ما يعرفه عنه.

ولا شك أن العلامة د. محمد دراز (1894 - ١٩٥٨) من الضرب الثاني، ويكفينا لمعرفة ضخامة هذه الشخصية أن اسمه قد اقترن بالقرآن والإنسان يأخذ من أنوار القرآن المجيد بحسب اتصاله به.

لقد كان العلامة الدكتور دراز دائم الاتصال بالوحي قرآنا وسنة.

أما القرآن المجيد، فيقول عنه صديقه العلامة الكبير الشيخ محمد أبو زهرة (ت: ١٩٧٤): *ثم يذهب كل منا إلى مضجعه بعد أن يؤمنا في صلاة العشاء، ولكنه هو يستمر في صَلَواتِه، كان يَتَخَفَّفُ من النوم، فكان نومه قليلًا کنوم الأنبياء، ثم يقوم الليل مُصليًا متهجدًا، أو قارئًا للقرآن، وكان له قد أخذ نفسه بقراءة سُدُس القرآن في كل يوم، وما كنت تراه إذا اخْتَلَى بنفسه إلا مُصَلِّيا، أو قارئا للقرآن*.

تلك هي حياة الشيخ: للقرآن، ومع القرآن، ولذلك أبقى الله ذكره، وأدام اتصال الناس جيلا بعد جيل بكتاباته ينتفعون بها، ويغترفون منها.

وأما السنة، فيقول هو عن نفسه: أروي (صحيح البخاري)، وجُل (صحيح مسلم)، من طريق شُيُوخنا المصريين قراءة منهم، وأنا أسمع.

وأما سائر كتب السنة فبالإجازة كتابة من عالم المغرب السيد محمد عبدالحي الكتاني المحدث المشهور عند اجتيازه للديار المصرية في طريقه إلى الحج، وبالإجازة والمناولة ومقابلة النسخ والقراءة للبعض والسماع للبعض الآخر من أستاذنا الكبير القارئ المحدث الأصولي الفقيه الأديب، الجامع بين أسانيد المشارقة والمغاربة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي نزيل مصر منذ أعوام.

ولد الشيخ عام (١٨٩٤) بمصر في قرية محلة دياي التابعة لمحافظة (كفر الشيخ)، والده هو الشيخ عبدالله دراز، عالم أصولي، تتلمذ لعدد من أعلام عصره، منهم الشيخ محمد عبده، والشيخ سليم البشري، والشيخ محمد بخيت المطيعي، وقد حقق وشرح «الموافقات»، لأبي إسحاق الشاطبي، وأشرف ولده على طباعته.

وكان الشيخ عبدالله دراز يأخذ منزله بآداب التقوى؛ يؤم أهله في صلاتي العشاء والفجر، ويقرأ صحيح البخاري في ليالي رمضان، ويسهر على تثقيف أبنائه، وتعويدهم على سنن الخير صلاةً وصيامًا وزكاة وحبًا للمعروف، وبعدًا عن الدنايا.

وقد أخذ عنه ولده شغفه بكتاب الله، فأخذ عنه ضرورة التلاوة لستة أجزاء منه كل يوم، وما ترك هذه العبادة يوما من الأيام، وما كنت تراه إلا قارنا للقرآن، وقراءة عالم مفكر مثله لهذا الورد اليومي، لابد أن تفتح عليه بما يضيء بصيرته، ويمده بأوفر الزاد الشهي.

حفظ الشيخ القرآن واستظهر بعض المتون العلمية الذائعة لوقته، ثم التحق بالأزهر الشريف، وكان متقدما في امتحاناته السنوية، ونال الشهادة العالمية عام (١٩١٦)، وعين مدرسا بالأزهر؛ لأنه الأول في ترتيب الامتحانات، وتعلم الفرنسية، وأتقنها في ثلاث سنوات.

سافر الشيخ إلى فرنسا عام (١٩٣٦) مع البعثة التي اختيرت للسفر، ومكث هناك أزيد من عشر سنوات وتحصل على درجة الدكتوراه في رسالته الشهيرة:
دستور الأخلاق في القرآن.

يقول الشيخ أبو زهرة: ولقد فارقنا الدكتور محمد عبدالله دراز إلى أوروبا كما فارقنا غيره، وأقام في فرنسا ما شاء الله أن يُقيم، وكانت إقامته أكثر من إقامة غيره أمدًا، وكانت أوفر إنتاجًا، فقد أقام فيها نحو اثنتي عشرة سنة، نال فيها أعلى الدرجات العلمية هنالك. ولقد عاد بعد هذه الرحلة الطويلة الشاقة المُجهدة، وتوقعنا أن نجد تغيرًا في مظهره أو ملبسه أو عاداته، أو تدينه، كما رأينا في بعض مَنْ ذهبوا وأقاموا بعض إقامته، ولكنا وجدناه كما تَرَكَنا خُلُقًا ودينا وإيمانًا، فأثبت بذلك سلامة جوهره، لأن جيد المعادن تجلوه التجارب وتصقله الحوادث من غير أن يفنى ويبلى.

ولقد ازداد استمساكًا بدينه، وتشددًا فيه، فزاد بهاءً ونورًا وجلالًا.

ويقول ختنه الدكتور السيد محمد بدوي: وكنت مع الطلبة العرب في باريس نلتمس في رحاب الأستاذ الجليل ما نحتاج إليه من رعاية في وقت الشدة، وكان هو يجمعنا في منزله في المناسبات الدينية والقومية ليشعرنا بما افتقدناه من جو عائلي بسبب بعدنا عن الأوطان. وكنا نجد عنده كرم الضيافة العربية، ونستمتع بأحاديثه ومناقشاته في شؤون الدين والعلم والسياسة. وكان الله لا يضيق بما نثيره من آراء متطرفة أحيانًا، بل يفندها بروح العالم المستنير، وفي سماحة ورحابة صدر، ولا يزال بنا حتى يقنعنا بوجهة نظره المستندة إلى البرهان العلمي والمنطقي

ولم تكن رحلته في فرنسا بالرحلة المترفة، بل قاسي الشيخ فيها، وتحمل يقول صهره الدكتور السيد بدوي عن رسالته دستور الأخلاق في القرآن الكريم وقد استغرقت كتابة هذه الرسالة ما يقرب من ست سنوات.

وتمت مناقشة الرسالة أمام لجنة مكونة من خمسة من أساتذة السوربون والكوليج دي فرانس في (١٥-١٢-١٩٤٧).

كان الشيخ يمثل الأزهر في العديد من المؤتمرات الدولية؛ فمنها كلمته عن «السلام والإسلام» في مؤتمر الأديان بباريس عام (۱۹۳۹)، ومثل المشيخة في مؤتمر الحقوق الدولية في باريس عام (١٩٥١)، ببحثه عن الربا، وكانت آخر المؤتمرات التي مثل فيها الأزهر مؤتمر الأديان العالمي في لاهور بباكستان عام (١٩٥٨)، وكان بحثه الذي قدم حول: «موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها»، وكانت آخر محاضرة له؛ إذ لبى نداء ربه أثناء انعقاد المؤتمر، وقبل أن يلقي كلمته بسكتة قلبية مفاجئة، وذلك في يناير (١٩٥٨)، وعاد جثمانه إلى مصر، وشيعت جنازته بعد أن صلى عليه في الجامع الأزهر، وقال عن الشيخ محمود شلتوت (ت: ١٩٦٣): لقد مات مشعل النور الذي أطفأ مشاعل الجهل.

ولباب فكر الشيخ يوجد في أربعة كتب، وهي: (دستور الأخلاق في القرآن)، و(الدين)، و (النبأ العظيم)، و(مدخل إلى القرآن الكريم) ففي هذه الأعمال سكب دراز روحه وعقله، فهي تُغني غير المتخصص عما سواها، وما عداها من أعمال دراز مجرد توليد وتقريب لما ورد من أفكار كبرى في هذه الكتب الأربعة.

كما أن هذه الكتب - مع (المختارات من كنوز السنة)، و(الميزان بين السنة والبدعة) هي التي وضع دراز عناوينها، أما ما سواها من أعمال فهي جمع المقالات ومحاضرات متناثرة، وقد وضع جامعوها لها عناوين من تلقاء أنفسهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply