بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ومن الكتب التي تزيدها مرّ الليالي جدة وحسن شباب كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وهي من الكتب التي أعتاد قراءتها لا لأتعلم منها الفقه، لأن الفقه الذي فيها تجد أكثر منه في كتب الفقهاء، وإنما لأتعلم منها العقل وقليل هي الكتب التي تعلمك العقل، والذي يعلمك العقل أفضل من الذى يعلمك العلم.
وقد أصاب أحمد بن حنبل حين ركن إلى مجلس الشافعي وترك مجلس ابن عيينة شيخ الشافعي ولما سئل في ذلك قال: *إنك إن فاتك حديث بعلوُّ وجدته بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف ألا تجده، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى، وكان ابن عيينة بحرا يرده الناس في علم الحديث والفقه.*
والكتب التي تعلمك العقل هي الكتب التي تجعلك شريكا في استخراج واستكشاف المعرفة التي تتعلمها منها، وكأنها تدربك لا على استيعاب المعرفة وإنما على إنتاج المعرفة، وهكذا الرسالة ترى عقل الشافعي فيها وهو يستنبط المعرفة ويضع الضوابط لهذا الاستنباط، وكيف تستخرج غير المعلوم من المعلوم؟ وكيف يدور بك حول الكلام حتى يدلك على بابه الذي إذا نَقْرْتَ عليه تَوَافَتْ إليك خباياه ومخباته، وأنا كلف جدًا بهذا النوع من الرجال، وقد علمنا علماؤنا ومن سمعنا منهم رضوان الله عليهم أن العالم الذي يكون عقله أغزر من علمه أولى بأن تتبعه من العالم الذي يكون علمه أغزر من عقله، لأن الأول تسيطر حجته على علمه، ومعقوله على منقوله، وهذا هو صراط العلم المستقيم.
وغزارة عقل الشافعي تكاثر بها علمه فصار علمه في رجاحة عقله، وعقله في رجاحة علمه، ومثل هذا قليل فى العلماء، وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر وهو من أعلم أهل زماننا بالفقه والحديث أنه يعتقد: *غير غال ولا مسرف أن هذا الرجل لم يظهر مثله من علماء الإسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط.*
ولم يكن الشافعي يشرح في الرسالة علم الكتاب والسنة فحسب، وإنما كان يدفع باطلا حول السنة الشريفة، ولم يكن يصرح بذلك، وإنك لا شك واجده في محاوراته التي بني كثير من الكتاب عليها، وهو يُلقي الأسئلة على لسان من يحاوره، وهي أسئلة تكشف إجاباتها مقام السنة من الدين، وتبين أن الله سبحانه لم يتعبدنا بكتابه فحسب، وإنما تعبدنا بسنة نبيه، وافترض علينا الكتاب والسنة معا، وأنه لا يمكن أن يستقل الكتاب ببيان الدين، وأننا إذا أغفلنا السنة نكون قد ضيعنا شطر الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد