بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أخرج البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ". وأخرجه مسلم برقم(19) من حديث ابن عباس عن معاذ رضي الله عنه فساق سنده إلى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُعَاذًا، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إلى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ".
معاني المفردات:
(1) بعث: أرسل.
(2) تأتي: تقدم على.
(3) أهل كتاب: اليهود والنصارى.
(4) أطاعوا: آمنوا وأجابوا وامتثلوا.
(5) افترض: أوجب نصيبًا مقدرا في المال وهو الزكاة.
(6) صدقة: الصدقة الواجبة هي الزكاة؛ وما عدا ذلك فصدقة التطوع.
(7) إياك: احذر.
(8) كرائم: نفائس.
(9) اتق: اجتنب.
(10) حجاب: مانع.
فوائد الحديث
(1) ترجمة معاذ رضي الله عنه([1]).
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدى بن كعب بن عمرو الأنصارى الخزرجى، أبو عبد الرحمن المدنى؛ البَدْرِيُّ، شَهِدَ العَقَبَةَ الثانية شَابًّا أَمْرَدَ مع السبعين. نَزَلَ حِمْصَ، وَكَانَ طَوِيْلًا، حَسَنًا، جَمِيْلًا.
قَالَ عَطَاءٌ: أَسْلَمَ مُعَاذٌ وَلَهُ ثَمَانِ عَشْرة سَنَةً.
شهد المشاهد كلها وكان عالما بالقرآن وبالفقه والحلال والحرام.
وفاته: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ من الهجرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً.
الفائدة الأولى: رواية الصحابة عن بعضهم.
فالحديث من رواية ابن عباس عن معاذ عن رسول الله؛ وذلك امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم النحر: *فليبلغ الشاهد منكم الغائب*، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها" وقوله أيضًا: "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع"، وقوله أيضًا صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية".
الفائدة الثانية: اختيار الرجل المناسب للوظيفة والعمل الذي يوكل إليه؛ فمعاذ رضي الله عنه كان مؤهلا للدعوة وللقضاء؛ فكان عالما فقيها؛ وكان شابًا جلدًا قويًا يتحمل مشاق الدعوة؛ قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(يوسف: 108).
الفائدة الثالثة: معرفة حال المخاطبين بالدعوة؛ فمخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل: "إنك تأتي قوما أهل كتاب" ليختار الأسلوب المناسب لهم والخطاب اللائق بهم؛ وليخاطبهم على قدر عُقُولهمْ؛ قال عَلِي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُوْنَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُوْنَ، أَتُحِبُّوْنَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُوْلُهُ" ([2]).
وقال تعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل: 125).
قال الآلوسي في تفسيره (7/ 487):
وإنما تفاوتت طرق دعوته عليه الصلاة والسلام لتفاوت مراتب الناس، فمنهم خواص وهم أصحاب نفوس مشرقة قوية الاستعداد لإدراك المعاني قوية الانجذاب إلى المبادئ العالية مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه وهؤلاء يدعون بالحكمة بالمعنى السابق.
ومنهم عوام أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد شديدة الألف بالمحسوسات قوية التعلق بالرسوم والعادات قاصرة عن درجة البرهان لكن لا عناد عندهم وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة بالمعنى المتقدم.
ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ورسخ فيه من العقائد الباطلة فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال لتلين عريكته وتزول شكيمته وهؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بجدالهم بالتي هي أحسن. انتهى
الفائدة الرابعة: بيان أن العلم قد يعتريه التحريف والتزوير فيلزم التذكير والتصحيح والدعوة والإنذار؛ كما هو حال أهل الكتاب؛ فالقراءة والكتابة قد لا تكفي في تعلم التوحيد.
الفائدة الخامسة: الإشارة إلى فضل الدعوة؛ إذ بها تفتح القلوب وتستنير الأسماع، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(فصلت: 33).
قول الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّه﴾[التوبة: 71].
قال تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره (2/ 103): فَمَنِ اتَّصَفَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي هَذَا الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالْمَدْحِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا رَأَى مِنَ النَّاسِ سُرْعة فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ثُمَّ قَالَ: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَّةِ فَلْيؤدّ شَرْط اللَّهِ فِيهَا". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
الفائدة السادسة: وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ أَشْبَهَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ انتهى.
وقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين. اهـ.
عن أبي أمامة الباهلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي قال: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم الناس الخير"أخرجه الترمذي.
وعن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ" متفق عليه.
روى مسلم وأصحاب السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعاء إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا".
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دلَّ على خيرٍ، فله مثل أجر فاعله" أخرجه مسلم.
وأخرج أبو داود وغيره عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ".
الفائدة السابعة: مشروعية إرسال الدعاة إلى الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(التوبة: 122).
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(فصلت: 33).
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرَج، ومَن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأْ مقعدَه من النار" أخرجه البخاري.
الفائدة الثامنة: بيان فضل أهل اليمن، فقد أسلموا ودانوا بالإسلام بالدعوة، وذلك لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما وأرسل معاذا ومن قبلهم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنهم دعاة إلى قبائل اليمن وبلدانها، فأسلموا وجاؤوا بعد ذلك وفودا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبايعوه على الإسلام.
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ".
الفائدة التاسعة: البدء بالتوحيد ومعالي الأمور؛ وتقديم الأهم على المهم والأحسن على الحسن وذلك مستفاد من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَادْعُهُمْ إلى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ".
وفي لفظ: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله".
كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء: 25].
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾[النحل: 36].
يدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم عن أبي أمامة قال: "قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت، وأنا في الجاهلية، أظن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: "أنا نبي"، فقلت: ما نبي؟ قال: "أرسلني الله"، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلت بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء..."
وروى الإمام أحمد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على الناس بذي المجاز يقول لهم: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
الفائدة العاشرة: بيان فضل التوحيد وأنه لا نجاة إلا بالتوحيد والبراءة من الشرك، ولذلك بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾(محمد: 19)، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾(المائدة: 72).
وقوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾[النساء: 48].
وأخرج البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ".
وعن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال: أتى النَّبيَّ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، ما المُوجِبَتانِ؟ فقالَ: "من ماتَ لا يُشرِكُ باللَّهِ شيئًا دخلَ الجنَّةَ، ومن ماتَ يشركُ باللَّهِ شيئًا دخلَ النَّارَ"(مسلم رقم 93).
وأخرج البخاري ومسلم عنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ".
الفائدة الحادية عشرة: بيان حجية خبر الواحد في ثبوت العقيدة وقيام الحجة على العباد.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجه معاذا وهو واحد ليدعو الناس للتوحيد فدل على قيام الحجة في العقائد بخبر الواحد وحديث الآحاد؛ وقد قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث الآحاد في العقائد، فقد حدثه تميم الداري رضي الله عنه بقصة الجساسة والمسيح الدجال، فحكاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه على المنبر، قال: "إِنِّي وَاللهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ، لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ... " الحديث أخرجه مسلم.
الفائدة الثانية عشرة: بيان فضل العلم للتخلص من شبهات المشبِّهين، ودعوات المكذبين المخرصين، فخير ما يرد الشبهات هو العلم، ولذلك اختار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا لوظيفة الدعوة وذلك لمؤهلاته من العلم والفقه والقوة والفتوة، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (محمد: 19).
الفائدة الثالثة عشرة: مشروعية التدرج في الدعوة، فقد دل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذا إلى ذلك بقوله " فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ" أي ابدأ بأمر ثم أمر بعده، والتدرج في التشريع والتعليم معلوم في دين الإسلام سيما مع المسلمين الجدد وحدثاء العهد بالإسلام، فالبدء بالتوحيد ثم بيان الفرائض والواجبات وهكذا، وذلك لتهيئة النفوس للسماع أي سماع الحق ثم للقبول، ثم لترسيخ الإسلام عقائده وأحكامه في النفوس، وفي ذلك أيضا مراعاة لإمكان المخاطَب وقدرته، وفيه من التخفيف والرحمة.
يدل على ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت: "فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى" أخرجه البخاري.
أخرج البخاري عن جرير بن عبد الله قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم".
قال ابن حجر في *فتح الباري*(2 / 188): *وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أمس*.
الفائدة الرابعة عشرة: من فوائد الحديث بيان البدء بالدعوة قبل القتال والجهاد، وأن الدعوة نوع جهاد لا شك، جهاد البلاغ أخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا أيها الناس جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". وقوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 52).
وأخرج أحمد (2053) وابن أبي شيبة في المصنف (33067) عن ابن عباس قال: "ما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم".
الفائدة الخامسة عشرة: بيان وجوب الصلوات الخمس في اليوم والليلة، وأن الوتر ليس واجبًا وكذلك صلاتي العيدين، وذلك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ" فدل ذلك أن ما عدا الصلوات الخمس ليس واجبًا.
الفائدة السادسة عشرة: بيان وجوب الزكاة وفرضيتها؛ وذلك من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ". والصدقة المفروضة هي الزكاة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة: 277).
وقال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (النور: 56).
وقال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(التوبة: 103).
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(التوبة: 35).
وفي الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إلى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إلى النَّارِ".
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ: ﴿لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ " الآيَةَ.
الفائدة السابعة عشرة: أولوية البدء بفقراء بلد المتصدق قبل غيرهم.
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" أي يأخذها الحاكم أو نائبه ثم يردها على فقراء المسلمين وفي مصارفها الشرعية.
واستدل فريق من المسلمين على عدم خروج الزكاة من بلد المتصدق حتى يكتفي فقراء البلد، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ".
الفائدة الثامنة عشرة: قوله "فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ" تحذير من أن يأخذ للزكاة أفضل أموالهم وكرائمها ونفائسها، فلا يأخذ إلا من أوسطها لا من أقله وأردئه ولا من أعلاه وأفضله، بل يتوسط في ذلك، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾(البقرة: 267).
قال القرطبي في تفسيره (3/ 320): قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، نَهَى النَّاسَ عَنْ إِنْفَاقِ الرَّدِيءِ فِيهَا بَدَلَ الْجَيِّدِ.
الفائدة التاسعة عشرة: التحذير من دعوة المظلوم.
لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا أن يتجنب الظلم، لئلا يدعو عليه المظلوم فيستجيب الله له، فدعوة المظلوم مستجابة جاء في الحديث: "اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين" رواه الطبراني.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعوات يستجاب لهن لا شك فيهن: دعوة المظلوم" رواه ابن ماجه، وليس شرطًا أن يكون المظلوم مؤمنًا، فدعوة الكافر المظلوم تصعد إلى الله تعالى؛ لأن كفره على نفسه كما جاء في رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: "دعوة المظلوم وإن كان كافرا ليس دونها حجاب"رواه أحمد في مسنده.
وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا". رواه مسلم.
قال سبحانه: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾(إبراهيم: 42).
الفائدة العشرون: الإشارة إلى أن أخذ كرائم المال ظلم.
ولذلك بيَّنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطَرَ دَعوةِ المَظلومِ بقولِه: "فإنَّه ليس بيْنه وبيْنَ اللهِ حِجابٌ"، يعني: إنَّها مَسموعةٌ مُستَجابةٌ لا تُردُّ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
([1]) سير أعلام النبلاء (1/443).
([2]) أخرجه البخاري ( 1 / 199 ).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد