بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مصارف الزكاة هم الفقراء والمساكين، فالذي عليه الجمهور:
أنَّ زكاة الفطر تُعطى لمن يجوز أن يُعطَى له زكاة المال، المذكورة في مصارف الزكاة الثمانية.
وذلك لأنَّ صدقة الفطر زكاة، فكان مصرفها مصرف سائر الزكوات؛ ولأنها صدقة فتدخل في عموم قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾التوبة (60).
والراجح -والله أعلم- هو ما ذهب إليه المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية أنها تدفع للفقراء والمساكين خاصة دون غيرهم، وذلك لما ورد عن ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ"(أخرجه أبو داوود (1609)) وحسنه الألباني. يؤيده: أنها صدقة تشبه الكفارة، فناسب ذلك تخصيصها لمن يستحق الكفارة من الفقراء والمساكين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
*ولا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة، وهو مَن يأخذ لحاجته، لا في الرِّقاب والمؤلفة وغير ذلك، وهذا القول أقوى في الدليل*. (مجموع الفتاوى (73/25)). ولذلك قال ابن القيم في الزاد (2/21).
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا من بعدهم. ا. هـ
وختامًا: حكم دفع القيمة في زكاة الفطر:
ذهب الحنفية الي جواز إعطاء القيمة في زكاة الفطر، وهو قول الحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز، واختاره البخاري صاحب كتاب الصحيح، وهو مذهب الثوري، وهو وجه في مذهب الشافعي. ونقل عن أحمد جواز إخراج القيمة، لكن في غير زكاة الفطر.
ووافق في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وخص ذلك إن كان في إخراجها قيمة مصلحة للفقير. وقد ألَّف الشيخ أحمد بن الصديق الغماري رسالة في تلك المسألة أسماها: *تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال*، ورجَّح فيه مذهب الحنفية بأدلة كثيرة وصلت إلى اثنين وثلاثين وجهًا.
ووجهة هذا القول أنَّ مناط العلة من فرضية زكاة الفطر في الحقيقة هو إغناء الفقير. وذلك لما يُروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم: "أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْم" قالوا: والإغناء يحصل بالقيمة، بل إنَّ لك أتم وأوفر وأيسر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة، فتبيَّن بذلك أنَّ النص معلل بالإغناء.
لكنَّ نقول: هذا الاثر الذي استند اليه الحنفية قد ضعَّفه النووي في المجموع (6/ 126)، وابن حجر في بلوغ المرام(ص/166)، وابن الملقن في *خلاصة البدر المنير* (1/313).
ولو قيل بصحته: فيكون المجمل في قوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن السؤال.. " قد بينته السنة المفصلة في إيجاب الصاعات التي حددها الشارع.
**وكلك فمن أدلتهم: ما ثبت في الصحيح في زكاة الأنعام: في قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلَّا حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ".
فقالوا: إذا جاز العدول عن العين إلى الجنس بالإجماع بأن يخرج زكاة غنمه من غنم غيرها جاز العدول من جنس إلى جنس.
**وجواب ذلك أن يقال: أنَّ الأصل العام في هذا الباب: هو أنَّ القياس لا يدخل في باب العبادات، ثم هو قياس مع الفارق: ففي مسألة الجبران في زكاة السائمة مشروطة بعدم وجود الأصل، وهذا لا ينطبق على زكاة الفطر، لأنَّ المنصوص على إخراجه في زكاة الفطر موجود وميسور، فكيف يقاس الموجود على المفقود؟!!
**والراجح والله أعلم هو الذي عليه جمهور أهل العلم: أنَ زكاة الفطر تخرج طعامًا، ونقل النووي عن الجمهور أنَّ إخراج القيمة في زكاة الفطر لا يجزئ، لما صح عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ"، فإذا عدل المرء عن ذلك فقد ترك المفروض. المجموع (6/111).
وقال ابن قدامة: (ولا تجزئ القيمة؛ لأنه عدول عن المنصوص) (المغنى (2/286)).
وقد ذهب إلى منع دفع القيمة كذلك ابن حزم في المحلي فقال: ولا تجوز قيمته أصلًا. المُحلّى (6/ 193)، ونص على مثله صاحب كفاية الأخيار (ص/169).
وكذلك مما يقوي قول الجمهور: أنه قد وُجد المال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾[آل عمران: 75]، فلو كان نفع الفقير في المال لما غفل الشارع عن ذلك، قال تعالى: }وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا{. فلما سكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن المال، علِمنا أن المقصود في زكاة الفطر محصور في الطعام.
2- أنَّ القيمة لو جازت لما سكت عنها، والقاعدة هنا: *أنَّ السكوت في مقام البيان يُفيد الحصر*.
قال الشاطبي: إن سكت الشارع عن حُكْم خاص، وموجبُه المقتضي له قائمٌ وسببُه في زمان الوحي موجودٌ، ولم يُحدِّد فيه الشارع أمرًا زائدًا على ما كان من الدين، كان صريحًا في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة مخالفة لقصد الشارع. (الاعتصام (ص/468).
كذلك يقال: أن إخراج القيمة مخالِف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولعمل الصحابة رضى الله عنهم. قال مالك عن الرجل يعطي مكان زكاة الفطر عرضًا من العروض، وليس كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم. (المدونة1/392).
وقيل لأحمد: قوم يقولون: عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ بالقيمة، فقال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان! قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (المغنى (3/65).
وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يُخرِجونها طعامًا. وتأمل: في فعل أبى سعيد الخدري رضي الله عنه عندما اجتهد معاوية رضى الله عنه فقال: *إني أرى أنَّ مدَّين من سمراء الشام -والسمراء هي طحين القمح- تعدل صاعًا من تمر*.
فأنكر ذلك أبو سعيد، وقال: "تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها، كنا نُعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت"(أخرجه مسلم 985).
انظر: هذا فعل الصاحب فيمن اجتهد في تقدير الصاع، فكيف بمن عدل عن جنس الزكاة!
قال الحافظ ابن حجر *الفتح* (3:373): قول أبى سعيد رضي الله عنه: *كنا نُعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم هذا حُكمه الرفع؛ لإضافته إلى زمانه صلى الله عليه وسلم*. كذلك يقال: قد ورد في حديث أبي هريرة رضى الله عنه: "وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"(رواه البخاري).
وجه الدلالة:
أنَّ زكاة رمضان ما كانت إلا طعامًا، فكانت شعيرة ظاهرة في جمعها وتوزيعها، لذا فإنَّ إخراجها مالًا يجعله شعيرة خفية.
يؤيده: أن إخراجها نُقُودًا مُخالفٌ أيضًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولسُنَّة الخُلفاء الراشدين؛ فإنهم أخرجوها طعامًا برغم توافُر المال حينذاك، وبرغم حاجتهم إليه، وقد كان مُجتمعُهم أشَدَّ فقرًا وحاجةً.
يؤيده: أنَ زكاة الفطر تجري مجرى كفّارة اليمين، والظِّهار، والقتل، والجماع في رمضان، ومجرى كفّارة الحج، فإِنّ سببها هو البدن ليس هو المال، كما في السنن عن النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنّه فرَض صدقة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين، مَن أدّاها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات". ولهذا وجَبَ اخراجها طعامًا، كما هو في الكفّارة نخرجها طعامًا.(مجموع الفتاوى (25/73)).
فإن قالوا: القيمة أنفع للفقير ليتصرف بالمال كما شاء!!! فالجواب من وجوه:
1- الامتثال مقدَّم على الاجتهاد: وقد ضرب الجويني لهذا مثلًا: ولو قال إنسان لوكيله اشتر ثوبًا، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة ووجد سلعة هي أنفع لموكله لم يكن له مخالفته، وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع. (المجموع (385/5)).
2- أنَّ اخراج زكاة الفطر قيمة محل خلاف بين العلماء:
قال أبو داوود: قيل لأحمد -وأنا أسمع- أعطي دراهم، يعني في صدقة الفطر؟ قال: أخاف ألا يجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(المغني (2/671)).
فقبل أن تنظر إلى نفع الفقير، فعليك أن تعلم أنَّ إخراجك للقيمة يجعل عبادتك هذه محل خلاف بين العلماء، بين من يرى عدم إجزاءها، وهم الجمهور، وبين من يرى جوازها وهم الحنفية، فإذا ما أخرجتها قيمة قال لك الجمهور: *زكاتك غير مجزئة*، وأما إذا ما أخرجتها طعامًا فلن ينكر عليك أحد من الفريقين، لذا فإنَّ المُسلم إذا أخرج زكاته طعامًا فقد بَرِئتْ ذِمَّتُه، فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك".
ومَن مِن الناس يستحق أن تخاطر بعبادتك من أجله!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد