فضائل يوم عرفة ويوم النحر


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

اتقوا الله عباد الله، اتقوا الله حقَّ التقوى، فمن حقَّقَ التقوى آتاه اللهُ نورًا يفرِّقُ به بين الضلالةِ والهدى، والبصيرةِ والعمى، {يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ}.

معاشر المؤمنين الكرام: على كثرة فَضَائِل هَذِهِ الْأَيَّامِ المباركة، وأنَّ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من العمل في غيرها، إلا أنَّ لبعضها خصائصَ ومميزاتٍ، لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا من سائر العشرِ المباركات، كَيَوْمِ النَّحْرِ ويَوْمِ عَرَفَات.

فيومُ عرفةَ هو يومُ الدعاء والمناجاة، ويومُ النَّحرِ هو يومُ التكبير وذبح الاضحيات، ولذا سيكونُ لنا اليومَ بإذن الله تعالى، وقفةٌ خاصةٌ مع هاذين اليومين العظيمين، لعلنا أن نعرفَ شيئًا من عظيم قَدْرِهما، وكبيرِ فضلِهما، فنشمرَ عن ساعد الجدِ، ونجتهدَ في الاستفادة من فضائلهما، والموفقُ من وفقه الله وهداه. 

يومِ عرفةَ أيُّها الموفقون: أعظمُ الأيامِ بركة، إنه يومُ الهباتِ والأعطيات، يوم استجابة الدعوات، وخيرُ يومٍ طلعت فيه الشمس على الكائنات.

يَوْمٌ عزيزٌ كريم، مِنْ أَيَّامِ اللهِ الغرِّ المعظمات، يَوْمُ المفاخرةِ والمُبَاهَاةِ.

في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة وَالسَلامَ: "إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إلى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا". إنه يومُ العتقِ والفوزِ والنجاة.

ففي صحيح مسلم، قال : "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ"، قال شُرَّاح الحديث: وَالظَّاهِرُ من النَّص أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ خَاصًّا بِأَهْلِ عَرَفَةَ وحدهم، وَإِنَّمَا هُوَ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، بدليل أنَّ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِيهِ عِيدٌ للجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ يُرْجَى لهم أَكْثَرَ مما يُرجى لغَيْرِهِمْ لأن الله يُباهي بهم، وكرمُ الله أشملُ وأعظمُ، وعطاؤه أوسعُ وأعم. وَيوم عرفة يَوْمُ إِذلال الشَّيْطَانِ وَاندِحارِهِ وصغاره، فِي الحَدِيثِ الصحيح قال : "مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ"، اللهم فزده ذلةٍ وصغارًا، وغيظًا وحقارًا، والعنه لعنًا كُبارًا.  

ويوم عرفة يا عباد الله: هو اليوم الذي أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة. صيامهُ يكفرُ ذنوبَ سنتين، ودعاؤه خيرُ الدعاء. فقد صح عنه أنه قال: "خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ".  ومعلومٌ يا عباد الله: أنَّ الدعاء عِبادةٌ من أفضلِ وأجلِّ العبادات، بل صحَّ في الحديث قوله : "الدعاء هو العبادة". وفي التنزيل الحكيم، يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ}. واللهَ جلَّ وعلا يُحِبُّ مِن عِبادِه أن يَسأَلوه، وأن يَطلُبوا مِنه كلَّ حوائجِهم، ففي الحديث الحسن، قال : "ليس شيءٌ أكرمُ على الله من الدعاء".

ومن كرمه جلَّ وعلا، وعظيمِ فضله على عباده، أنه أمرَهم بالدعاء ووعدَهم بالإجابة، فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. وأخبرهم سبحانه وبحمده أنه قريبٌ يسمعُ ندائهم، كريمٌ يجيبُ دعائهم، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

بل إنه جلَّ وعلا يغضبُ على من لا يسألُه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: "من لم يسألِ اللهَ يغضب عليه"، والحديثُ حسنهُ الإمام الألباني. وأكدَ عليه الصلاة والسلام أنَّ ثمرةَ الدعاءِ مضمونةٌ بإذن الله، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ". صححه الألباني.  

ولما كان يومُ عرفةَ هو يومُ المغفرةِ والعتقِ من النار، وكان دُعاءهُ هو خيرُ الدعاء وأرجاهُ بالقبول والاستجابة. كان حريٌّ بالمسلم أن يتفرغَ له من كلِّ مشاغِله، وأن يُظْهِرَ للهِ فَقْرَهُ وحاجته، وأن ينطرحَ بين يدي ربه، ويتعرضَ لمغفرتهِ ورحماته، وأن يُقَدِّمُ بَيْنَ يدي دُعائهِ ومناجاتِه، تَوْبةً صادقة، وإخلاصًا لله وإخباتًا، وتذللًا وانكسارًا، وثناءً جميلًا على ربه. ويَتَحَبَّبَ إلى مولاهُ بخالصِ الدعاءِ وصادق المناجاة.  

ثم اعلموا يا عباد الله أنَّ للدعاء آدبًا ينبغي للمسلم أن يلتزمَ بها ليكونَ دُعائهُ أقربَ للاستجابة. فمن آدابِ الدعاءِ أن يكونَ الداعي على طهارةٍ، وأن يستقبلَ القبلةَ، وأن يرفعَ يديهِ حالَ الدعاء. وأن يتحرى أوقاتَ الاستجابةِ، وأن يدعو بجوامع الدعاء. وألا يتعدى في دُعائه فيطلبَ مالا حقّ له فيه. فقد ورد في الحديث: "سيكونُ قومٌ يعتدون في الدعاء".

ومن آدابِ الدعاءِ: حُسنُ الظنِّ باللهِ تعالى، وحُضورُ القلبِ، والخشوعُ والانكسار، لقول النبيِّ : "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ". والحديث حسنه الألباني، ومن الآدابِ: الإلحاحُ في الدعاءِ رغبةً ورهبةً، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا".

ومن آدابِ الدعاءِ، التوسلُ إلى الله جلَّ وعلا بأسمائه الحسنى وصفاتهِ العلا، قال جلَّ وعلا: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.

ومن الآداب، أن يتحرى الكسبَ الحلال، فقد ذُكِرَ في الحديث الصحيح: "الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ"؟.  

ومن آدابِ الدعاءِ، أن لا يستعجلَ الإجابة، ولا يستبطئها إذا تأخرت، بل يداومُ المسألةَ ويستمرُ عليها، فمن أكثرَ قرعَ البابِ يُوشِكُ أن يُفتحَ له.

ومن الآداب، أن يختمَ دُعائهُ بالصلاة على النبيِّ ، فقد قال أميرُ المؤمنين عمرُ بنَ الخطابِ رضي الله عنه: "الدُّعَاءُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ يَصْعَدُ مِنْهُ شَىْءٌ حَتَّى تُصلى عَلَى نَبِيِّكَ ﷺ". فإذا اجتهد المسلمُ والتزمَ بهذه الآدابِ فإنَّ دعاءهُ بإذن الله لا يُردُّ. فهو جلَّ وعلا، عظيمٌ كريمٌ، جوادٌ مُتفضِّل، خزائنهُ ملئا، ويدهُ بالخير سحَّا، ولا يتعاظمهُ ما أعطى، سبحانهُ وتعالى ينفقُ كيف يشاء. ويغفرُ الذنوبَ وإن بلغت عنانَ السماء، فليحسن المسلم فيه الظنّ والرجاء، فهو عند ظنِّ عبدهِ به، فليظنَّ به ما شاء.

فَاغْتَنِمُوا يا عباد الله مَوَاسِمَ الخَيْرَات، وَاسْتَكْثِرُوا مِنَ الدعاء والمناجاة، وَسَارِعُوا إلى المَغْفِرَةٍ والرحمة والجنات. وأَحْسِنُوا في عَمَلِكُمْ؛ لِتَنَالُوا رِضا رَبِّكُمْ. {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.   

 

اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين.

معاشرَ المؤمنينَ الكِرام: أمَّا يوم العيدِ أو يوم النحر أو يومُ الحجِّ الأكبر، فهو أفضلُ الأيامِ عند اللهِ تعالى، كما جاء في الحديث الصحيح، وأفضلُ ما يُعملُ فيه من الأعمال التكبير والنَّحرُ، والتكبير عبادةٌ عظيمةٌ تكرر الأمر بها في كتاب الله، فقال جلَّ وعلا: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقالَ تَعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}، وقال تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}. 

التكبيرُ يا عباد الله: ذكرٌ جليل، يُعلِنُ فيهِ المسلمُ عَظمَةَ اللهِ وجلالَهُ، ويُذعِنُ لمَشيئَتِه وكِبرَيائِهِ، فهو الكبيرُ الذي لا أكبرَ مِنهُ، والعَظِيمُ الذي لا أَعظَمَ مِنهُ، والعليُّ الذي لا أعلى منه. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}.  

التكبيرُ ذكرٌ قويٌّ وله دويٌّ، مدلوله عميق، ومعناه دقيق، تَتجلَّى فيها أسمَى مَعاني التعظيمِ والإجلال، والخُضوعِ التامِّ للكبير المتعال، فاللهُ أكبرُ على ما هَدانَا، واللهُ أكبرُ على ما أولانَا، واللهُ أكبرُ على من ظَلمنَا وعادَنَا. 

التكبيرُ شِعارُ المُسلمين في أذانِهم، وفي صَلواتِهم، وفي أعيادِهم، وفي جهادهم ومَعارِكهم، وفي كُلِّ كبيٍر من أمورهم وشؤونهم.

يقولُ الإمام ابن حجرٍ رحمه الله: "التكبيرُ ذكرٌ مأثورٌ عند كل أمرٍ مهُول، وعند كل حادثِ سُرور، شُكرًا لله تعالى، وتبرئةً له عزَّ وجل عن كلِّ ما يُنسبُ إليه من نقصٍ أو قصور، تعالى الله عما يقولُ الظالِمون علوًّا كبيرًا".  

واللهُ أكبرُ: جُملةٌ جميلةٌ، مَهيبةٌ جَليلةٍ، خَفيفةٌ على اللسان، ثَقيلةٌ في الميزان، حبيبةٌ إلى الرحمن، تزيدُ الإيمانَ، وتطردُ الشيطانَ.

الله أكبر: يرددها المُسلم في اليوم والليلة أكثرَ من سَبعِين مرةً، ويَسمعُها من الإمامِ والمُؤذِّنِ أكثرَ مِن مَائةِ مَرَّةٍ.

الله أكبر: يقولها المسلم في كلِّ حركةٍ من صلاته، وإذا ركبَ دابتهُ أو سيارته.

الله أكبر: يصطحِبُها المسافرُ في سفره وتنَقُلاتهِ، استِشعارًا لمعيَّةِ اللهِ تعالى وعظمَتِهِ، وتفكُّرًا في روِعةِ الكون وعظيمِ قدرةِ الخالقِ سبحانه وجليلِ حكمته. 

اللهُ أكبرُ: فهو مَلِكُ الأملاك.

واللهُ أكبر: هو مُدبِّرُ الأفلاك.

والله أكبر: أكبر من كلِّ ما ترى عيناك.

والله أكبر أينما تكُون: يسمعُك اللهُ ويراك. فيكثر المسلم من التكبير، فهو من أحبُّ الكلام إلى الله، ومن الأربعِ الباقِياتُ الصالِحاتُ، بتكراره تنشرحُ الصدور، وتأنسُ النفوسُ وتطمئنُّ، {إلا بذكر الله تطمئنُ القلوب}.

فاتقوا الله أيُّها المؤمنون ورطِّبوُا ألْسِنَتَكُمْ بالذِّكرِ والتَّكبير.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}.

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply