مكانة العلم وأهله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

إن لكل شيء رجاله، ورجال العلم أهله الذين درسوا علم التوحيد وأصول العقيدة وقواعد التفسير وتمكنوا من الجرح والتعديل، فتجدهم أسودًا في الفقه والسنة يتصدرون منابر الإمامة ومنارة الفتوى يدافعون عن الإسلام بعلم وإخلاص، وإن كانوا قلة اليوم بيننا بسبب كثرة أهل الزيغ والأهواء من أهل البدع والضلال في صفوف المسلمين، فأصبح من هب ودب يُفتي وينصِّبُ نفسه عالمًا على منصات التواصل الاجتماعي ويلقى قبولًا في أوساط العامة من الناس بسبب قلة معرفتهم بالشريعة والأحكام، فكل من يُزين كلامه ويحسنه تجد الشباب يهتفون باسمه ويلقبونه بالعالم الفلاني، والله المستعان.

فإن للعلم مكانه الخاص في القلب والسمع، وإن مجالس العلم التي يتحدث فيها الثقات لها ضوابط، ومنها حسن الانتباه والإصغاء مع التأدب في السؤال. قال سليمان بن يسار: *حسن السؤال نصف العلم*(النوادر والنتف لأبي الشيخ الأصبهاني، ص 262). ومنه أيضًا تبادل الاحترام بين الطلبة في العلم مع المشايخ، قال الشيخ صالح العصيمي حفظه الله: *ينبغي أن يعلم الناس أن للعلم هيبة، فلا تضعفوا هيبة العلم*، ثم قال: *كأننا عوام*(مستفاد من مقطع صوتي له). يقصد أن يعامل الناس العلماء كأنهم عوام دون احترام خاص لهم، وهذا هو إضعاف هيبة العلم، فتكون مجالس العلم مثل الأسواق، كل شخص يتحدث ويمشي متى يحلو له.

ومن ضوابط مجالس العلم أيضًا الاعتدال في الجلوس والنظر إلى الخطيب أثناء حديثه، وهذا جزء من توقير العلماء. وكذلك من توقير العلماء أن يُنادى بالشيخ فلان ولا يُنادى باسمه مجردًا، لأن مناداته باسمه فقط يُعد من سوء الأدب مع العلماء سواء كان حيًا أو ميتًا. قال أحد العلماء: *من السنة أن يوقر العالم*، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يُجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه"(صحيح الجامع، الحديث حسن).

وقد سُئل أحدهم: *لم تُكرم معلمك فوق كرامة أبيك؟* فقال: *إن أبي سبب حياتي الفانية ومعلمي سبب حياتي الباقية*.

توقير العالم والإمام وكل شيخ يُعلم الناس طرق الخير واجب علينا، لأنه حامل راية السنة وقامع البدعة وناحر الضلالة وهادم الشرك، مع تعليمه للناس كيفية سد أبواب الفتن بعون الله تعالى وتوفيقه. من حق العالم علينا وواجبنا تجاهه، عندما يُعلمك ما لم تكن تعلمه ويُجيبك على ما لم تكن تعرفه، هو شكره والدعاء له بالبركة والإطالة في العمر، وإن كان ميتًا أن تترحم عليه. الدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"(رواه أحمد وغيره)، والعلماء هم أولى الناس بالشكر.

قال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله: *فالعالم الحاذق الفقيه الناصح يسدُ أبواب الفتن وذرائعها ولا يشارك أهل الفتن والأهواء فيما يضر الأمة في دينها*(الحد الفاصل، ص 123-124). ومعنى الحاذق عند أهل اللغة أي *الماهر*. وقال أيضًا في علماء الدعوة السلفية: *رافعين راية التوحيد والتجديد وهادمين للشرك والضلال والتنديد*(كشف زيغ التشيع، ص 104). هذه الضوابط تساعد على الفهم والإدراك، ومثل هؤلاء الذين ذكرهم الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله هم من يستحقون التوقير والتقدير.

أما عن فضل الحضور في مجالس الذكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها..."(تخريج المسند لشعيب الأرناؤوط). معنى *نضر الله* عند أهل العلم أي *أن يجعله ذا نضرة وبهجة بحيث يكون وجهه مشرقًا مضيئًا في الدنيا والآخرة*.

قال الأصبهاني رحمه الله: *وليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو الاتباع والاستعمال، يقتدي بالصحابة والتابعين وإن كان قليل العلم، ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال وإن كان كثير العلم* (مطوية السلفية مثل سفينة نوح للشيخ بازمول، ص 4).

من المتداول عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: *ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب*. اليوم قد تجد أكثر الناس يأخذون العلم على يد من يحفظ كثيرًا من الأحاديث وإن فسرها على هواه، لا يهتمون بذلك إطلاقًا. والعجب أن هناك من يُفسر القرآن من هواه دون علم ولا بصيرة حتى خالفوا بها عقولهم وصدقتهم قلوبهم وأعماهم جهلهم وأطغتهم شهرتهم، فباعوا الدين بالدنيا. لهذا قال صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (صحيح الجامع). أنت لست مطالبًا بأن تكون عالمًا ولا طالب علم، وإنما أنت مطالب بمعرفة شروط العبادات بدون زيادة ولا نقصان، ومعرفة الحلال من الحرام، ومعرفة علماء الحق من علماء الباطل، ومعرفة خطر الشبهات فلا تقع فريسة لدعاتها، ومعرفة الحديث الصحيح من الحديث الضعيف والموضوع. فتطلب العلم على قدر خروجك من الجهل، أما إن زدت على ذلك فهذا أحسن وأفضل لك.

طلب العلم الأولي يكون في فهم العقيدة السليمة وصحة العبادة ودراسة السنة وعلم المقاصد وشرح المعاني وتفسير القرآن... إلخ. هذا هو طلب العلم، وهذا هو الأصل فيه، وليس كثرة الحفظ، وإن كان الحفظ من أساسيات العلم، لكن الفهم أولى منه.

قال أحد العلماء: *طلب العلم فريضة، وأنه شفاء للقلوب المريضة*، وقال الإمام أحمد رحمه الله: *أما حاجته للعلم فهي بعدد أنفاسه*(ورثة الأنبياء للشيخ عبد الملك القاسم، ص 127). يقصد كل المسلمين دون استثناء. ومن طلب العلم أيضًا ما قاله صلى الله عليه وسلم: "قيدوا العلم بالكتاب"(صحيح الجامع)، أي بأن تكتب كل ما وجدت فيه نفعًا لك أو لغيرك، تكون لديك سجلات ترجع إليها للحاجة والضرورة. فقد تنسى ما تعلمته، لكن بالكتابة تُنشط الذاكرة مجددًا. الشهادات الجامعية ليست معيارًا للعلم، فكم من دكتور يجهل عقيدة المسلمين ويقع في شرك الأولين، وكم من عامي لا يملك أي شهادة تجده على التوحيد الصحيح ومعتقد السلف المريح من شبهات القبورية وكل من يطوف حول الضريح.

واعلم رحمك الله أن أساس الحياة هو العلم، وأساس العلم هو الفهم، وأساس الفهم هو العمل، وأساس العمل هو الإخلاص لله عز وجل، وأساس الإخلاص هو النية، وأساس النية هو القلب، وأساس القلب هو العقل. بين العلم والعقل هو أسلوب النقل، وهذا النقل أساسه موافقة الكتاب والسنة.

قال الشيخ الفوزان حفظه الله: *العلم مثل النسب، لابد أن يوصل من أوله إلى آخره، نسب العلم لابد أن يكون متصلًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الأئمة والعلماء واحدًا واحدًا*(وجوب الارتباط بعلماء الأمة للشيخ بن قاسم الريمي، ص 42).

هذا النسب هو صحة النقل والصدق فيه. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث"، ثم ذكر منهم وقال: "أو علم ينتفع به" (رواه مسلم).

هذا العلم أصله هو النقل، وقبل النقل يكون طالبًا للعلم فيستفيد هو ويُفيد غيره إما بالنشر الورقي أو الإلكتروني أو الصوتي، حسب إمكانيات عصره.

قال الشيخ زيد بن محمد بن هادي المدخلي رحمه الله: *العلم يزداد وينمو لدى صاحبه إذا هو نشره في الناس*(نصيحة غالية، ص 14). العلم إذن هو عبارة عن مقام لأهله لن يبلغوه حتى يعملوا به وينشروه بين الناس. أما عن فضل طلب العلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل"(رواه مسلم برقم 803). هو فضل عظيم من رب كريم على عباده المخلصين.

قال أهل العلم: *إن طلب العلم هو أفضل أنواع الذكر وأفضل الجهاد*. فاطلب العلم، فإن لم تكن من أهله تنج من أعدائه. من شروط طلب العلم هو التعلم ثم التطبيق والإخلاص لله تعالى ثم التبليغ. نُسب لعلي رضي الله عنه أنه قال: *تعلموا العلم تعرفون به واعملوا به تكونوا من أهله*. قال أحد المشايخ: *العلم بذر، والعمل زرع، وماؤه الإخلاص*(تحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب رحمه الله، ص 66).

قال وكيع: *من أراد أن يحفظ ما يسمع فليعمل به*(النوادر والنتف لأبي الشيخ الأصبهاني رحمه الله، ص 185).

واعلم رحمك الله أنك إن أحببت العلم وأهله من قلبك فُتحت أبوابه في وجهك، وإن كرهت العلم وأهله من قلبك غُلقت أبوابه في وجهك، حتى وإن طرقت أبوابه وحاولت دخولها فلن تستفيد من شيء لأنه يثقل عليك بسبب كرهك له. فالعلم أساسه محبته ومحبة أهله، فهو الأصل في كل المعارف، وهو الفصل في كل الأحكام.

قال عبد الله بن المعتز: *المتواضع في طلب العلم أكثر علمًا*(الأوائل لأبو هلال العسكري رحمه الله، ص 388-389). ولا يكون متواضعًا حتى يكون محبًا، فالمحبة هي منبع التواضع.

قال بن شميل: *لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه*(ورثة الأنبياء للشيخ عبد الملك القاسم، ص 80).

أما عن الزبير بن أبي بكر، قال: *كتب إلي أبي وهو بالعراق يقول لي: عليك بالعلم، فإنه إن افتقرت كان لك مالًا، وإن استغنيت كان لك جمالًا*(المصدر السابق، ص 118).

قال أبو الأسود: *ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك*(المصدر السابق، ص 119).

أما عن مكانة أهل العلم، فقد قال الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: *أنتم جنود العلم، ولكلمة جندي معنى يبعث الروعة ويوحي بالاحترام ويجلب الشرف ويعلي القيمة، لأنه في غاية معناه حارس مجد وحافظ أمانة وقيم أمة* (البشير الإبراهيمي عظيم من الجزائر لعادل نويهض، ص 81).

أما العلَّامة ابن القيم رحمه الله فقد قال: *فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يُهتدى في الظلماء*(ورثة الأنبياء للشيخ عبد الملك القاسم، ص 120). فالعلم سلاح العالم، والمعرفة لباسه، والعمل بهما وقار له. فمنارة العلم هي النبوة، ومن أضوائها هي أشعة المعرفة التي ترمز للعلماء.

قال الحسن رحمه الله: *لولا العلماء لصار الناس كالبهائم*(ورثة الأنبياء للشيخ عبد الملك القاسم، ص 127).

قال الإمام أحمد رحمه الله مادحًا للعلماء: *فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس*(وجوب الارتباط بعلماء الأمة للشيخ بن قاسم الريمي، ص 15).

قال الشيخ الفوزان حفظه الله: *فالعلماء يقومون مقام الأنبياء بتعليم العلم وتبليغه للناس*(المصدر السابق، ص 34).

يقال إن *العلماء سراج الأزمنة، فكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره*(ورثة الأنبياء للشيخ عبد الملك القاسم، ص 135).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: *إن هذا العلم يزيد الشريف شرفًا*(النوادر والنتف لأبي الشيخ الأصبهاني رحمه الله، ص 189).

قال الشيخ فواز بن علي المدخلي: *فإن منزلة العلماء عند الله عظيمة، ودرجتهم في الدنيا والآخرة رفيعة*(مقدمة نصيحة غالية، ص 5).

أما عن مكانة العلماء بيننا، فهم أفضل منا بكثير كفضل السكر على الملح. قال صلى الله عليه وسلم: *فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم*(رواه الترمذي).

قال أحد المشايخ: *والدعوة تستلزم أن يكون الداعي من المهابة في النفوس والإجلال في القلوب، والمنزلة الكريمة عند الناس، وظهور الكمال الخُلقي والخَلقي حتى تخضع لها الفطر السليمة والقلوب المستقيمة*(مقدمة الناشر لكتاب عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي رحمه الله، ص 11-12).

أما من يستعمل أسلوب التمثيل في دعوته لإضحاك الناس ويأتي بالعجائب من أساطير الكذب في قصصه، فيفضح نفسه، فهذا لن يحترمه أحد، بل يكون أضحوكة بين الناس ويستهزئون به عند وضع الأسئلة له لأنه أسقط هيبته بأخلاقه البهلوانية تلك، والله المستعان.

الخاتمة:

نختِمُ هذه المقالة بكلام عالم البلد الجزائري المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، حيث قال: *لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله. وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعلمهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم. فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل، فكذلك المسلمون يكونون. فإذا أردنا الصلاح للمسلمين فلنصلح علماءهم، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم... ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به إلى التعليم النبوي في شكله وموضوعه وصورته*(نقلًا من كتاب الرد النفيس للشيخ محمد حاج عيسى الجزائري، ص 105).

معنى *جمود* أي لا يتحرك لنشر العلم مثل الجمادات، فيسكت على الباطل ولا يدافع عن الحق، ويترك الناس يسبحون في جهلهم ولا يضع يده بأيديهم ليخرجهم. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر 9).

قال الشيخ السعدي رحمه الله: *يَعلمون ربهم ويُعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي وما له في ذلك من الأسرار والحكم*، ثم قال: *كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار*(تيسير الكريم الرحمن، ص 687).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply