الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الموعظة الحسنة سرعان ما تتقبلها القلوب، وتلين لها الصدور، وتُسجل كلماتها في فخامة السطور، وتوزن حروفها في أعماق العقول، وتستبشر لها الضمائر، وتنور منها البصائر، وتُحيي الفطن المفقودة، وتُنير الفطر المعقودة، ثم تعيدها إلى سلامتها. وللموعظة الحسنة آداب في المعاملة حسب سلوكيات الفرد؛ فلا يُعامل الداعي إلى الله الناس بنفس الطريقة، فتفكير العوام ليس موحدًا، بل هو مشتت بين هذا وذاك.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أرسلني مبلّغًا ولم يرسلني متعنتًا" (رواه مسلم). والتعنت قال أهل العلم هو *التشدد*. وهذا أول ما يبدأه الداعي، وهو الإبلاغ. وطريقة الإبلاغ تكون بحكمة ورزانة وعلم وأمانة، فلا يكون كاذبًا في دعوته، ولا يكون جاهلًا بمقالته، ولا يكون عنيفًا في حواره، ولا يكون سفيهًا في قراره.
فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال في هذه الموعظة المباركة: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا"(رواه الترمذي وابن ماجه).
فقد جمع ثلاثة أسس في الحياة، بل هي من مبادئ العيش الكريم، ومنها: الأمان من الحرب والأعداء، وصحة القلب وكل الأعضاء، وسد باب الجوع والكرب والشقاء.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطانا مثالا بأن من توفرت له هذه الأسس كأنه مَلكَ الدنيا. وهذه الموعظة هي سيدةُ المواعظ كلها بين المسلمين، فيعلم حينئذ من ابتلي أنه في نعيم، فيزداد صبرًا ويقينًا، ويفرح بأقدار الله راضيًا بها دون يأس من رحمة الله الخبير.
فإن الموعظة هي قلب الدعوة إلى الله؛ فإن كانت حسنة كانت الدعوة سليمة. قال صلى الله عليه وسلم: "وبشروا ولا تُنفروا" (رواه مسلم). وتنفير الناس يكون بسوء الأدب في الحوار.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث لعانًا، وإنما بُعثت رحمة" (رواه مسلم). فهذا نبي الرحمة لا يلعن العاصي بمعصيته في وجهه أو خلف ظهره، وإن كانت بعض المعاصي قد لُعن أهلها، لكن هي لعنة عامة دون ذكر أسماء أصحابها.
قال الإمام البغوي رحمه الله في طريقة التعامل مع العصاة: (عليه أن يوقر البر ويرحم الفاجر فيستغفر له، فإذا لعنه في وجهه زاده ذلك شرًا) (جامع المهلكات للشيخ عرفان بن سليم، ص 476)، منقول من شرح السنة له.
وكذلك فإن الموعظة أدبها عندما تخص الشخص وحده تكون سرًا. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: (من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه) (النوادر من حِكم الشافعي لمعوض عماشة، ص 13).
وقد جاءت في الحكمة التي يقول فيها القائل: (غاية الأدب أن يستحي المرء من نفسه أولًا). فالذي لا يستحي من نفسه ولا من غيره لا يكون هذا واعظًا مهما حاول؛ فأخلاقه الدنيئة هي من تمنعه من ذلك.
قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(النحل: 125). والحكمة مبنية على أسس مهمة، وهي: أخلاق الداعي بأن تكون أخلاقًا حسنة مؤهلة للاقتداء بها، وكذلك العلم في مجال دعوته، والصبر على أذى الناس له، وأهمها اختيار أجمل الألفاظ التي تُدهش السامع، فيُفتح قلبه لحب سماع الموعظة كاملة.
قال الشيخ السعدي رحمه الله على هذه الآية: (أي كل أحد على حسب حاله وفهمه وقبوله وانقياده)(ص 427 تيسير الكريم الرحمن له).
وهنا يجب أن تكون للداعي إلى الله قوة في البصيرة في تعامله مع الناس بين الترغيب والترهيب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد