الصبر طريق الإيمان


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فإن الصبر هو الدافع الذي يقوي الإيمان، فكلما كان الصبر أكثر كان الإيمان أقوى وأشد من السابق. فتصبر على أقدار الله مهما كانت صعبة، وتصبر على رزق الله مهما كان ضيقًا، وتصبر على الطاعة مهما كانت فيها مشقة، وتصبر على عدم فعل المعصية مهما كانت فيها لذة، وتصبر على الابتلاء مهما كان شديدًا، وتصبر على الفراق مهما كان بعيدًا، وتصبر وتصبر حتى يمتلئ قلبك بالإيمان ويغلف بالإخلاص ويعمر بالصدق ويزين بالتقوى.

الصبر لا يظهر حتى يظهر الابتلاء، فالصبر كالمحطة والناس فيه ينتظرون حافلة الفرج أو حافلة الرزق أو حافلة الشفاء... إلخ. والابتلاء قد يكون إما خيرًا وقد يكون شرًا، فالظاهر ليس كل الحقيقة لأن الكثير من الناس يعتقدون أن الصبر يكون فقط على المرض والفقر وكل ما هو محزن، وهذا خطأ لأن الصبر نوعان: صبر على الخير وصبر على الضرر.

الصبر على الخير هو أصعب أنواع الصبر، ومنه الصبر على المال والولد والسلطة... إلخ. فليس من الصعب أن يكون الرجل غنيًا ولكن من الصعب الصبر على الغنى، فالمال هو فتنة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكم من طاغية أطغاه المال بسبب كثرته. ولهذا قال بعض السلف: *البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون*. فصبر الفقير والمريض هو انتظار الفرج دون يأس، وصبر الغني والقوي هو التواضع دون فخر.

أما الصبر على الضرر مثل الفقر والمرض والمظالم... إلخ، فهذه لا تفتح الأبواب في وجوه الكبرياء والغرور، فيكون الصبر فيها أسهل، فيصبر المسلم نفسه على الألم، وهذا الصبر يحتاج إلى صبر آخر لكي لا يفقد الأمل. قال صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" (رواه مسلم).

قال ابن القيم رحمه الله في معنى الصبر: *حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش كخمش الوجوه وشق الثياب عند المصيبة*(نقلًا من كتاب الصبر للشيخ جار الله رحمه الله ص 6).

وقال بعض أهل العلم: *الصبر فهو حبس النفس على ما تكره أو احتمال المكروه بنوع من الرضا والتسليم*(المصدر السابق ص 26).

وعكس الصبر هو الجزع والسخط، ولذلك فالمسلمون ينقسمون في الصبر إلى ثلاثة أقسام: منهم من يُبتلى فيصبر فيزداد إيمانه، ومنهم من لا يصبر فينقص إيمانه، ومنهم من يكون صبره ضعيفًا جدًا فيبقى إيمانه على حاله أو ينقص قليلًا. فاليأس يُضعف الصبر، وبقوة الصبر ينتهي القنوط. فالذي يقنط من رحمة الله ليس له صبر، أما الذي ييأس من أمر ما فهذا صبره ضعيف.

وقد قال أهل العلم: *فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر*(نقلًا من كتاب الصبر للشيخ جار الله رحمه الله ص 39).

وهذا لا يتناقض مع ما قلناه سواء كان الصبر يقوي الإيمان أو الإيمان هو من يقوي الصبر، فهما مثل اليدين في تعاونهما مع بعض، فإن ثقل عليك ما تحمله في اليد اليمنى غيرت إلى اليد اليسرى، وكذلك الإيمان والصبر. فإن ضعف الإيمان قويته بالصبر، وإن ضعف الصبر قويته بالإيمان. مثل من أراد أن يعصي الله، فهذا قد ضعف من جانب إيمانه، فيصبر نفسه بقصارة العمر فلا يرتكب المعصية، وأما من ضعف صبره في جانب الرزق فيقوي إيمانه بالله صبره على الضيق فلا يتسخط وهكذا.

وقال الشيخ السعدي رحمه الله: *بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم هانت وطأتها وخفت مؤنتها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضى، يدع الأشياء المُرة حلوة فتُنسيه حلاوة أجرها مرارة صبرها*(الوسائل المفيدة للحياة السعيدة صفحة 10).

واعلم أن للصبر وجهين، وهما الحمد والشكر. فأن تحمد الله عز وجل على أن هذا الابتلاء جاء ليخفف عنك في الدنيا من ألم الآخرة، وأن تحمد الله عز وجل بأن هذا البلاء لم يكن أكثر مما هو، وأن تنظر إلى من هو أسفل منك كيف عيشه في حياته وبما فُضلت عليه أنت، ثم تشكر الله تعالى على توفيقه إياك للصبر.

وقد قال بعض السلف: *الإيمان نصفان، فنصف صبر ونصف شكر*(ص 7/8 نقلًا من كتاب الصبر للشيخ جار الله رحمه الله). فليس كل مسلم صابر وإنما كل مؤمن صابر. واعلم يرحمك الله أن الله عز وجل يبتلي العبد المسلم على حسب طاقته في الصبر ودرجة إيمانه، فإن صبر العبد كان صبره ذاك كافيًا لمواجهة ذلك البلاء والابتلاء، وكل مسلم أسلم لله في الدنيا لا يسلم من البلاء.

قال تعالى حاكيًا عن نبيه يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}(يوسف 18)، وجمال الصبر هو اليقين بأن الفرج قريب.

قال الشيخ السعدي رحمه الله عن هذه الآية: *صبرًا جميلًا سالمًا من السخط والتشكي إلى الخلق وأستعين الله على ذلك*(ص 371 تيسير الكريم الرحمن له).

وقد قال ابن القيم رحمه الله: *والصبر يكون بالله ولله ومع الله*. ثم قال: *فالصبر بالله هو الاستعانة به... والصبر لله هو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه... والصبر مع الله هو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية، صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت، فهذا معنى كونه صابرًا مع الله*(نقلًا من كتاب الصبر للشيخ جار الله رحمه الله ص 7).

وقد قسم أهل العلم الصبر على ثلاثة أقسام. قال الشيخ الفوزان حفظه الله: *الصبر ثلاثة أنواع: الأول صبر على طاعة الله، والثاني صبر على محارم الله، والثالث صبر على أقدار الله*(شرحه للأصول الثلاثة صفحة 26).

وقال ابن القيم رحمه الله: *صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها*(عدة الصابرين ص 33).

واعلم أن الصبر ليس له حدود كما يُروج له، فكلمة *الصبر* لا تحتاج إلى تحديد أجلٍ لأنها طريق إلى تحقيق كل ما هو أمل، فالصبر يُمدد أو يُعدد ولا يُحدد أو يُقيد. أي معنى يُمدد فهو أن تنتظر لفترة، فإن طال الزمن تنتظر فترة أخرى وتصبر أكثر مع تجديد الأمل في الله أحسن من الفترة الأولى. ويُعدد يعني جائز بأن تقول: *صبرت عشرة أعوام على كذا وكذا*، ولكن دون يأس أو أذى بالكلام تجلبه لنفسك.

ولا يُحدد أي بأن تقول: *أصبر لشهر كذا أو لعام كذا فقط*، لا يصح. فإن لم يتحقق ما تريده تركت الأسباب. أما لا يُقيد بمعنى إن حدث ما كنت تريده في وقته كنت سعيدًا، وإذا طال الزمان عصيت الرحمن، وهذا يكون لمن أخفق ولم يصل لمبتغاه فيكون التقييد بالفرج والنجاح، فكأنه هنا يشترط على الله ذلك ليواصل طاعته له. فالله جل جلاله يمتحن العبد بالبلاء لتظهر علامات ضعفه في دينه فيصلحها، وهو أعلم به وما سيصدر منه، فهو علام الغيوب وما تكتمه الصدور في القلوب. فلولا هذا الابتلاء ما رُفعت درجتك، ولا غُفر ذنبك، ولا زيد في حسناتك. قال تعالى: {أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}(القصص 54). وهذا جزاء الصبر، سبحان الله العظيم. وهذا خاص وليس عام.

إذن، الصبر هو خُلق الأفاضل، ونصر للأرامل، ونجاة للحوامل، ومفتاح لكل العوامل. فحقيقة الصبر هي عندما تبتسم من شدة الألم وتفرح لأنك تعلم *أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك* وهو من تقدير الله العزيز في حياتك. فالإنسان يعيش صراعات مع هذه الحياة في شتى الطرق والمواجهات، ومنها المواجهات المعنوية والنفسية والبدنية والمالية والاجتماعية والعائلية والدراسية والسياسية... إلخ.

وكل لها نقاط بين القوة والضعف على حالة أي شخص من بين أحواله بالحياة. فالإنسان خلقه الله للعبادة ثم للامتحان لقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(العنكبوت 1)، والفتنة هنا هي بمعنى الاختبار من الله عز وجل على الخير والشر لمن يصبر من الناس ويشكر فينجو بصدقه في عبادة ربه.

قال الشيخ السعدي رحمه الله في حالة لم تكن هذه الفتن: *لم يتميز الصادق من الكاذب والمحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة أن يبتليهم بالسراء والضراء والعسر واليسر والمنشط والمكره والغنى والفقر وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن*(تيسير الرحمن الكريم له صفحة 596).

قال ابن كثير رحمه الله: *الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان*(تفسير القرآن العظيم 3/503).

وهذه الآية التي ذكرناها هي قياس درجة الإيمان بالله عز وجل بين الصبر والشكر. والله سبحانه وتعالى يعلم ما سيصدر منك، لكنه امتحان لكل مؤمن: هل إيمانه صادق أم كاذب؟ وهل إيمانه قوي أم ضعيف؟ ويكون هذا الابتلاء إما خيرًا أو شرًا في الحياة، وهي فتنة المال والولد والجمال والصحة والأهل... إلخ.

قال الشيخ السعدي رحمه الله: *ومن كان في الضراء صابرًا وفي السراء شاكرًا فحياته كلها خير*(نقلًا من كتاب الصبر للشيخ جار الله رحمه الله ص 11). فالعاصي من المسلمين إن تاب يُمتحن، هل يصبر أم لا؟ ودرجة صدقه تظهر في قوة صبره وزيادة إيمانه، فربما من ألم تأتي السعادة، فبعض المصائب التي تأتي ظاهرها ألم وباطنها سعادة تظهر بعد مرور القليل من الزمن.

قال أحدهم: *لو كان الصبر رجلًا كان أكمل الرجال*. وقال آخر: *الصبر كنز من كنوز الجنة، وإنما يُدرك الإنسان الخير كله بصبر ساعة*. فما بالك بصبر شهر أو سنة أو أكثر؟

قال ابن القيم رحمه الله: *فالشجاعة والعفة والجود والإيثار كلها صبر ساعة*(نقلًا من كتاب الصبر للشيخ جار الله رحمه الله ص 9).

وقال أيضًا: *والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له فلا إيمان لمن لا صبر له*(المصدر السابق ص 8). ويقال أيضًا: *إن الصبر يُصير العبيد ملوكًا*.

الفرق بين المصابرة والتصبر:

فهما في المعنى سواء، أي الصبر على البلاء، لكن المصابرة تكون بين الناس فيما بينهم، أي تُذكرني أنت بالصبر عندما أكون حزينًا وأذكرك به أنا عندما تكون أنت حزينًا. أما التصبر فهو بيني وبين نفسي، فأتذكر أيام الرخاء والهناء فأحمد الله على ذلك، وأزرع الأمل في قلبي عن طريق هذا الصبر. إذن، التصبر يكون بيني وبين نفسي، فأتذكر أيام الرخاء في أيام الشدة من أجل الوصول إلى مرتبة الصبر المطلوب منا في هذه الحياة. فالصبر هو دواء يجب أن يتبادله الناس فيما بينهم.

قال ابن القيم رحمه الله: *في الصبر المعاني الثلاثة: المنع والشدة والضم، ويقال صبر إذا أتى بالصبر، وتصبّر إذا تكلفه واستدعاه، واصطبر إذا اكتسبه وتعلمه، وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر، وصبّر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر، واسم الفاعل صابر وصبار وصبور ومصابر ومصطبر*(عدة الصابرين له ص 18).

قال أحدهم: *ففي الشدة يُقاس الصبر*. وما جاء في السنة عن الصبر كثير، وهذا بعضها: قال صلى الله عليه وسلم: *... والصبر ضياء... * (رواه مسلم)، أي يضيء الشدائد. وقال عليه الصلاة والسلام: "... واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا" (رواه أحمد). وقال : "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" (متفق عليه). وقال : "ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه... ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا... " (رواه الترمذي وغيره). وقال : "... ومن يتصبر يُصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر"(متفق عليه).

وختامًا:

قال تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}(المؤمنون 111). إذن، الفوز بالجنة طريقه هو الصبر في حياة الدنيا، وهذا خاص بالمسلمين ومن مات على الإسلام فقط.

قال الشيخ السعدي رحمه الله مفسرًا للآية: *أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم والنجاة من الجحيم*(ص 532 تيسير الكريم الرحمن له). فالصابرون لهم درجات في الجنة حسب قوة صبرهم. إذن، الصبر هو طريق الإيمان وطريق الجنة، والصبر هو أحد وجوه القناعة، بل هو من علامات التقوى. فالتوكل على الله من جنود الصبر، وقائد هذه الجنود هو الإيمان بالله عز وجل.

وقد قال ابن القيم رحمه الله: *ولذة الدنيا والآخرة ونعيمهما والفوز والظفر فيهما لا يوصل إليه إلا على جسر الصبر، كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط، فلا ينال دينًا ولا دنيا إلا بالصبر*(نقلًا من كتاب الصبر للشيخ جار الله رحمه الله ص 8). قال تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(هود 115). وهذا دال على أن الصابر محسن، فالصبر هو قلب الإحسان، ولا يكون المسلم محسنًا وهو ليس صابرًا. فالصبر من تمام الإحسان حتى تصبر على أذية من أحسنت إليهم، وهذا هو مقام الإحسان على حقيقته. فالصبر يذيب الجبال من الذنوب، ويزيد الحسنات وزن الجبال بطولها وعرضها.

قال الشيخ السعدي مفسرًا للآية الكريمة: *أي احبس نفسك على طاعة الله وعن معصيته وإلزامها لذلك واستمر ولا تضجر... وفي هذا ترغيب عظيم للزوم الصبر بتشويق النفس الضعيفة إلى ثواب الله كلما ونت وفترت*(ص 367 تيسير الكريم الرحمن له في تفسير كلام المنان).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply