بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ{(76).
لما ذكر الله سبحانه وتعالى خيانة أهل الكتاب في الأمور الدينية ولبسهم الحق بالباطل، وعُتوهم وعنادهم ونفاقهم وتغريرهم للمؤمنين، ذكر حالهم في الأمور الدنيوية في المال خاصة.
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وسموا أهل كتاب لأنهم هم الذين عندهم بقايا من الدين النازل على الأنبياء. فاليهود عندهم بقايا من التوراة، والنصارى عندهم بقايا من الإنجيل.
{مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} وضعه عنده أمانة {بِقِنْطَارٍ} من المال الكثير وما دونه بطريق الأولى.
{يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يردُّه إليك من غير تغيير ولا نقص.
روى البخاري عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسرائيل سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسرائيل أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قَالَ فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا قَالَ صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلى صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا [أي سوى موضع النقر وأصلحه من تزجيج الحواجب وهو حذف زوائد الشعر] ثُمَّ أَتَى بِهَا إلى الْبَحْرِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا".
{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألقته بمفردات كلامها.
{لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} بالمطالبة به ليل نهار والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، ولذلك قدم المجرور للاهتمام، فليس المراد هيئة القيام، إنما هو من قيام المرء على أشغاله: أي اجتهاده فيها.
وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى ألا يؤديه. والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل، فيدخل أكثر من القنطار وأقل. وفي الدينار أقل منه. والمعنى: منهم من يؤدي الأمانة وإن كثرت، ومنهم من لا يؤديها وإن قلت.
{ذَلِكَ} ذلك الاستحلال والخيانة، وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب.
{بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي} معاملة {الْأُمِّيِّينَ} وهم العرب المشركين وما سواهم ممن ليسوا بيهود.
{سَبِيلٌ} إثم وحرج وعتابٌ ومؤاخذة، كقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}[التوبة:91] وقوله: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}[الشورى:41].
وقصدهم من ذلك أن يحقروا المسلمين، ويتطاولوا بما أتوه من معرفة القراءة والكتابة من قبلهم. أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة، أي الجاهلين: كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دين موسى عليه السلام.
وأيامّا كان فقد أنبأ هذا عن خلق عجيب فيهم، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين، واستباحة ظلمهم مع اعتقادهم أن الجاهل أو الأمي جدير بأن يدحض حقه.
قال ابن عاشور: والظاهر أن الذي جرأهم على هذا سوء فهمهم في التوراة، فإن التوراة ذكرت أحكاما فرقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق، غير أن ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر: في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرئ كل صاحب دين يده مما أقرض صاحبه. الأجنبي تطالب، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئه.
وجاء في الإصحاح 23 منه: لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تقرض بربا.
ولكن شتان بين الحقوق والمؤاساة فإن تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملة الواحدة.
وعن ابن الكلبي: قالت اليهود: الأموال كلها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم.
وهذان الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين، فاستحل بعضهم حقوق أهل الذمة، وتأولوها بأنهم صاروا أهل حرب، في حين لا حرب ولا ضرب.
روى عبد الرزاق عن صَعْصَعَة بن يزيد؛ أن رجلا سأل ابن عباس، قال: إنا نُصِيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاةَ؟ قال ابن عباس: فَتَقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إنهم إذا أدوا الجزية لم تَحل لكم أموالهُم إلا بِطِيب أنفسهم.
{وَيَقُولُونَ} مضمَّنَةٌ معنى يفترون {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوا بهذه الضلالة، وادعوا أن هذا شرعًا من الله، وإنما هم قوم بُهْت، فَإن الله حَرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها.. قال المفسرون: إنهم ادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون مفترون على الله تعالى وذلك لأنهم استحلوا ظُلْمَ من خالفهم وقالوا لم يُجعل في التوراة في حقهم حُرمةٌ. فيكون قولهم أشد من قول من يقول الكذب وهو لا يعلم أنه كذب.
فهي جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب، أي: إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل، إنما هو عن علم.
** وفيه أن أهل الكتاب لا يقتصرون على الظلم والعدوان ويجعلون ذلك من تلقاء أنفسهم بل ينسبونه إلى شريعة الله.
وأن من افترى الكذب على الله فيما يفتي به أو يحكم به بين الناس ففيه شَبَةٌ باليهود والنصارى. وقد وجد في هذه الأمة من يفتري الكذب على الله سواء في الحكم بين الناس أو في الفتوى التي ليست بحكم ولكنها إخبار عن الشرع.
والمقصود من الآية ذم الفريق الثاني إذ كان من دينهم -في زعمهم- إباحة الخيانة ولذلك طول الكلام فيه. وإنما قدم عليه قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} إنصافا لحق هذا الفريق، لأن الإنصاف مما أشتهر به الإسلام، وإذ كان في زعمهم أن دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم، فقد صار النعي عليهم، والتعبير بهذا القول لازما لجميعهم أمينهم وخائنهم، لأن الأمين حينئذ لا مَزِيَّةَ له إلا في أنه ترك حقا يبيح له دينه أخذه، فترفع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.
وتقديم المسند في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما: ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه، والثاني للتعجيب من أن يكون الْخَوْنُ خلقا لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجيب عند قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} فيكسب المسند إليهما زيادة عجب حال.
وما دام أهل الكتاب ينقسمون إلى قسمين، فإننا لا ندري حين نعاملهم من أي القسمين هؤلاء، لكن على العموم يجب علينا الحذر من أهل الكتاب لاسيما إذا تبين لنا أنهم خونة، وأهل غدر، وأنهم لا يسعون لمصالحنا أبدًا كما هو الواقع، فإن الواقع في الوقت الحاضر أن اليهود والنصارى لا يسعون أبدًا لمصالح المسلمين، بل يسعون للإضرار بالمسلمين والإفساد عليهم، حتى إنهم إذا رأوا الدولة متجهة إلى الإسلام من دول المسلمين فإنهم يحاولون إسقاطها، والتضييق عليها من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وهذا شيء يعرفه كل من تدبر وتأمل في الحوادث اليوم.
إذن يجب علينا أن نحذر غاية الحذر من اليهود والنصارى، وأن نعلم أن اليهود والنصارى كل واحد منهم ولي للآخر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:٥١]، مهما طال الأمد فهم أولياء ضد عدو مشترك وهم المسلمون.
وأعمال الدولة الحساسة لا ينبغي أن يؤتمنوا فيها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}[آل عمران:١١٨].
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى: فَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: *إنَّ بِالشَّامِ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَقُومُ خَرَاجُ الشَّامِ إلَّا بِهِ* فَكَتَبَ إلَيْهِ: *لَا تَسْتَعْمِلْهُ*. فَكَتَبَ: *إنَّهُ لَا غِنَى بِنَا عَنْهُ* فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: *لَا تَسْتَعْمِلْهُ* فَكَتَبَ إلَيْهِ: *إذَا لَمْ نُوَلِّهْ ضَاعَ الْمَالُ* فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: *مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ *أي قدر أنه مات.
ولهذا ذكر شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه أنه لا يجوز أن يؤتمن غير المسلمين على أسرار المسلمين، وأن ذلك من الخيانة، وأن ذلك خطر على الدولة الإسلامية، وذكر أشياء عجيبة -رحمه الله- في خطر هؤلاء على الأمة الإسلامية إذا ولوا أشياء من أسرار الدولة. وهو صادق لا شك في هذا، ولا شك أنهم أعداء مهما كان.
{بَلَى} حرف جواب وهو مختص بإبطال، النفي فهو هنا لإبطال قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}.
إثباتٌ لما نفَوْه، أي: بلى عليهم فيهم سبيلٌ، والمعنى: ليس الأمر كما يدعون بل عليهم الإِثم والحرج والمؤاخذة، وإنما لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة على {مَنْ أَوْفَى} أي ولكن من أوفى، بمعنى أتم {بِعَهْدِهِ} بما عاهد عليه غيره {وَاتَّقَى} وَاتَّقَى الله في هذا الإيفاء وغيرها من محارم الله تعالى كالخيانة ونقض العهد.
{فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} والمقصود نفي محبة الله عن ضد المذكور بقرينة المقام.
وأتى بلفظ: {المتقين} عامًا تشريفًا للتقوى وحضًا عليها. ولم يقل: *فإن الله يحبه* ومثل هذا التعبير يُسمى: «الإظهار في موضع الإضمار». والإظهار في موضع الإضمار له فوائد منها:
أولًا: تنبيه المخاطب، ووجه ذلك أن الكلام إذا كان على نسق واحد لم يكن فيه ما يستدعي الانتباه. ولهذا يمشي المخاطب أو المتكلم ولا يوجد في كلامه ما يستدعي الانتباه، فإذا تغير الأسلوب وجاء الاسم مظهرًا بموضع الإضمار فإن الإنسان ينتبه.
ثانيًا: أن في الإظهار في موضع الإضمار التعليل للحكم الذي جاء فيه الإظهار في موضع الإضمار، وذلك أن قوله: فإن الله يحبه ليس فيه إظهار العلة، عكس كقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي لتقواهم فأفاد العلة.
ثالثًا: أنها تفيد التعميم أي: كل من يعمه هذا المظهر، واقرأ قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}[البقرة:٩٨]. ولم يقل: "فإن الله عدو له" لأجل أن يشمل كل كافر سواء كان كفره بهذه العداوة أو بغيرها، فيكون في هذا تعميم الحكم.
** وفيه الحث على تقوى الله، وأنها سبيل محبة الله عز وجل؛ فكل إنسان يحب أن يحبه الله. ومحبة الله متعلقة بالعامل ومتعلقة بالعمل، ومتعلقة بالزمن ومتعلقة بالمكان.
متعلقة بالعامل: كما في هذه الآية: {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. وكما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}[الصف:٤]. وكما في قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:١٩٥].
ومتعلقة بالعمل: كما روى البخاري عن أَبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ -وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ- قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا".
ومتعلقة بالزمن: كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ"[أبو داود]، وقد يقال: إن هذا متعلق بالعمل لا بالزمن.
ومتعلقة بالمكان: كمحبة الله تعالى لمكة، كما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فيها: "عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"[أحمد].
** وفيه الرد على الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل الذين أنكروا محبة الله وقالوا: إنه لا يجوز أن تثبت أن الله (يُحب) قالوا: إذا أثبت أن الله يحب فقد وصفته بالنقص والعيب؛ لأن هذا من خصائص المحدثات، ولأن المحبة لا تكون إلا بين شيئين متناسبين.
وقالوا: ليس المراد بإثبات المحبة نفس المحبة، بل المراد بذلك لازمها وهو «الإثابة»، فمعنى يحب المتقين يعني: يثيب المتقين. أما أن يكون يحبهم فكلا.
ولكن نقول: هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن النصوص لا تكاد تحصر في إثبات محبة الله وأنه يُحِب ويُحَب، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:٥٤] وإذا أحب الله العبد أثابه، فالإثابة من لازم المحبة.
وقولهم: إنها لا تكون إلا بين متناسبين. هذا غير صحيح، فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في أحد: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"[البخاري]، ولا مناسبة بين البشر والجبل؟.
وثبت بالواقع المحسوس أن بعض الحيوان يحب البشر، فالناقة تحب صاحبها، وتأتي إليه من بين الناس، تبرك عنده، ولو جاء أحد غير صاحبها لنفحته برجلها، أو عضته بفمها، لكن صاحبها تحن إليه وتجلس عنده، وإذا سمعت صوته -وإن لم تره- حنت، وكذلك بقية الحيوانات، شيء مشاهد، وهذه محبة.
والهرة تحب بعض أهل البيت دون بعض، إذا جاء أحد من أهل البيت الذين لا تحبهم هربت، وإذا جاء الذي تحب دنت منه، وجعلت تتمسح به. وهذا الشيء مشاهد، ما الذي جعلها تتمسح بهذا وتهاديه وتجلب وده، والثاني تهرب منه وتعاتبه؟ إنها المحبة، فدعواهم بأن المحبة لا تكون إلا بين شيئين متناسبين يكذبها السمع والواقع.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد