بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يلعب الماء دورًا بارزًا بل أساسيًا ورئيسًا في ظاهرة الحياة على الأرض، فلولا وجود الماء لما كانت الحياة ممكنة، قال ربنا : {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون}(الأنبياء: ٣٠).
وفي قوله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي ثلاث تأويلات:
أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء، قاله قتادة.
الثاني: حفظ حياة كل شيء بالماء.
الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي: جعلنا بمعنى خلقنا، ومع ذلك فالماء قد يكون سببًا في هلاك الطغاة، بل أهلك الله المتجبرين عبر الازمنة والقرون!!
أولياء الرحمن معهم الرحمن فهم منصورون، وأولياء الشيطان معهم الشيطان فهم مهزومون، وهذه سنة الله في خلقه، {ولن تحد لسنة الله تحويلًا} وسنة الله في كونه {ولن تجد لسنة الله تبديلًا} وهي مقتضى حكمته في كونه، ورحمته بخلقه، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء).
ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويستعمل عباده في جلب النصر ثمنًا لجنة عرضها السموات والارض: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} (محمد).
وهو تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في غمرة، ويأخذهم على غرة، ويبيدهم في لحظة، ولكنه ابتلى بهم عباده المؤمنين ليكشف معادنهم، ويمتحن صدقهم، و يختبر صبرهم وجهادهم.
بالابتلاء يتميز الذاكر من الناسي، ويتبين الصادق من الكاذب، والعامل من الخامل، الجاحد من الشاكر، والمؤمن من الكافر، والمجاهد من القاعد!!
قصة موسى عليه السلام، تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعًا، وهي مطابقة لما كان يعانيه الرسول ﷺ من فراعين قريش، وكذا فيها من التسلية للمؤمنين، حينما يشتد عليهم أذى الكفار وبغض المنافقين.
فرعون الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدعي الألوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة وصفاقة: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص).
وأن يقول بملء فيه من غير حياء ولا مواربة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات).
ثم يفتخر بقوته وسلطانه فيقول: {ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الزخرف).
ثم يحتقر موسى عليه السلام وهو العبد الفالح والداعية الناصح والنبي الصالح فيقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف).
ولكنه حين حل به العذاب لم يغنِ عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى*إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) (النازعات).
شعر فرعون بالخطر، لما قيل له سيولد من بني اسرائيل من يدمرك ويقضي على ملكك، فوضع قوانين أرضية وضعية وراح يقتل الأبناء كالمرعون، ويستحيي النساء كالمجنون، لكن الله قتله بالقانون الذي وضعه، وانتقم منه في العاشر من المحرم، ونجي الله تعالى المستضعفين من المؤمنين، كيف؟!
كانت عاشوراء دليل الأمل والتفاؤل، وسبيل البشر والنصر، وكان الماء جند من جند الله، سخره الله تعالى لينجي به المؤمنين المستضعفين، ويغرق به المتجبرين المتكبرين، كما أن من الماء كل شئ حي، كذلك يقضي به على الطغاة المستبدين، والبغاة المتغطرسين، ولقد كان عاشوراء يوم التتويج لجهود المؤمنين عبر السنين، وجند الله تعمل لصالح عباده المؤمنين الصابرين المحتسبين في كل وقت وفي كل حين!! {وما يعلم جنود ربك إلا هو}.
فماء الطوفان نصر الله به نوح عليه السلام، وكان أول من صام عاشوراء شكرًا لله عز وجل على النجاة والنصر (حسب رواية أحمد).
وماء البحر نصر الله به موسى على فرعون وجنده فصام موسى يوم عاشوراء شكرًا لله عز وجل على النجاة والنصر.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
قدم النبي ﷺ المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا؟ قالوا هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه"، رواه البخاري، وفي رواية له أيضًا: "ونحن نصومه تعظيمًا له، وزاد مسلم في روايته شكرًا لله تعالى فنحن نصومه".
وهو كذلك اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرًا، وعن هذا يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: وكأن ذكر موسى دون غيره هنا لمشاركته لنوح في النجاة وغرق أعدائهم.
لقد تعرض نوح عليه السلام لضغوطات وابتلاءات لا حصر لها، ومن الابتلاء الذي ضرب أركانه، وأنزل الله بيانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} (التحريم).
يقول ابن عباس رضي الله عنهما كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، فكان ذلك من أمرها، قال أيضًا كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وبلغت حد الخروج من مسمى الأهل بالكلية:
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود). حين تكون أعمال الداعية مادة للسخرية والازدراء والاستهزاء من شذاذ الآفاق، وعديمي الإيمان، ودهماء الناس؛ فإن هذا الابتلاء يصبح مضاعفًا، فكيف ولو كان مزمنًا، شائعًا، ملازمًا ما دام في الطريق سفهاء، إلى حد صوره القرآن بدقة: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} (هود). {كلما مرً}، استمرار الاستهزاء والسخرية قاتل، إلا لنفوس التي تذوقت الايمان، والقلوب التي جبلت على الاحسان، واطمأنت إلى معية الرحمن، فكيف لو كانت هذه السخرية بقيت ما بين سنتين إلى مئة سنة، يصنع فيها الفلك ويسخر فيها الملأ كلما مروا به خلالها.
إن الانتصار بإغراق الأرض كلها إلا سفينة نوح عليه السلام، والإطاحة بكل هؤلاء الكافرين دفعة واحدة، وتطهير الأرض من رجسهم وكفرهم، كانت ولم تزل معجزة فريدة، ونموذجًا مغايرًا للانتصار، وثمرة زكية لجهود نبي صبور، بطل غيور، مجاهد جسور، عليه السلام، وتكليلًا لدعوة لا يكل صاحبها ولا يمل، لا يضعف فيها أو يفتر، لا ينتظر فيها أجرًا ولا شكورًا من ساكني الأرض، كل الأرض.
كانت هذه المعجزة كلها يوم عاشوراء، الذي سجله التاريخ كيوم انتصار ونجاة وشكر لنبيين كريمين من أولي العزم من الرسل، وتحول هائل في التاريخ الإنساني، ففي يوم واحد تعدلت الموازين، وطاش ميزان الكفر والإجرام والطغيان، طاشت كل حسابات المجرمين، مكرهم، تدبيرهم، تجبرهم، إجرامهم سخرياتهم، شائعاتهم، فأتاهم الله من حيث لا يحتسبوا، ومكن الله سبحانه وتعالى ما بين طرفة عين والتفاتتها للمستضعفين الأبرياء الذين زرعوا فسائلهم وانصرفوا محتسبين الأجر من رب السماء والأرض.. وكان ذلك يوم عاشوراء وكان جند الله فيه هو الماء!!
كان موسى عليه السلام واثق من انتقام الله للطغاة أعداء الدين، واستخلاف المستضعفين المناضلين {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} (الأعراف).
استعرض فرعون البحرَ بجيشه الجرَّار العتيد، حتى إذا جاوزه موسى وقومه، أراد موسى عليه السلام أن يَضرب البحر ثانية حتى يذهب يبسه، لكنَّ الله نصحه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} (الدخان).
وكانت إرادة الله أفضل بكثير من إرادة موسى عليه السلام؛ حيث أراد موسى أن يَفصل البحرُ بينهما فقط، وأراد الله أن يغرق فرعون ومَن معه؛ فيخلص البلاد من فساده، وينجِّي العباد من عناده واستبداده. كيف؟!
وجد فرعون نفسه فجأة في وسط الماء، فأدرك مصيره المحتوم؛ وحاول أن يستدرك ما فاته، ولكن الله العدل لم يمكنه من النطق بكلمة التوحيد إلا في الوقت الضائع، حيث لا ينفع أحد إيمانه؛ فكان سوء الخاتمة جزاءً وفاقًا لما ارتكبه من جرائم وحشية في حق الشعب، ومن تطاول على رب العزة حين ادعى -وهو الحقير الذليل- أنه الإله المعبود.. عن ابن عباس أن النبى ﷺ قال: "إن جبريل عليه السلام جعل يدس في فم فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله، فيرحمه الله" أخرجه ابن حبان و الترمذي وصححه الألباني.
وسجل القرآن ماحدث في سورة طه {لَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى*فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ*وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (طه).
وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، وصدق الله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت).
وكانت العاقبة للمتقين، والنصر حليفهم، متى ما تمسكوا بدينهم، وثبتوا على مبدأهم واستنزلوا النصر من ربهم: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال).
اللهم انصر عبادك المؤمنين المستضعفين واهزم أعدائك المتآمرين المتجبرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد