يلوون ألسنتهم بالكتاب


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:   

 

}وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{(78).

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا} طائفة وجماعة من أهل الكتاب، وقيل هم اليهود، واللام لزيادة تأكيد على تأكيد.

{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} أصل الليّ الفتل من قولك: "لويت يده إذا فتلتها"، ومنه: "لويت الغريم" إذا مطلته، وفي الخبر (لَيُّ [مطل] الْوَاجِدِ [القادر المليئ] يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ)[البخاري] فالمعنى يفتلون ألسنتهم..

واللي ثلاث أقسام:

الأول: لي باللفظ لكنه لا يتعلق بنفس الكتاب المنزل إنما يأتي بكلام من عنده فيأتي به يتغنى به كما يتغنى بالكتاب المنزل، فيظن السامع أنه من عند الله.

والثاني: لي لفظي يتعلق بتغيير هيئة الكتاب المنزل وذلك ما يسمى بالتحريف اللفظي. ومثال ذلك قولهم: راعنا، وأسمع غير مسمع.

والثالث: اللي المعنوي، فيقول: معنى الآية كذا وكذا، وهذا لا شك أنه لي باللسان يلوون ألسنتهم بالكتاب؛ لأن الكتاب يريد كذا وهم يقولون المراد كذا.

وهؤلاء المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.

قال ابن عاشور: واللي في الأصل: إدارة الجسم غير المتصلب إلى غير الصوب الذي هو ممتد إليه: فمن ذلك لي الحبل، ولي العنان للفرس لإدارته إلى جهة غير صوب سيره، ومنه لي العنق، ولي الرأس بمعنى الالتفات الشزر أو الإعراض، قال تعالى: {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ}[المنافقون:5].

والذي في هذه الآية يحتمل أن يكون حقيقة بمعنى تحريف اللسان عن طريق حرف من حروف الهجاء إلى طريق حرف آخر يقاربه لتعطي الكلمة في إذن السامع جرس كلمة أخرى، وهذا مثل ما حكى الله عنهم في قولهم {راعنا} وفي الحديث من قولهم في السلام على النبي: "السام عليك" أي الموت.

أو لعلهم كانوا يقرؤون ما ليس من التوراة بالكيفيات أو اللحون التي كانوا يقرؤون بها التوراة ليخيلوا للسامعين أنهم يقرؤون التوراة.

ويحتمل أن يكون اللي هنا مجازا عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم: لوى الحجة أي ألقى بها على غير وجهها، وهو تحريف الكلم عن مواضعه: بالتأويلات الباطلة، والأقيسة الفاسدة، والموضوعات الكاذبة، وينسبون ذلك إلى الله، وأياما كان فهذا اللي يقصدون منه التمويه على المسلمين لغرض، كما فعل ابْنُ صُورِيَّا في إخفاء حكم رجم الزاني في التوراة وقوله: نحمم وجهه.

وقال في البحر المحيط: والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي: بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ، والمعاني تبع للألفاظ، ومن طالع التوراة علم يقينًا أن التبديل في الألفاظ والمعاني، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الأخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم.. وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها، فضلًا عن منصب النبوة.

هذا مع خلوها من ذكر: الآخرة، والبعث، والحشر، والنشر، والعذاب والنعيم الأخرويين، والتبشير برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأين هذا من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].

وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}[الفتح:29].

وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة، قال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}[الأنعام:91] وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}[المائدة:15] فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل.

{لِتَحْسَبُوهُ} أي المحرِّفَ، اللام هذه يحتمل أن تكون للتعليل، ويحتمل أن تكون للعاقبة. والفرق بينهما أن لام التعليل تحمل على الشيء، ولام العاقبة تكون غاية للشيء. فمثلًا إذا قلت: حضرت لأقرأ، اللام للتعليل، يعني أن الذي حملني على الحضور هو القراءة.

وإذا قلت: اصطدت هذا الصيد ليكون غداء لي، هذه للعاقبة، ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:8]، فإن آل فرعون لم يلتقطوه لهذا السبب أبدًا، ولو علموا أنه يكون عدوًا وحزنًا لهم ما التقطوه.

{مِنَ الْكِتَابِ} أي لتظنوه من الكتاب المنزل {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} ليس منه في نفس الأمرِ وفي اعتقادهم أيضًا. ولكنه من قبل أنفسهم.

{وَيَقُولُونَ} صريحًا غير مكتفين بالتورية والتعريض، مع ما ذكر من اللَّيِّ والتحريف على طريقة التصريحِ لا بالتورية والتعريض.

{هُوَ} أي المحرفُ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} منزلٌ من عند الله {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وفيه من المبالغة في تشنيعهم وتقبيحِ أمرِهم وكمالِ جرأتهم ما لا يخفى، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ والكتاب في محل الإضمارِ لتهويل ما أقدموا عليه من القول.

وهذا تأكيد لقوله {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} نفى أولًا أخص، إذ التعليل كان لأخص، ونفي هنا أعم، لأن الدعوى منهم كانت الأعم، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها.

وجيء بالمضارع في هاته الفعال: {يلوون}، {يقولون}، للدلالة على تجدد ذلك وأنه دأبهم. وتكرير الكتاب في الآية مرتين، واسم الجلالة أيضا مرتين، لقصد الاهتمام بالاسمين، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما، والمتعلقين به.

قال أبو بكر الرازي: هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده. وقد نفى الله تعالى نفيًا عامًّا لكون المعاصي من عنده. انتهى.

وهذا مذهب المعتزلة، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم. وقال ابن عطية {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} نفي أن يكون منزلًا كما ادّعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد، ومنهم بالتكسب. ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل.

{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون ومفترون على الله تعالى، وهو تأكيدٌ وتسجيلٌ عليهم بالكذبِ على الله والتعمُّد فيه.

وفيه: بيان مكر اليهود وتضليلهم للناس وخداعهم لهم باسم الدين والعلم. وجرأة اليهود على الكذب على الناس وعلى الله مع علمهم بأنهم يكذبون وهو قبح أشدّ وظلم أعظم. مع التحذير للمسلم من سلوك اليهود في التضليل والقول على الله والرسول لأجل الأغراض الدنيويّة الفاسدة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply