وقفات مع سورة الزلزلة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مُقتَرَحُ خُطبَة الجُمُعَةِ الرابعة مِن شَهرِ المحرم، وَدُرُوسُ هذا الأُسبُوعِ، وَدُرُوسُ النِّسَاءِ.

الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: التذكير بهذه السورة الجليلة العظيمة والتي تصور لنا مشاهد من يوم القيامة تنبيهًا للغافلين، وتحفيزًا للمجتهدين.

مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:

أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، نقف بإذن الله تعالى هذه الوقفات التربوية، ونعيش هذه اللحظات في رحاب سورة من سور القرآن الكريم نقتطف منها الدروس والعِبر.

• سورةٌ هي من قصار السور؛ لكنها تهزُّ القلوبَ الغافلةَ، وتزلزلُ القلوبَ القاسيةَ، وتأخذُ الناسَ أخذًا من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة.

• سورةٌ عَدَدُ آياتها قليلةٌ، وكلماتُها معدودةٌ؛ لكنها تحملُ من المعاني والعظات ما تخشع لها الجبالُ، وتهتز لها القلوبُ في الصدور.

وقد ورد ذكرُها في السُّنَّةِ النبويَّة؛ كما في مسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرئني يا رسول الله، قال له: "اقرأ ثلاثًا من ذوات {ألر}" فقال له الرجل: كبر سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني، قال: "فاقرأ من ذوات {حم}" فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، فَقَالَ: "اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ"، فَقَالَ: مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: *وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً* [يعنى: سورة جامعة لأنواع الخير ومختصرة ليسهل عليه حفظها] فَأَقْرَأَهُ: "{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا"، قَالَ الرَّجُلُ: *وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحق لَا أَزْيَدُ عَلَيْهَا أَبَدًا*، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ، أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ"[رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم].

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا، مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا"[رواه أبو داود، والبيهقي، وحسنه الألباني].

وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتْ عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ القُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ القُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ القُرْآنِ"[ضعيف].

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} بَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ فَيُغْفَرُ لَكُمْ، لَخَلَقَ اللَّهُ أُمَّةً مِنْ بَعْدِكُمْ يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ".

فهيَّا بنا نعيش هذه اللحظات المباركات، مع هذه الوقفات، نتأملُ فيها ونتدبرُ آيات هذه السورة المباركة؛ وهي سورة مدنية، وعدد آياتها ثمانية آيات، وسُمِّيَت بالزلزلة لافتتاح آياتها بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} ومن أسماء هذه السورة أيضًا: الزلزال؛ لأنّها تحدّثت عن حدوث الزلزال يوم القيامة، وإذا زلزلت؛ لأنّ الله تعالى افتتح السورة الكريمة بها.

}إذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{

أي: إذا حُرِّكتِ الأرضُ حَرَكَةً شديدة، واضْطَرَبت لقيامِ الساعةِ؛ كما قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}، وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ}.

وتساءَلَ أهل العلم: عن هذه الزلزلة التي تحدث للأرض، هل هي قبل قيام الساعة، أم بعدها؟ فقال بعضهم: قبلها، وقال آخرون: بعدها، وجمع آخرون بين القولين: بأن هذه الزلزلة تكون في آخر عمر الدنيا، وهي أول أحوال الساعة؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ}.

وهذه الزلزلة أمرها عظيم لأنها تكون عامة، وليس كزلازل الدنيا التي تكون في ناحية دون أخرى؛ ولذلك يشيب منها الولدان، وتذهل من هولها المراضع؛ كما وصف الله تعالى حال الناس في هذا الوقت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}.

هذه الأرض التي لطالما عُصِيَ الله على ظهرها؛ فكم من مظالم حصلت بسببها؟! وكم من دماء أُرِيقت بسببها؟! وكم من ذنوب ومعاصي ارتُكِبت على ظهرها؟! هذه الأرض يأتي يومٌ تُرَجُّ بأهلها رجًّا، وتُدَكُّ بأهلها دكًّا، وتتزلزل زلزالًا شديدًا؛ فتندكُ جبالُها، وتُسوَّى تلالُها، وتكون قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمتا.

بل يأتي يومٌ تتبدل فيه هذه الأرض غير الأرض؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}.

}وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا{

أي ألقت ما في بطنها من الموتى، ومن الكنوز؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي: بُسطت ووسعت، وقذفت ما في بطنها من الأموات، وتخلَّتْ عنهم.

فمن أثقالها كنوز الأموات في بطنها؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا، أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا".

قال الطبري رحمه الله: *إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوق ظهرها حيًّا فهو ثقل عليها؛ ولذا سُمِّي الإنس والجن بالثقلين*.

}وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا{

إذا رأى هذا الأمر العظيم؛ قال مستعظمًا لذلك: {مَا لَهَا}؟ أي: ما الذي حدث للأرض، وأي شيء أصابها، ولماذا اضطربت، وارتجت؟

}يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{

أي تُخبِرُ الأرضُ بما عمل العاملون على ظهرها من خيرٍ أو شر؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا"[رواه الترمذي، والنسائي، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع].

نعم، ستتكلم الأرض وتتحدث بأمرٍ من الله تعالى: فلان ارتكب كذا وكذا من المعاصي على ظهري، فلان شرب الخمر، فلان زنا، فلان فعل كذا وكذا في مكان كذا، وتتحدث أيضًا: فلان سجد في مكان كذا، فلان ذكر الله عز وجل في مكان كذا؛ فماذا ستتحدث عنك الأرض يا عبدَ الله؟ هل بالخطوات التي تخطوها إلى فعل المعاصي والشهوات؟! أم بالخطوات التي تخطوها لفعل الطاعات؟!

قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قال مجاهد رحمه الله: *وَآَثَارَهُمْ ؛ أي خُطاهُم*.

ولما جاء بنو سلمة يطلبون القرب من المسجد؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلِمة، ديارَكم، تُكتبُ آثارُكم، ديارَكم، تُكتبُ آثارُكم".أي الزموا البقاء في دياركم البعيدة؛ تُكتبُ آثار خطاكم.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى مُصلَّى العيد، ذهب من طريق ورجع من طريق آخر؛ قال العلماء: حتى يشهد له كلا الطريقين يوم القيامة.

ولقد كان الصحابة ينتبهون لهذا الأمر جيدًا ويحرصون كل الحرص؛ فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: (اذكروا الله عند كل حجيرة وشجيرة لعلها تأتي يوم القيامة فتشهد لكم) وكان أحدهم يصلي في المسجد الواحد في أكثر من مكان وموضع؛ فلما سُئل؟ قال: *قرأت قولَ الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فأردت أن تشهد لي يوم القيامة*. ولهذا السبب والله أعلم جاء النهي أن يتعاهد المصلي مكانًا واحدًا في المسجد يجلس فيه.

وقال أحد العلماء: من عصى الله تعالى في مكان من الأرض فليطعه في نفس الموضع حتى يشهد له بالحسنات؛ وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.

بل حتى ما على هذه الأرض من شجر وحجر سيشهد أيضًا لك أو عليك يوم القيامة.

في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ".

}بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا{

أي: أمرها بالكلام وإذن لها بأن تُخبر بما عُمِلَ عليها؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قال لها ربُّها: قولي، فقالت).

}يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ{

أي يوم أن تزلزلَ الأرضُ، وتلقي ما في بطنها من الأموات؛ يصدُرُ الناسُ إلى ساحة فصل القضاء ويكونون أشتاتًا؛ أي أنواعًا وأصنافًا ما بين شقي وسعيد، وما بين مأمورٌ به إلى الجنة، ومأمورٌ به إلى النار بحسب أعمالهم. فيرجع الناس من الموقف بعد الحساب والعرض، {أَشْتَاتًا} متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليروا جزاء أعمالهم"، والمعنى: أنهم يرجعون عن الموقف فِرَقًا لينزلوا منازلهم من الجنة والنار.

ليس معهم ما كان يميزهم على الناس في الدنيا؛ كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ}.

نسأل الله العظيم أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يرزقنا العلم النافع.

 

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون عباد الله، ما زلنا في رحاب هذه السورة المباركة، ومع الآيتين الأخيرتين:

}فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ{

هذه الآية الكريمة: من جوامع المعاني؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُمُرِ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآية الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.{

وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَحْكَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.

قَالَ مُقَاتِلٌ رحمه الله: *نَزَلَتْ هَذِهِ الآية فِي رَجُلَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِيهِ السَّائِلُ فَيَسْتَقِلُّ أَنْ يُعْطِيَهُ التَّمْرَةَ وَالْكِسْرَةَ وَالْجَوْزَةَ وَنَحْوَهَا، يَقُولُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ إِنَّمَا نُؤْجَرُ عَلَى مَا نُعْطِي وَنَحْنُ نُحِبُّهُ، وَكَانَ الْآخَرُ يَتَهَاوَنُ بِالذَّنْبِ الْيَسِيرِ كَالْكِذْبَةِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّظْرَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا إِثْمٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هَذِهِ الآية يُرَغِّبُهُمْ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يُعْطُوهُ، فإنه يوشك أَنْ يَكْثُرَ، وَيُحَذِّرُهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الذَّنْبِ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ*.

ومن الآيات الكريمةِ التي وردت في هذا المعنى؛ قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيما} وقولُه تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القِسطَ لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ}.

هذه الآية: تدريب لأهل الإيمان، وأهل الخير على عدم استصغار الأعمال اليسيرة؛ فمهما قلَّت وصغُرت فإن لها مكانة عظيمة عند الله تعالى؛ بل وربما عمل يسير يكون سببًا في نجاة صاحبه من النار.

ففي صحيح البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، ولو بكلمة طيبة".

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ"[رواه أحمد].

ويقرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني في عدم استصغار الأعمال فإنها ربما تكون سببًا في دخول الجنة؛ فقد جاءت أحاديث كثيرة مؤكدة لهذا المعنى.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أخاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ"[رواه أحمد].

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا دخل الجنة بسبب شربة ماء سقاها لكلب يلهث من العطش، وأن امرأة بغي من بنى إسرائيل دخلت الجنة بسبب كلب أيضًا.

فإن العمل اليسير يعظم أجره عند الله تعالى.

في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إلى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ".

ولقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى؛ فلم يضيِّعوا أي بابٍ من أبواب الخير؛ فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتصدق بعنبة، فلما سُئلت، قالت: "أتعجب؟ كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة."

ولو أنك فتَّشتَ في حياتك اليومية: لوجدت العشرات من الأعمال اليسيرة التي تمر عليك مرور الكرام بدون اغتنامها.! فهذا أذى في الطريق؛ "وإماطة الأذى عن الطريق صدقة" وهذا أخوك المسلم تلقاه بوجه عبوس؛ "وتبسمك في وجه أخيك صدقة" وهذه كلمةٌ طيبةٌ، وهذا متاع تحمله مع أخيك المسلم، وهذه نصيحة، وهذه جنازة تسمع بها والقيراط مثل جبل أحد، وهذا إفشاء سلامٍ على من عرفت ومن لم تعرف، وهذا تسبيحة، وهذه آية من كتاب الله عز وجل كم فيها من الحسنات؟!

}وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ{

وفي المقابل يجب على المسلم ألا يَحْتَقِرَ قليل الشر؛ فَالْإِثْمُ الصَّغِيرُ فِي عَيْنِ صَاحِبِهِ أَعْظَمُ مِنَ الْجِبَالِ عند الله تعالى يوم القيامة.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ"[رواه أحمد].

وعن عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ قَفْرٍ مَعَهُمْ طَعَامٌ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا النَّارُ، فَتَفَرَّقُوا فَجَعَلَ هَذَا يَجِيءُ بِالرَّوْثَةِ، وَيَجِيءُ هَذَا بِالْعَظْمِ، وَيَجِيءُ هَذَا بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا أَصْلَحُوا بِهِ طَعَامَهُمْ، فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمُحَقَّرَاتِ، يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ، وَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، وَيَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ".

وتأمل: إلى خطورة هذه المحقرات التي يستهين بها الناس، يوم القيامة.

في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، في قصة الرجل الذي مات يومَ خَيبرَ؛ فقال الناسُ: هَنيئًا له الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ، فقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلاَّ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارا. أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ. لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ". قَالَ فَفَزِعَ النَّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ".

وتأمل أيضًا: إلى خطورة هذه المحقرات حتى لو كانت كلمة واحدة.

في الصحيحين عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ الْعَبْد لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مَا يَتَبيَّنُ فيهَا يَزِلُّ بهَا إلى النَّارِ أبْعَدَ مِمَّا بيْنَ المشْرِقِ والمغْرِبِ". وَعَنْهُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تعالى مَا يُلقِي لهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّه بهَا دَرَجاتٍ، وَإنَّ الْعبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تعالى لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في جَهَنَّم"[رواه البخاري]. وفي رواية: "وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه مَا كَانَ يظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بلَغَتْ يكْتُبُ اللَّه لَهُ بهَا سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يلْقَاهُ" [رواهُ مالك في *المُوطَّإِ* والترمذي.[

ولما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا (تعني قصيرة) فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لقد قُلْتِ كلِمَة لو مُزِجَت بماء البحر لَمَزَجَتْهُ!"[رواه أبو داود، والترمذي وأحمد، وصححه الألباني].

ولذلك تربى الصحابة على مثل هذه المعاني في عدم استصغار الذنب؛ في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: (إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ المُوبِقَاتِ)، يَعْنِي المُهْلِكَاتِ. وعن بلال بن سعد رحمه الله قال: (لا تنظر إلى صِغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عِظَم مَن عصيت)، ويقول ابن القيم رحمه الله: *إذا يئس الشيطان من إيقاع الإنسان في ارتكاب الكبائر، فإنه يدعوه إلى ارتكاب الصغائر التي إذا اجتمعت على الإنسان ربما أهلكته*.

فاعلم يا عبد الله، أنّ مثقال الذرة من الخير في ميزانك يتنامى، فلا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تطلق أخاك بوجه طلق، واعلم كذلك أن مثقال الذرة من الشر مرصود في حسابك، فاحذر من التساهل فيه واحتقاره، فإن الذنب ولو كان صغيرًا إذا احتُقِرَ من صاحبه، وتسوهل فيه يتعاظم ويكبر حتى يكون أمثال الجبال.

نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply