الإمام الترمذي وتراثه العلمي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

كلمتي في مؤتمر مدرسة ما وراء النهر للمُحدِّثين في ضوء الإمام البخاري، والإمام الترمذي، والإمام الدارمي يوم الخميس التاسع من جُمادى الأولى سنة 1445، في "مركز الإمام الترمذي الدولي للبحوث العلمية" في مدينة ترمذ في جمهورية أوزبكستان.

هدف البحث:

• معرفة حياة الإمام الترمذي، وما قيل فيه، لتأكيد الثقة به وبتراثهِ، وبنقل السُّنةِ.

• إظهار اقتران العلم بالعمل في سلوكه، وأنه كان قمةً في العمل بالعلم.

• الاستفادة مِنْ تراثه في صناعة الحياة المعاصرة.

طريقة البحث:

• اتبعتُ المنهج التاريخي في استنطاق المصادر الأسبق فالأسبق.

تناولتُ في ورقتي ثلاثة محاور:

• لمحة عن ترجمة الإمام الترمذي.

• تراث الإمام الترمذي.

• عناية العلماء بجامع الترمذي قديمًا وحديثًا.

فأما المحور الأول: لمحة عن ترجمة الإمام الترمذي، فقد بدأتُها مستفتحًا بكلمة للسمعاني في "الأنساب".

وقلتُ: قد ترجم له العلماء والمُحدِّثون والمُؤرِّخون وذكروا أخباره، وأشاروا إلى تصانيفه، ورواية هذه التصانيف.

فمِن المُحدِّثين أتيت بكلام مجد الدين ابن الأثير (ت: 606) وعلقتُ على قوله: "وله تصانيف كثيرة في علم الحديث"، فقلتُ: هكذا قال، والمعروف منها ليس بالكثير.

وبينتُ أنَّ الشيخ عبدالعزيز الدهلوي (ت: 1239) أفاد في "بستان العارفين" من ابن الأثير كلامه على الجامع ولكنه لم يعزوه إليه، وحبذا لو فعل.

وأمّا من المُؤرِّخين الذين ترجموا للإمام الترمذي فأتيتُ بكلام ابن خلكان لدقته واختصاره.

وبيّنتُ أنَّ في كلام الدهلوي في "بستان العارفين" تصرُّفًا غير دقيق، وزيادة، ولعلها من تصرُّف المترجم، والعبارة هي أنه "كان نائب البخاري، فلم يُخلف البخاري بعد هجرته من خراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد والخشية".

وصواب العبارة: "مات البخاري ولم يُخلف مثل أبي عيسى".

ثم جئتُ بترجمة الإمام الثعالبي في كتابه "كنز الرواة المجموع مِنْ دُرر المجاز ويواقيت المسموع" التي عنونَ لها بـ: "هادية يُمن وغادية مُزن". وبيَّنتُ أنه أفاد من ابن الأثير لاسيما جملة: "وله تصانيف كثيرة في علم الحديث"، ولم يعز هذه الاستفادة، وعلمنا أنَّ هذه الجملة مرجعها إلى ابن الأثير.

وأفاد الثعالبي مِنْ كلام الذهبي في "تذكرة الحفاظ" مصرِّحًا، وبينتُ أنَّ في نقل الثعالبي عن "التذكرة" إضافة، وهي قول الترمذي: "وما أخرجتُ فيه حديثًا إلا وقد عملَ به بعضُ الفقهاء".

وقد ذكرَ الثعالبي قصيدةً لبعض الأندلسيين -ولم يسمِّه- يمدحُ الجامع وهي:

كتاب التِّرمذيّ رياضُ علمٍ

حكتْ أزهارُه زُهْرَ النُّجومِ

به الآثارُ واضحةً أُبينَتْ

بألفاظٍ أُقيمتْ كالرُّسومِ

فأعلاها الصِّحاحُ وقد أنارتْ

نجومًا للخصوصِ وللعمومِ

ومِنْ حَسَنٍ يليها أو غريبٍ

وقد بانَ الصَّحيحُ من السَّقيمِ

فعلَّلهُ أبو عيسى مُبِينًا

معالمَه لأربابِ العلومِ

وطرَّزهُ بآثارٍ صحاحٍ

تخيَّرها أولو النَّظرِ السَّليمِ

مِنَ العلماءِ والفقهاءِ قِدمًا

وأهلِ الفضلِ والنَّهجِ القويمِ

فجاء كتابُهُ عِلْقًا نفيسًا

تفنَّن فيه أربابُ الحلومِ

ويقتبسونَ منه نفيسَ علمٍ

يفيدُ نفوسَهم أسنى الرُّسومِ

كتبناهُ رويناهُ لنروى

من التَّسنيمِ في دار النَّعيمِ

وغاصَ الفكرُ في بحر المعاني

فأدرَكَ كلَّ معنىً مستقيمِ

جزى الرَّحمنُ خيرًا بعد خيرٍ

أبا عيسى على الفعلِ الكريمِ

وهذا يُثيرُ مسألةَ تاريخ دخول الجامع إلى الأندلس، فمن المعلوم قولُ ابن حزم (ت: 456) عن الترمذي أنه مجهول، مع أنَّ صاحبه وشيخه ابن عبدالبر (ت: 463) نقلَ عن الترمذي.

المحور الثاني: تراثه:

سبق أنْ نقلتُ قولَ ابن الأثير بأنَّ له تصانيف كثيرة، وقلتُ بأننا لا نجد هذا العدد الكثير، وقد رجعتُ إلى بحث "تراث الترمذي العلمي" للدكتور أكرم ضياء العمري، وزدتُّ عليه نقولًا مِن كتاب "أنشاب الكثُب في أنساب الكتُب" للسيوطي، وكتبُ فهارس المرويات والأثبات والمعاجم مِنْ أهم المصادر في معرفة المصنَّفات، ومِنْ فوائدها معرفة ما اشتهر ورُوي ونُقل مما لم يشتهر ويُرو.

وقد ذكرتُ عشرة كتب -مع عدِّ العلل الصغير كتابًا مفردًا-، وقد يعود العددُ إلى ثمانية، والذي رُوي منها أربعة: الجامع، والعلل الكبير، والتاريخ الصغير، والشمائل، وقد قلتُ فيه: من أشهر كتبه بعد "الجامع" كتاب "الشمائل المحمدية"، وهو أقدم كتابٍ يصلُ إلينا عن الشمائل، وقد شرَّقَ وغرَّبَ وسار مسيرَ الشمس، وفيه (402) حديث، وهو أصلٌ من الأصول، اهتم به العلماءُ رواية ودراية، والكلام عليه يطول جدًّا: عن محتواه، وروايته، وتداوله، وشروحه، ومختصراته، ومخطوطاته، وطبعاته، وتراجم رجاله، ونظمه، وترجمته إلى اللغات.

وقد تناولتُ هذا بالتفصيل في مقال خاص بعنوان: "جهود العلماء في خدمة كتاب الشمائل للإمام الترمذي"[1]، ذكرتُ فيه: اثنين وثمانين شرحًا، وخمسة عشر مختصرًا، وستة كتب في تراجم رجاله، وتسعة كتب في نظمه، ومُستخرَجًا.

المحور الثالث:

ثم تكلمتُ على عناية العلماء بجامع الترمذي قديمًا وحديثًا، وقدمتُ لذلك بقولي: "من المهم جدًّا لمَن يريد أنْ يقرأ الجامع أنْ يقرأ "شروط الأئمة الستة" لمحمد بن طاهر المقدسي (ت: 507)، و"شروط الأئمة الخمسة" لمحمد بن موسى الحازمي (ت: 584).

وذكرتُ مِنْ أوجه عناية العلماء بكتاب الجامع عشرة وجوه:

1- عنايتهم بتخريج قوله: "وفي الباب".

وذكرتُ ثلاثة كتبٍ أولها لابن حجر، وهو الذي فتح هذا الباب في كتابه: "العجاب في تخريج ما يقوله الترمذي: وفي الباب"، وذكرتُ أنه وصلتْ إلينا نسخة منه كانت لدى الشيخ محمد الخطيب.

2- عنايتهم بكتابة أختام له، وذكرتُ ختمين:

الأول للإمام البارع السخاوي، وكتابه: "اللفظ النافع في ختم كتاب الترمذي الجامع" وهو مخطوط في دار الكتب المصرية ولم يطبع إلى اليوم!

والثاني: ختم الإمام عبدالله بن سالم البصري، ونقلت عنه قوله المهم في وصف الجامع.

3- عنايتهم بإدراج الجامع في كتبٍ تجمع السُّنة، ومن ذلك ما فعله ابن معن اللحجي (ت: 576) في "المستصفى"، وابن الأثير (ت: 606) في "جامع الأصول".

4- إدراجه في كتب الأطراف، ومِنْ ذلك ما فعله المقدسي، ثم المزي.

5- دراسته دراسة مقارنة، ومِنْ ذلك ما فعله د. نور الدين عتر في دراسته "الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين".

6- دراسة مصطلحاته، وقد تناولها القدماءُ ضمن مصطلح الحديث، وأفردها المعاصرون، ومنهم باحثون في دار العلوم في ديوبند، ومن ذلك:

"الحديث الحسن في جامع الترمذي: دراسة وتطبيق".

"حسن صحيح في جامع الترمذي: دراسة وتطبيق".

"حسن غريب في جامع الترمذي: دراسة وتطبيق".

"الشاذ والمنكر تعريفهما وأقسامهما وحكمهما" (وقد عُقد الباب الثاني لدراسة الأحاديث المنكرة من جامع الترمذي).

ومِنْ آخرها:

"الإعلال بالشذوذ والنكارة وبيان العلاقة بينهما: تطبيقات من جامع الترمذي" للدكتور محمد منتصر.

وذكرتُ هنا مبحثًا مهمًّا للسيوطي عن مصطلحاته في مكانٍ لا يُنتبه له، وهو رسالته: "الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: احفظ الله يحفظك"[2].

7- عنايتهم بشرحه، وذكرت أنَّ المباركفوري ذكر اثني عشر شرحًا، وأنَّ الباحث الأستاذ عبدالله الحبشي أضاف في كتابه "جامع الشروح والحواشي" شروحًا أخرى، وبيَّنتُ أنَّه قد مزج بين الشروح وغير الشروح إذ ذكر: المؤلفات في أطرافه، وعوالي الموافقات إليه، وتسمية رجاله، وشيوخ الترمذي، وفضائل الجامع، والصراط السوي في اتصال سماع جامع الترمذي لابن رُشيد، واستدراك الصحاح الواقعة في الترمذي على البخاري ومسلم، ومَن اختصره، ومَن قرّبه وفهرسه، وهذا ليس من شرط كتابه: "جامع الشروح والحواشي".

وقد ذكرتُ من الشروح عشرة، خمسة منها للمتأخرين من علماء الهند ومصر.

8- عنايتهم بتحقيق اسمه: وفي ذلك يُذكر الكتاب الفريد: "تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي" وقد خلص مؤلفهُ الجليلُ فيه إلى أنَّ اسمه: "الجامع المختصر من السُّنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل".

9- العناية بعدد أحاديثه في الطبعات: ومِنْ ذلك بحث "الأحاديث الساقطة من النسخة الهندية لجامع الترمذي".

10- كتابة مقدمات له، وهي مداخل مهمة لا يُستغنى عنها، ومِنْ ذلك مقدمة المباركفوري القيمة التي ضارع فيها مقدمة ابن حجر "هدى الساري".

مِنْ نتائج البحث:

• اكتشاف ما يقع للنصوص عبر الزمن، مِنْ خلال ترتيبها ترتيبًا تاريخيًا.

وضع كتاب بعنوان:

• الجامع في أخبار أبي عيسى الترمذي.

يجمعُ كل تراجمه، وما قيل عنه، مرتَّبًا على حسب التاريخ من السابق إلى اللاحق، وعند ذلك ستتضحُ أمورٌ جديدةٌ، وتنكشفُ غوامضُ، وتنقدحُ أفكارٌ بحثيةٌ لم تكن بُحِثتْ. ومِن ذلك أين التقى الترمذي بالبخاري.

• بيان أثر الجامع في تفعيل أدب الاختلاف والتسامح الفقهي.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

[1] وهو منشور في مدونتي في منصة أريد.

[2] هو ضمن ترجمته لنفسه: "التحدُّث بنعمة الله" (ص: 123- 128 من طبعة دار اللباب).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply