بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف
في يوم الأحد 7 من صفر 1446 هـ الموافق 11 من أغسطس 2024 م:
• من الضروريِّ لفَهْم جزئيات الفكرة أن تكون ذاكرًا للباب الأساسِ الذي وردت فيه هذه الفكرة، والبابُ الأساس الذي نحن فيه دخله عبد القاهر من خلال «معلوماية» شائعة بين الناس، وهي أن علاقة الكلمات في بناء البيان كعلاقة الخيوط في نَسْج الثوب، وأنه من أجل هذه العلاقة سمَّى الناسُ الكلامَ نَسْجًا، ثم أشار في هذه الفكرة العامة إلى فَرقٍ يجب التنبُّه إليه، وهو أن الخيط في نَسْج الثوب في مكانه الذي تراه فيه، ولا تستطيع أن تَزعُمَ أنه في مكانٍ آخر، وأن تقديمَه الأصلُ فيه التأخير، وأن هذا يَحدُث في الكلام؛ تجد الكلمة في موقع ومعنى الكلام يُوجِبُ عليك أن تجعلها في موقعٍ آخر.
• مسألة أن يكون اللفظُ في موقعٍ والمعنى يُوجِبُ أن يكون في موقعٍ غيرِ موقعه *فتحتْ باب التأويل*، واحتمالِ الكلام وجوهًا من المعاني، والتأويلُ أهمُّ بابٍ في علم المعرفة؛ في الشعر، والبيان، والقرآن، والحديث، وفي كل ما ينطق به اللسان البشري.
• أحيانًا أجد لَفَتَاتٍ في كلام العلماء هي أفضلُ من العلم.
• عبد القاهر حذَّر من أن احتمالَ الكلام وجوهًا من المعاني إذا لم تَصْحَبْه فِطنةٌ، وإذا لم يكن هناك عقلٌ قادرٌ على استخراج المعنى الأساس *وقعَ الإنسانُ في زَلَلٍ يَصِل إلى حدِّ الشِّرْك*.
• أعجبني في كلام السَّلف رضوانُ الله عليهم قولُهم إن أبغضَ البُغضِ إلى الله أن تجعلَ له شريكًا، وإن أحبَّ الحُبِّ إلى الله أن تُفرِدَه بالوحدانية.
• يُدهشني أن عبد القاهر يبدأ بالمشهور، وهو أن ضَمَّ الكلمة إلى الكلمة كضَمِّ الخيط إلى الخيط، ثم يَقودُه المشهورُ إلى غير المشهور، وحين يَدخل في غير المشهور يبدأ بالأقرب فالأقرب، ولا يذهب بك إلى الأغمض إلَّا بعد أن تَفْقَه الغامض؛ لأن فِقهَك للغامض يُعينك على فَهْم الأغمض.
• عبد القاهر يقول لك: وأنت تُربِّي العقلَ الناشئَ لا تُدخِلْه في الأغمض إلَّا بعد أن يُدرَّبَ كثيرًا على الغامض، فإذا وَعَى الغامض كان جديرًا بأن يَعِيَ الأغمض.
• أنا حين أتكلَّم في الأغمض أبذل أقصى طاقتي، ولاحِظْ أن بذلي أقصى طاقتي في الأغمض لا يَجعلُه غيرَ أغمض؛ فعليك أنت أن تَبذلَ أقصى ما أبذلُ حتى تَفْهَم.
• عبد القاهر يقول إن الذي يَجْهلُ هذا العلمَ - الذي هو استخراجُ المعنى الأساس من الكلام المُحتملِ وجوهًا كثيرة - يَقعُ في محاذيرَ كثيرة.
• قيل إن القرآنَ كلامُ الله، والتوراةَ كلامُ الله، والإنجيلَ كلامُ الله؛ فلماذا كان القرآنُ معجزًا والتوراةُ والإنجيلُ غيرَ مُعجزَيْن؟ فأجابوا بأن في «العربية» سَعةً أتاحت للإعجاز، والتوراة والإنجيل نزلا بلُغتَيْن ليس فيهما هذه السَّعَة.
• لو كنتَ قارئًا ستجد أن العلَّامة ابن جنِّي يَذكر أن الله هيَّأ لهذه «العربية» في الأزمنة الأقدم أجيالًا هي أدقُّ منَّا فَهْمًا وأكثرُ منا بصيرةً فهيَّأتها، وأن الله أعدَّها لنُزول القرآن بها منذ الزَّمن الأبعد، وأن الأطوار التي مرَّت بها «العربية» كانت لإعدادها لنزول القرآن.
• سَعةُ باب التأويل مِن مَحامِد «العربية»، وهذا الذي من المَحامِد هو مِن المَزالِق أيضًا؛ فقد يُنعِمُ الله بالبلوى؛ لأن سَعةَ باب التأويل وإن كانت مَحْمدَةً هي مَزلَّةٌ ومَهلَكةٌ لمن لم يستيقظ إلى أقصى درجة.
• القرآنُ الكريمُ وهذا الدِّين العظيم يهتمُّ اهتمامًا شديدًا بإيقاظ عقلك، وإيقاظ مَلَكَاتك، وإيقاظ كلِّ ما فيك من طاقاتٍ فكرية؛ حتى تكونَ على أعلى المستويات؛ لأنك مُتديِّنٌ بأرقى الأديان وأصوبِها وأصحِّها، فلا بدَّ أن يكون عقلُك من أفضلِ العقول وأجلاها.
• أنْ تَتديَّنَ ثم تَنامَ ويَسبِقُك الفَجَرةُ والفَسَقةُ؛ في العلم، وفي الفكر، وفي الصناعة... إلخ *فبئس الرجلُ أنتَ*، وبأيِّ وجهٍ تلقى الله - وأنتَ مِن خيرِ أمَّةٍ أُخرجت للناس - إذا نِمْتَ وتركتَ الحياةَ لأعدائك، ولم تُنافِسْ ولم تَسْبِقْ، ولم تكنْ كما قال لك: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ}.
• آيةً {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وحدَها تُشعِلُ اليقظةَ في هذه الأمَّة، فحين يقول الله لك إنك مِن الأعْلَيْنَ وتنام ولا تتعلَّم ولا تتقدَّم ولا تتفوَّق * فبئس المرءُ أنت*.
• كلُّ قاعدةٍ في العلم تُوقِظ خليَّةً في العقل، حتى (2× 2 = 4)؛ لأنك لم تَصلْ لهذا الناتج إلَّا بإعمال عقلِك.
• العلمُ المقصودُ به إيقاظُ العقل الإنساني؛ لأن الغايةَ العُظمى هي أن يرتقِيَ هذا الإنسان، ولن يَرتقِيَ بلَحْمِه ولا بشَحْمِه ولا بمالِه ولا بسُلطانِه ولا بظُلمِه ولا باستبدادِه ولا بقَهْرِه للخَلْق، وإنَّما يرتقي بعقلِه وفِكْرِه وعِلمِه.
• تعقيبًا على قول عبد القاهر إن الجهلَ بوجوه المعاني التي يَحْتمِلُها الكلامُ الواحدُ يُوقِعُ في المزلَّة، قال شيخُنا: عِلمُك يا عبدَ القاهر مِن طَلْعِ النَّحو، ومِن ثَمَرِ النَّحو، فكيف اعتبرتَ أن الجهلَ بعلمك يؤدِّي إلى الخطأ، مع أن هذا الخطأَ خطأٌ في النحو؟! يقول لك: لا، أنت فَهِمتَ كلامي على غير وجهه؛ لأن البلاغةَ عندي هي العلمُ الذي يَستخرجُ دقائقَ المعاني ورقائقَها من دقائقِ المباني ورقائقِها.
• البلاغةُ يا سيِّدنا ليست بَعْبعةً ولا جَعْجعةً في المجاز والتقديم والتأخير.. البلاغةُ غَوصُ العقلِ وتَغلغلُه في أسرار المعاني المختبئة في أسرار المباني.
• عبد القاهر سمَّى أوَّلَ كتابٍ له في البلاغة: «أسرار البلاغة»؛ فالكلامُ له أسرارٌ يَكتُمها كما يَكتُم أحدُنا أسرارَه، ويَبوحُ بأسراره لمن هو أهلُها؛ فليس مطلوبًا منك أن تَستبِدَّ بالكلام لتُنْطِقَه، فأنت قد تَستبِدُّ بالإنسان لكنك لا تستطيع أن تَستبدَّ بالبيان، إنَّما المطلوبُ منك - ما دامت أسرارُ الكلام ودقائقُه ورقائقُه مَضنونًا بها على غير أهلها - أن تَجتهِدَ في أن تكون من أهلها، وحينئذٍ سيَفتح لك الكلامُ أبوابَ أسراره.
• يَكْفِي أن عصابة صهيون راكبة فوق رؤوسنا!!!، يَكْفِي أن الرُّؤوس التي سَجَدَتْ لله قَبِلتْ أن تَعلُوَها عصابةٌ ليست مِن دِين الله في شيء؛ فالتوراةُ التي وصفها ربُّنا بأنها هُدًى ونُور لم تأمرْ بهَدم البيوت على رؤوس النَّاس؛ فالمُهمُّ أن نَرفضَ أن يَعلُوَ علينا الأخَسُّ.
• إذا كَثُرت القراءةُ في قومٍ ارتقتْ عقولُهم، وإذا قَلَّت القراءةُ في قومٍ انحطَّتْ عقولُهم؛ كَثُرت القراءةُ عند المُلحِدِين فارتقتْ عقولُهم، وقَلَّت القراءةُ عند المُوحِّدين فسقطتْ عقولُهم؛ لأن الله قال: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}.
• وأنا أقرأ في كتاب الله أحسستُ أن الله - سبحانَه وتعالى - يَحفظُ كلَّ ما خَلَق، ويَدفَعُ عن كلِّ ما خَلَق، ويَحمِي خَلْقَه ولو كانوا كافرين به، حتى الدابَّةُ حرَّم الله ظُلمَها، لم يُحرِّم الله ظُلمَ المؤمن، وإنما حرَّم ظُلمَ الإنسان مؤمنًا كان أو كافرًا، حرَّمَ ظُلمَ الحَيِّ إنسانًا كان أو غيرَ إنسان.
• رسولُ الله حرَّم أن يُضرَبَ الحِمارُ على وجهه، فكيف تُهينُ أنت وَجهًا سَجدَ لله.
• المشكلةُ في غَيْبةِ الدِّين عن الناس؛ لأننا لو أحضرنا الدِّينَ عند الناس لن نَجدَ مُسلمًا يَقبلُ أن يَضرِبَ مُسلمًا على وجهه حتى لو أُمِرَ بذلك؛ لأنك ستُحفِّظُه: «لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق»، ولن يَجدَ من يأمرُه بمعصية الخالق؛ لأن الذي سيأمرُه حَفَّظناه وهو صغير: «لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق»؛ فأشيعوا الدِّينَ في نفوس الأجيال حتى نَخرجَ من هذه المآزق التي نحن فيها، أشيعوا معانِيَ الإنسانية، معانِيَ النُّبْل، معانِيَ الكرامة، معانِيَ الرِّفعة، معانِيَ احترام المخلوقات.
• مِن قوَّة العالِم أن يَعترِضَ على فكرته اعتراضًا قويًّا جدًّا؛ لأنه لا يَعترِضُ على فكرتِه اعتراضًا قويًّا جدًّا إلَّا وعنده الجوابُ الأقوى، أما الذي يتحاشَى أن تُناقِشَه في فكرته فهذا شيءٌ آخر، أما صاحب الفكرة التي بناها بعقله ووعيه فلا يَقبَلُ منك أن تَعترضَ عليها اعتراضًا أكبر، وإنَّما يَنوبُ هو عنك في هذا الاعتراض الأكبر.
• حين تُناقش الهلافيت يَضِيقون ذرعًا، فلا تتعجبْ من أنهم يَضِيقون ذرعًا؛ لأنه ليس لديهم أكثرُ ممَّا لديهم.
• نَومُك وخَيبتُك جَعلا مَن يقول: «السَّماءُ تحتَنا والأرضُ فوقَنا»، ويَهزُّ لك السَّيف لتقولَ: نَعمْ، السَّماءُ تحتَنا والأرضُ فوقَنا، كما قال أبو العلاء:
تَلَوْا بَاطِلاً، وجَلَوْا صَارِمًا .. وقَالُوا: صَدَقْنَا. فقُلْتُمْ: نَعَمْ!
• قلتُ لكم قبل ذلك: قِيلَ للظالم: «لِمَ تَظلِم؟» فقال: «لأنِّي وجدتُ أنذالاً يَقبلُون أن يُظلَموا»، وقِيلَ للمُستبدِّ: «لِمَ تَستبِدُّ؟» فقال: «لأنِّي وجدتُ هلافيت يَقبلُون أن يُستبدَّ بهم»، إنَّما لو أن الناس استيقظتْ لما كان هناك ظالمٌ ولا مُستبِدٌّ، ولذلك قلتُ لكم كثيرًا: «أيقظوا شعوبَكم حتى تَنفِيَ شعوبُكم خَبَثَها».
• لا تُشغَلُوا بنَفْيِ الخَبثِ عن الشُّعوب، وإنما انشغلوا بإيقاظ الشُّعوب؛ فإذا أيقظتم الشُّعوبَ نَفَتِ الشُّعوبُ خبثَها.
• كمْ مِن «لَطْخٍ» يُسمِّيه بعضُنا «مُلْهَمًا» وهو ليس مُلْهَمُا ولا شيئًا، بل ليس عقلُه عقلًا عاديًا فيُقبلَ منك تَسميتُه مُلْهَمًا، وإنَّما عَقلُه عَقلُ «لَطْخ»، فأنت جئتَ إلى «لَطْخٍ» في قاع الإنسانية ورفعتَه، وهذا مِن خَلَلِ العقل الجَمْعِيِّ، وخَلَلُ عَقلِ الجماعاتِ في تعظيم هلافيتها.
• اليهودُ غَالَتْ في تقدير «عُزَيْر» وقالوا إنه ابنُ الله، و«عُزَيْر» رجلٌ فاضلٌ جدًّا ومِن كِرام النَّاس، وهو لم يَقُلْ لهم افعلوا بي هذا، إنَّما الهلافيت أرادوا تكريمَه لا أقول: فأهانوه؛ لأنه لم يَقبلْ أن يُقالَ عنه هذا، تمامًا كما قالت النصارى: «المَسِيحُ ابنُ الله»، هل هذه إهانةٌ للمسيح؟ وهل يُعذَّب المَسيحُ بها، إنَّما يُعذَّب بها مَن قالها.
• الذي يقول عن المَسيحِ إنه ابنُ الله هو الذي يُعطي الذين قَتلُوه وصَلَبوه [على زعمهم] كلَّ ما يحتاجون إليه لضَرْبِ المسلمين. عجيب! الصَّليب على صَدرِك يا مولانا، والصَّليبُ رَمزٌ لأن اليهود [عندكم] قتلوا المَسيحَ وصَلَبُوه؛ فأنت من إكرامك للمَسيح تُعلِّق الصَّليبَ على صدرك إنكارًا لقَتْله وصَلْبِه، ثم بعد ذلك تتجاهل كلَّ هذا وتَمدُّ يدك لمن قتلوه وصَلَبوه بكل الإمكانات ليقتلوا النِّساء والأطفال، ثم تقول: «مِن حقِّ إسرائيل أن تدافع عن نفسها»! هل هذه هي المسيحية! هل هذا هو الإنجيل! هل هذه هي التوراة! هل هذه هي اليهودية!
ومما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف في يوم الأحد: 14 من صفر 1446 هـ الموافق 18 من أغسطس 2024 م.
• علَّمَنا علماؤنا - مَن سَمِعْنا منهم ومَن قرأنا لهم - أن دراسة المعاني الخفيَّة والدقيقة والغامضة هي التي تُكوِّن العقلَ العلمي؛ لأن الغاية من المعرفة هي هذا الإنسان.
• الغاية من المعرفة ليست فقط هي المعرفة، وإن كانت المعرفةُ أمرًا جليلًا جدًّا، وخصوصًا معرفة الله ومعرفة ما أمر الله وما نهى، إنما المهمُّ - مع ذلك - نُموُّ الفكر ونُموُّ العقل.
• ذَكَر علماؤنا أن أهمَّ ما يُعين على نُموِّ الفكر ونُموِّ العقل هو دراسةُ المسائل الغامضة، ونحن تَعوَّدْنا الهروبَ من المسائل الغامضة، أي تَعوَّدْنا الهروبَ ممَّا يُنمِّي عقولَنا ويَزيدُ في أفكارنا ويَزيدُ في بصيرتنا وأبصارنا.
• أهمُّ شيءٍ يُقال في العلم هو مقالةُ الذين يتحدَّثون عن تجربة لا الذين يتحدَّثون عن قراءة.
• «الآمدِيُّ» له تجربة؛ لأنك حين تقرأ «الموازنة» ستجدُ «الآمدِيَّ» حصَّل وقرأ وأحاط وحَفِظ؛ يقول: العِلمُ يحتاج منك إلى ثلاثة: أن تَنقطِعَ له، أي ليس لك شاغلٌ في الدنيا يَشغَلُك عنه، وأن تُكِبَّ عليه. وقد تساءلتُ: لماذا ذَكَرَ الإكبابَ بعد الانقطاع؟ فرأيتُ أن الإكبابَ معناه أن تنقطعَ إليه، ثم هذا الانقطاعُ يُورِثُ عندك محبَّةً للمعرفة؛ فيأتي الإكباب؛ لأن الإنسان لا يُكِبّ إلَّا على ما يُحِبّ.
• الخطوة الثالثة التي ذَكَرَها «الآمدِيُّ» هي: أن تُشغَلَ بغوامض العِلم، فإذا انقطعتَ له وأكببتَ عليه ولم تَدخلْ في الغوامض والأفكار، التي لا تُدرِكُها إلَّا بمزيدٍ من الوعي وبمزيدٍ من الفكر وبمزيدٍ من اليقظة *فإنك لا تزال بعيدًا، ولستَ من أهل العلم*.
• الذي يقرأ عبدَ القاهر كثيرًا يَجِدُ الغوصَ على غوامض المعرفة شيئًا ظاهرًا عنده ظهورًا شديدًا؛ راجِعْ رأيَه في التشبيه، وأن التشبيهَ الأفضلَ هو ما يكون التباعدُ بين طرفَيْه أكثرَ وأشدَّ؛ لأنك لن تدرك وجهَ الشَّبَه في المتباعدين إلَّا بمزيدٍ من الوعي وبمزيدٍ من اليقظة، وكلما اشتدَّ التبايُن، ثم أدركتَ التقارُبَ، كان لك الفَضْلُ.
• إذا دَرَسْتَ الآيةَ من القرآن وأنت لستَ في قمَّة اليقظة، ولستَ في قمَّة الوعي، ولستَ في قمَّة الفكر *قادَتْك قِلَّةٌ قليلةٌ من الغفلة إلى أن تقول فيها ما يُفضِي بك إلى الشِّرْك بالله جلَّ وتقدَّس*.
• لستُ قادرًا على أن أقذفَ الصَّوابَ في قلبك، وإلَّا لكان سيدُنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قذفَ الصَّوابَ في قلب عَمِّه أبي طالب الذي ربَّاه وحَمَاه وحَفِظَه؛ فليس هناك أحدٌ قادرٌ على أن يفتح أقفالَ قلبك إلَّا أنت؛ إذا توجَّهتَ إلى الله وأنت صادقٌ رزقَك الله الفَهْم.
• لم أُدرِّسْ في البلاغة طوال عمري درسًا أغمضَ من درس اليوم، ولم أتعرَّض لغوامضَ كالغوامض التي أتعرَّض لها في درس اليوم، ولكني سأقول ما أستطيعُ، وعليك أنت أن تُدرِكَ ما لا أستطيع، وكنت قد فكَّرتُ في ألَّا أدرِّس هذا الدرس؛ لأن فيكم عقولًا صغيرة لا تتحمَّل هذا الثِّقَلَ من التفكير، ولكني قلتُ في نفسي إنه ما دام قد كَتَبه الأئمةُ في كُتبهم اشرحْه، ولو خشيتَ من عدم الفَهْم فلن تتكلَّم في العلم؛ لأنك ستجد عدمَ الفَهْم لا محالة، وستجد الفَهْم لا محالة؛ لأنه يُريحني جدًّا قولُ سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "الخير في أمَّتي إلى يوم القيامة ".
• يا سيدنا، إذا أنا رأيتُ حذفًا في المناهج للتخفيف على الطلاب أدركتُ أننا في خطر؛ لأن الطالب لا بُدَّ أن تكون المناهجُ فوق طاقته، وأن يُحصِّلَ منها ما يَدخُل في طَوْقِه، ثم يَبقى ما لا يَدخُل في طَوْقِه وطَوْقُه مُشتاقٌ إلى ما لم يَدخُل فيه، وهكذا تُربِّي عقولًا حيَّة.
• أذكر أن أوَّل كتابٍ كتبتُه في البلاغة، وكان مشايخُنا لابد أن يقرأوا ما نكتب قبل أن نَطبَعَه وقبل أن يقرأه الطلاب، فقال لي الشيخُ الجليلُ - رحمه الله رحمةً واسعة - كلمةً لم أَنْسَها؛ قال لي: «أنت تُطْعِمُ الدجاجةَ طعامَ البعير»، ومعناها أنني أقدِّم للطلاب ما هو فوق طاقتهم؛ فقلت له: أنا أقدِّم للدجاجة طعامَ البعير فتأكل منه ما تستطيع ثم يبقى الباقي، وبعد التخرُّج يمكن أن تأكلَ الدجاجةُ منه من جديد؛ لأن كتابي يجب أن يكون مع تلميذي في مراحل حياته كلِّها، هو الآن طالب وغدًا مُعلِّم، وأريد أن يعتمد على كتابي وهو مُعلِّم وليس فقط وهو طالب؛ فرَضِيَ الشيخُ، وأنا عَرَفْتُ أنه يقول ذلك ليَسمعَ وجهة نظري وليطمئن إلى أن الأستاذ الذي يُدرِّس له وجهة نظر في إعداد الأجيال.
[ونحن خُروجٌ من الجامع الأزهر الشريف سأل أحد الحاضرين شيخَنا عن الكتاب الذي كتبه وعن الشيخ الذي قال له هذه العبارة، فقال: الكتاب هو «خصائص التراكيب»، والشيخ هو الأستاذ كامل الخولي رحمه الله.
• وأنا أكتب لا أنظر إلى المنهج المقرَّر، وإنَّما أنظر للمسألة التي أكتبها، وأشرَحُها وأَبْسُطُها كما شرحها العلماء وكما بَسَطَها العلماء، غيرَ ناظرٍ إلى مستوى الطالب؛ لأنك إن نظرتَ إلى مستوى الطالب ستكتب مُذكِّرات لا قيمة لها، إنما إذا نظرتَ إلى الوفاء بالفكرة العلمية ستتَّسِع وتَكْبُر.
• ما دام هَمُّنا الأوَّلُ والأخيرُ هو إعداد الأجيال فسيهدينا الله إلى هذا الخير.
• قولُ الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} من أحلى الآيات في قلبي؛ فضَعْ قدمَك على الطريق الصحيح وأخلص نِيَّتَك لله تَجِدَ الله يَزِيدُك، الله يقول: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}؛ فأحسِنْ يَزِدْك الله حُسنًا، اهتدِ يَزِدْك الله هُدًى، كُنْ مع الله يَكُنِ الله معك.
• راقني صاحبُ «عيون الأخبار» حين قال إن الله - سبحانه وتعالى - لم يجعل الطريقَ إليه طريقًا واحدًا، وإنَّما عدَّدَ الطرقَ إليه؛ لأنه ربُّ الكل، ومهَّد الطريق للمخلص في علم الطِّبِّ كما مهَّد الطريق للمخلص في علم الفقه، وربما أعطى المخلصَ في علم الهندسة أكثرَ مما يعطي المخلصَ في علم الفقه، بمقدار صِدق نِيَّة مَن أخلص في علم الهندسة.
• يدهشني جدًّا جدًّا أن علماءنا في الطِّبِّ والهندسة والعلوم الأخرى مُعتقدون أن العِلمَ الذي يُورِثُ الجنةَ هو «قال الله وقال الرسول»! مَن قال لك هذا يا سيدنا؟! العلمُ الذي يُفضِي إلى الجنة هو العلمُ في أيِّ بابٍ من أبوابه وأي نوعٍ من أنواعه؛ إذا خَلَصتِ النِّيةُ في أنك تُعلِّم به أبناءَ الأمَّة لترتقيَ هذه الأمَّةُ إلى درجة أفضل.
• الأمَّةُ مُحتاجةٌ إلى عِلم الصَّيدلة (عِلم الدَّواء) كحاجتها إلى عِلم الفقه، ومُحتاجةٌ إلى عِلم الطِّبِّ كحاجتِها إلى علم الشَّريعة.
• لا تُقرِّبوا طلابَ العلم إلى العلم، وإنما قرِّبوا العلمَ إلى طلاب العلم؛ فضَعُوا العلمَ في طريق الأجيال، وقولوا لهم: «حَيَّ على الفلاح»؛ لأن كلمة «حَيَّ على الفلاح» لو فُهِمَتْ فهمًا جديدًا لانتقلت بها الأمَّةُ مِن طَوْرٍ إلى طَوْر.
• في الأذان قِيلَ: «حَيَّ على الفلاح» بعد أن قِيلَ: «حَيَّ على الصلاة»؛ لأن الصَّلاةَ تُطهِّر القلب؛ فأقبلْ على الفلاحِ وعملِ الصَّالحات في الأرض بقلبٍ قد طهَّرتْه الصلاة، وقبل أن تُطهِّرَه الصلاةُ طهَّرَه التوحيدُ مِن الشِّرك بـ«أشهد أن لا إله إلَّا الله».
• الأذانُ شيءٌ عجيبٌ، الأذان حين تتأمَّلُه تجد دعوةً تتكرَّر خمسَ مراتٍ كلَّ يومٍ من مؤذِّنِينَ لا حَصرَ لهم؛ يؤذِّنون في هذه الأمَّة: «حَيَّ على الفلاح».
• سيدُنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا هُدِيَ إلى الأذان كان بُرهانَ النُّبوَّةِ لا شكَّ في ذلك.
• إذا قرأتَ وأردتَ أن تُحْسِنَ الفَهْم فعليك بالإسناد وعليك بالنِّسَب؛ لأن فكرة النظم عند عبد القاهر قائمةٌ على الإسناد والنِّسَب، وبناءُ الكلام الإنسانيِّ قائمٌ على الإسناد والنِّسَب، وكلُّ المعاني التي في القلوب وعبَّرتْ عنها الألسنةُ قائمةٌ على الإسناد والنِّسَب.
• شعرُ امرئ القيس إسنادٌ ونِسَبٌ؛ فالمعنى في «قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرَى حَبِيبٍ ومَنزِلِ» ليس معانِيَ مفردات، وإنَّما معاني نِسَب؛ فلو حَلَلْتَ النِّسبةَ وقلتَ: «ذكرى قِفَا حَبِيب مَنزل نَبْكِ» لم يَعُدِ الكلامُ كلامًا، مع أن الألفاظَ هي هي، والذي ضاعَ هو النِّسَب؛ فكأن شِعرَ الشَّاعر وكلامَ المُبين؛ شِعرًا أو غيرَ شِعْر، والذي تَسمَعُه منِّي والذي أسمَعُه منك، ليس إلَّا نِسَبًا وإسنادًا.
• لمَّا وجدتُ أن معنى «السَّيِّد» في اللغة هو: «الذي سَادَ بنفسِه، وبأخلاقه، وبشَرَف نفسِه، وبمعاني الشَّرف وبمعاني السُّؤدَد» فهمتُ أن السَّيِّد ليس مَن سوَّده الناس، وإنَّما السَّيِّد مَن سَوَّدتْه نفسُه، ولذلك كانوا لا يختلفون على سادَتِهم؛ فلم تَعرِفِ اللغةُ سيِّدًا صار سيِّدًا بسَيْفه، وإنَّما عَرَفَتِ اللغةُ في عصرها الأوَّل سيِّدًا ساد بسؤدَد نفسِه، أرأيت حضارة اللغة الأولى وحضارةَ الإنسان الأوَّل؟!
• عَذَرْتُ ابن جنِّي لمَّا توهَّم أن الله خَلَقَ لهذه العربيَّة في الزَّمن الأقدمِ أجيالًا هم أعلى منَّا عقلًا، وأزكى منَّا فِطْنةً، وأكثر منَّا بصيرةً وعلمًا؛ فأقاموا أصولَها، وأقاموا إعرابَها، وأقاموا اشتقاقَها؛ لأنه لا يمكن أن يُقالَ إن اللغةَ نزلتْ مِن السَّماء؛ لأن اللغةَ نِتاجُ إنسان، والإنسانُ الذي عاش في زمن ابن جنِّي غيرُ قادرٍ - عند ابن جنِّي - على أن يُحْدِثَ في هذه العربيةِ هذه الدقائقَ وهذه الفِطَنَ؛ فذهب هذا الشيخُ الجليلُ إلى ما ذهب إليه.
• تَعْجَبُ ويزدادُ العَجَبُ إذا عَلِمْتَ أن أبا ابن جنِّي كان لا يُحْسِنُ نُطقَ العربية؛ لأنه لم يكن عربيًّا، وإنَّما لمَّا ملأ دينُ الله وكلامُ الله قلوبَ هؤلاء العَجَم صاروا أشدَّ حِرصًا على العربية من أبناء العربية.
• قرأتُ قديمًا أن مستشرقًا أدهشه أن معظمَ علماء العربية ليسوا عَرَبًا، وهذا نادرٌ في تاريخ اللُّغات؛ لأن معظم علماء الإنجليزية إنجليز، ومعظم علماء الفرنسية فرنسيون، ومعظم علماء العربية غيرُ عَرَب؛ لذلك كان الرَّافعيُّ رائعًا جدًّا حين قال إن كلمة «الجنس العربي» ذهبتْ وحلَّ محلَّها «الجنس الإسلامي».
• اعلمْ أن أجركَ في هذا الدَّرس فوق أجري؛ لأنك جئتَ مُحتشدًا لأن تتعلَّم، وجئتَ مجتهدًا في أن تتعلَّم، وأنت تَعلَمُ أن من اجتهد أخذَ الله بيده، وأنت حين تَقعدُ عن الاجتهاد فكأنك قعدتَ عن أن يأخذَ الله بيدك، وبئس امرؤٌ قَعَدَ عن أن يأخذَ الله بيده.
• نحن لم نُعلِّم الدِّينَ لأجيالنا، وحين أرى في المجتمع أشياءَ غيرَ دينية أقول: يا رب، نحن في حاجة إلى صفحة واحدة نضعها في كُتُب أطفالنا في الابتدائية، نكتب فيها قولَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إذا التقى المسلمان بسَيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّار"، ولا نريد لها شرحًا؛ فلو حَفَّظْنا الأجيالَ الجديدة التي لا تزال في «الرَّوضة» هذه العبارة فلن نَجِدَ شعبًا يتقاتل، والعجيبُ أن الشعوبَ التي تتقاتلُ فيها فريقٌ يقول إنه يُقاتل عن دِين الله! يا سيدنا، إذا عَرَفْتَ أنه إذا التقى المسلمان بسَيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّار فستَرْمِي سيفَك، ولو حفَّظْنا ذلك للأجيال لما وجدنا الذي في ليبيا في ليبيا، ولا الذي في السودان في السودان، ولا غير ذلك.
• إذا زرعتَ في قلب تلميذ الرَّوضة والابتدائي قولَ سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ حَمَلَ علينا السِّلاحَ فليس منَّا" فلن نَجِدَ في الأمَّةِ طائفةً تَخرُج على المجتمع بالسِّلاح لكي تُقِيمَ الحُكمَ بما أنزلَ الله، يا سيدنا، أنت حين حَمَلْتَ السِّلاحَ على الأمَّة أسقطتَ الحُكمَ بما أنزلَ الله، إنَّما أنت تَعيشُ في جَهَالة، والذين يؤيِّدونك يؤيِّدونك بجهالة؛ لأنك ما دُمتَ حَملْتَ السِّلاحَ على أمَّةِ خيرِ الأنام فلا تَدَّعِ أنك تريد الحكمَ بما أنزلَ الله؛ لأن خير الأنام قال: "مَنْ حَمَلَ علينا السِّلاحَ فليس منَّا".
• لا أعلم أيَّ «مُفَنْكِر» - ولا أقول: «مُفكِّر» - أقنعَهم بأن دراسةَ الدِّين ستُخرِّج لنا متطرفين وإرهابيين!! يا سيدنا، الحاجزُ بين المجتمع وبين الإرهاب هو أن يَعرِفَ دِينَ الله؛ لأن مَن عَرَفَ دينَ الله لا يَقتُل حتى غيرَ المسلم فضلًا عن أن يَقتُل مُسلمًا.
• يا عزيزي، المسألة ليست أن تَحفَظَ المعرفة، المسألةُ أن تتأمَّل المعرفة، وأن تَعرِفَ أبعادَها الرُّوحية.
• تَروقُني الآياتُ مِن مثل قولِه تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}؛ فأنتَ أيُّها الفاسدُ المُفسِدُ، الظَّالمُ للناس، والقَاهِر للناس، أنت تتوهَّم أنك تَظلِمُ الناس، ولكنَّ الحقيقة أنك ظالِمٌ لنفسِك؛ لأن كلَّ هذا سيُحاسِبُك الله عليه حسابًا شديدًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد