بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني من التابعين وروايته عن الصحابة وعن التابعين، وهو من الطبقة الثانية من التابعين، وقد أثنى عليه أئمة الجرح والتعديل، فقال العجلي (261ه): "شامي تابعي ثقة رجل صالح من خيار التابعين".
وفي موضع آخر: "من كبار التابعين". (الثقات للعجلي 2/133، تحقيق عبد العليم عبدالعزيز البستوي).
وقال أبو حاتم (277ه) وأبو زرعة (264ه) عنه: ثقة. (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 7/38 ط مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الهند). وكان ممن استعان به عمر بن عبدالعزيز (101ه) لما ولي الخلافة، وكانت له عنده مكانة كبيرة، فقد كان لا يعدل به أحدًا من مستشاريه. (ينظر: المعرفة والتاريخ للفسوي 1/619 تحقيق: أكرم ضياء العمري، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي، ص714، ط مجمع اللغة العربية بدمشق، وتاريخ دمشق 40/171، تحقيق عمرو بن غرامة العمروي).
وقال عنه الذهبي (748ه): "أحد العلماء العاملين" (سير أعلام النبلاء 5/63، ط مؤسسة الرسالة).
وقال عنه أيضًا: "الفقيه الصالح من جلّة التابعين" (تاريخ الإسلام 3/102، تحقيق: بشار عواد معروف).
وقد مات بعد المائة الأولى من الهجرة في خلافة يزيد بن عبد الملك (105ه) (الطبقات الكبرى 5/196 ط دار الكتب العلمية، والتاريخ الأوسط للبخاري ص 248، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، وتهذيب الكمال 19/549، وتهذيب التهذيب 7/173).
وقد تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة بعد موت عمر بن عبدالعزيز (101ه) ومكث في الخلافة أربع سنين وشهرًا ومات عام (105ه) (تهذيب الكمال 19/549، والأعلام للزركلي 8/185).
وقد حدّد ابن عبد البر (463ه) وفاته عام (102ه) بالمدينة (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 17/124)، على حين حدّد سبط ابن الجوزي (654ه) وفاته عام (104ه) دون أن يذكر مكان وفاته (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 10/396)، وقد ذكر الواقدي (207ه) وتلميذه ابن سعد (230ه) أن وفاته بالمدينة، دون أن يذكرا عام وفاته (التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الصحيح: أبو الوليد الباجي 3/1140، وتاريخ دمشق 40/171، وتهذيب الكمال 19/549، وتهذيب التهذيب 7/173).
الصحابة الذين روى عنهم عراك بن مالك:
كانت رواية عراك بن مالك،كما ذكرنا، عن الصحابة وعن التابعين، والصحابة الذين روى عنهم هم: أبو هريرة وعبدالله بن عمر بن الخطاب وأم المؤمنين عائشة وزينب بنت أبي سلمة المخزومية ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم ونوفل بن معاوية الدِّيلي من مُسلِمة فتح مكة. (تهذيب الكمال 19/545-549، وتهذيب التهذيب 7/172-174، وتقريب التهذيب ص567). وحكيم بن حزام (تاريخ دمشق لابن عساكر 15/100، وإكمال تهذيب الكمال لمغلطاي4/120، وسير أعلام النبلاء 3/44)، وأبو ذر الغفاري، ولم ينص على ذلك أحدٌ ممن ترجم لأبي ذر الغفاري أو عراك بن مالك، وحديث عراك عن أبي ذر في مسند أحمد بن حنبل 5/165 الحديث رقم 21458، والمعجم الكبير للطبراني 1627، وينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/327، والإصابة في تمييز الصحابة 7/128. وعبدالله بن عباس (انفرد بذكر ذلك السيوطي في إسعاف المبطأ برجال الموطأ، ص 20)، رغم أن روايته عن ابن عباس في السنن الكبرى للنسائي 1/278 الحديث رقم 516 ط مؤسسة الرسالة، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
وإن كان النسائي أخرجه في السنن الصغرى 3/121 الحديث رقم 1453، عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي عن ابن عباس، وقد أخرجه ابن وهب في جامعه ص 119 رقم 206 عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك مرسلًا، فرغم أن رواية عراك عن ابن عباس عند النسائي في السنن الكبرى إلا أحدًا ممن ترجم لرواة الكتب الستة لم يذكر عراك بن مالك من الرواة عن ابن عباس. (ينظر ترجمة ابن عباس في تهذيب الكمال 15/154-162، وتهذيب التهذيب 5/276-279).
ويمكن تقسيم رواية عراك بن مالك عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إلى الأقسام التالية:
القسم الأول: ما ثبت سماع عراك بن مالك من الصحابي:
وهو سماعه من أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ذكر البخاري (256ه) أنه سمع منه (التاريخ الكبير 7/88) وقال البيهقي (458ه): "سماع عراك بن مالك من أبي هريرة، صحيح لا شك فيه". (السنن الكبرى 4/117)، وحديثه عن أبي هريرة في الصحيحين.
القسم الثاني: رواية عراك بن مالك عن الصحابة ولم يُذكر فيها شيءٌ من الإرسال أو الانقطاع:
وهو روايته عن كلٍّ من: عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (73ه)، فقد ذكر المزي (742ه) عراك بن مالك من الرواة عن ابن عمر دون تعقيب عليها بشيء (تهذيب الكمال 15/336)، ونوفل بن معاوية الديلي (نحو60ه)، فقد ذكر المزي عراكًا في الرواة عن نوفل، ولم يعقب بشيء (تهذيب الكمال 30/71)، وزينب بنت أبي سلمة (73ه)، فذكره المزي في الرواة عنها، ولم يعقب بشيء كذلك (تهذيب الكمال 35/185)، وذكر المزي هؤلاء الصحابة الكرام ممن روى عنهم عراك في ترجمته (تهذيب الكمال 19/ 546). ورواية عراك عنهم في سنن النسائي.
وكذلك أيضًا روايته عن عبدالله بن عباس بن عبد المطلب (68ه)، فروايته عنه ممكنة؛ فقد روى عن أبي هريرة (57ه)، وسماعه منه صحيح، كما مر ذكر ذلك سابقًا، فلا يبعد أن يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما، وإن كان يروى عنه أحيانًا بواسطة، وهو عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي (98ه) كما مر ذلك سابقًا.
القسم الثالث: رواية عراك عن الصحابة التي ذكر فيها أنها مرسلة أو منقطعة:
وذلك على نوعين:
النوع الأول: روايته المرسلة عن الصحابي التي لم يُذكر فيها اختلاف في الإرسال:
وهي روايته عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (32ه)، فقد أخرج أحمد بن حنبل في المسند 5/165 الحديث رقم 21458، والطبراني في المعجم الكبير 1627 وغيرهما عن عراك بن مالك.
قال: قال أبو ذر: إني لأقربكم يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكْتُهُ عَلَيْهِ"، وَإِنَّهُ وَاللهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ تَشَبَّثَ مِنْهَا بِشَيْءٍ غَيْرِي. (وينظر تخريجٌ موسعٌ للحديث في أنيس الساري في تخريج وتحقيق الأحاديث التي ذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: نبيل بن منصور 2/1414)، وليس لعراك بن مالك عن أبي ذر إلا هذا الحديث، (ينظر: جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن: ابن كثير 9/441).
وقال الهيثمي (807ه): *عراك بن مالك لم يسمع من أبي ذر فيما أحسب* (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/327)، أما الحافظ ابن حجر (852ه) فقد ذكر أن رواية عراك بن مالك عن أبي ذر منقطعة (=مرسلة) على الظن مرة وعلى القطع مرة أخرى في مكان واحد، وذلك في الإصابة في تمييز الصحابة (7/128)، لكنه جزم بذلك في إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة (14/170).
والعجيب أنني لم أقف على أحد،فيما علمتُ، نصّ على هذا الإرسال بين عراك وأبي ذر الغفاري قبل الهيثمي (807ه)، وقد مات أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في الربذة قرب المدينة، عام (32ه) في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه (35ه). (ينظر في تاريخ وفاة أبي ذر: تهذيب الكمال33/298، وسير أعلام النبلاء 2/74، والإصابة في تمييز الصحابة 7/129).
وقد مات عراك بن مالك بعد المائة الهجرية الأولي، وحدد ذلك ابن عبد البر (102ه) بالمدينة، وسبط ابن الجوزي وفاته (104ه) دون أن يذكر مكان وفاته، كما مر ذكر ذلك سابقًا، ويبعد أن يكون رأى أبا ذر فضلًا عن أن يكون روى عنه، وخاصة أنه لم يكن من المعمّرين، وقد جعله ابن حجر من الطبقة الثالثة من رواة الأحاديث وهي الطبقة الوسطى من التابعين (مقدمة تقريب التهذيب 1/25)؛ وعلى ذلك فروايته عن أبي ذر مرسلة على أغلب الظن، بل جزم بذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة في موضع وفي إتحاف المهرة كما مر سابقًا، فلماذا لم ينص أحدٌ على ذلك من المتقدمين ممن اعتنى بذكر رواة المراسيل؟ يمكن تفسير هذا الأمر بالاحتمالات الآتية:
الاحتمال الأول: شهرة ذلك ووضوحه، فكأنه لا يحتاج إلى النص على ذلك؛ لوضوحه وعدم الخلاف فيه.
الاحتمال الثاني: أن روايته عن أبي ذر غريبة غير مشهورة، وخاصة أنه حديث واحد فرد؛ بدليل أنه لم يذكر عراك بن مالك في الرواة عن أبي ذر الغفاري، سواء في الترجمة لأبي ذر أو في الترجمة لعراك بن مالك، كما في تهذيب الكمال للحافظ المزي، ومختصره تهذيب التهذيب لابن حجر.
ولكن قد يناقش هذا بأن أحمد بن حنبل قد أخرج روايته عن أبي ذر كما مر سابقًا.
ولكن قد يَرِد على هذا أن الكتب التي اهتمت بالترجمة لرواة الأحاديث إنما اهتمت بما وقع في الكتب الستة في المقام الأول، ولا يمنع ذلك من أن تتعرض لما وقع في غيرها (ينظر: مقدمة تحقيق الدكتور بشار عواد معروف لتهذيب الكمال للمزي 1/37-71، وينظر أيضًا مقدمة المزي لكتابه تهذيب الكمال 1/147-152). وهذا الاحتمال الثالث.
لكن يناقش هذا بأن الحافظ المزي قال في مقدمة كتابه تهذيب الكمال 1/151: *وذكرت أسماء من روى عنه كل واحد منهم، وأسماء من روى عن كل واحد منهم في هذه الكتب أو في غيرها على ترتيب حروف المعجم*، أي أن الحافظ المزي قصد الاستقصاء في ذلك، لكن قد يناقش أن تحقيق هذا الاستقصاء،كما قال ابن حجر: *لا سبيل إلى استيعابه ولا حصره؛ بسبب انتشار الروايات وكثرتها وتشعبها وسعتها* (مقدمة تهذيب التهذيب 1/4).
لكن ابن حجر قصد الرواة الذين روى عنهم عدد كبير جدًّا من الرواة لا من روى عنه عدد محدود، كما وضّح ذلك في الموضع السابق من المقدمة، ومن ثم لا يدخل عراك بن مالك في ذلك القيد، فمن روى عنهم عدد محدود سواء أكانوا من الصحابة أو من التابعين.
النوع الثاني: روايته المرسلة عن الصحابة ووقع فيها خلاف في الإرسال:
وذلك في روايته عن اثنين من الصحابة الكرام، وهما:
1- رواية عراك بن مالك عن حكيم بن حزام: لم يُذكر عراكُ بنُ مالك في الرواة عن حكيم بن حزام سواء أكان في ترجمة حكيم أو عراك في تهذيب الكمال ومختصره تهذيب التهذيب. وإن كان المزي أخرج حديثه عن حكيم في عدم قبول هدية المشرك في تهذيب الكمال 7/174، وقد ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عراكًا من الرواة عن حكيم كما مرّ سابقا. وسماعه من حكيم ممكن وليس بعيدًا، فقد مات حكيم عام (54ه) على قول الأكثر، وقال بعضهم: إنه مات بالمدينة. (تهذيب الكمال 7/192، ومختصره تهذيب التهذيب 2/448)، ويؤكد هذا السماع ما يأتي:
(أ) صحة سماع عراك من أبي هريرة رضي الله عنه، كما مرّ، وقد مات أبو هريرة عام 57ه، وقيل: 58ه، وقيل: 59ه، فقد كان أبو هريرة معاصرًا لحكيم بن حزام رضي الله عنه، فلا يستبعد أن يسمع عراك منه، وقد ذكر ذلك مخرجو مسند أحمد بن حنبل في تخريج حديث حكيم في عدم قبول هدية المشرك، فقالوا: *سماع عراك بن مالك من حكيم بن حزام ممكن؛ لأنه سمع من أبي هريرة، ووفاتهما قريبة*. (مسند أحمد بن حنبل 24/40 الحديث رقم 15323، ط مؤسسة الرسالة).
(ب) رواية عراك بن مالك عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (124ه)، والزهري أصغر من عراك كما في (تهذيب الكمال 19/456)، والزهري مولود عام (58ه) كما في (الأعلام للزركلي 7/97)، فعلى ذلك يمكن أن يكون عراك بن مالك في سن يصلح للتحمل على الأقل عند وفاة أبي هريرة وحكيم بن حزام.
وبناء على ذلك يكون قولُ الذهبي (748ه) في رواية عراك عن حزام: *أظن أن روايته عن حكيم مرسلة* (سير أعلام النبلاء 3/44)، فيه نظر، ويؤكد هذا أن الذهبي قد انفرد بذلك، ولم يذكره غيره، فضلًا عن أنه ذكره بلفظ الظن دون لفظ الجزم أو ما يدل عليه، والله أعلم.
2- رواية عراك بن مالك عن عائشة رضي الله عنها:
أخرج الإمام مسلم (261ه) في صحيحه (2630، 148) رواية عراك بن مالك عن عائشة أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ". وأخرجه بنحوه مسلم (2629، 147) عن عبدالله بن أبي بكر عن عروة بن الزبير عن عائشة.
وقد ذكر عددٌ من نقّاد الحديث أن رواية عراك عن عائشة مرسلة: أولهم الإمام أحمد بن حنبل (241ه)، فقد ذكر ابن أبي حاتم (327ه) بسنده (في المراسيل 1/162 رقم 606) عن الأثرم: أحمد بن محمد بن هانئ (261ه) تلميذ الإمام أحمد، أنه سمع الإمام أحمد قد ذكر حديث خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن قومًا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بغائط أو بول، فقال: "حولوا مقعدي إلى القبلة".
فقال: مرسل. فقال الأثرم: قال عراك بن مالك: سمعت عائشة رضي الله عنه؟ فأنكر ذلك الإمام أحمد، وقال: أين سمع عراك عائشة؟ ما له ولعائشة؟ هذا خطأ، إنما هو عراك عن عروة عن عائشة. ثم قال الإمام أحمد للأثرم: من روى هذا؟ فقال الأثرم: حماد بن سلمة عن خالد الحذاء. فقال الإمام أحمد: رواه غير واحد عن خالد الحذاء ليس فيه سمعت، وقال غير واحد أيضًا عن حماد بن سلمة ليس فيه سمعت. (وينظر: جامع التحصيل في أحكام المراسيل: العلائي ص 236، وإكمال تهذيب الكمال: مغلطاي 9/213، وتهذيب التهذيب 3/98، وتحفة التحصيل: أبو زرعة ابن الحافظ العراقي، ص224-225).
وتابع الإمام أحمد على إنكار سماع عراك بن مالك من عائشة كلٌّ من: تلميذُه الحافظ موسى بن هارون البزاز (294ه)، وابن عمار الشهيد (317ه) تلميذ الحافظ موسى بن هارون (علل أحاديث في صحيح مسلم: ابن عمار الشهيد، ص 12، الحديث الثلاثون، وينظر: غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة: الرشيد العطار (662ه)، ص 255-256)، كما تابعهم أبو عبدالله الحاكم (405ه)، فقال: *لم يسمع من عائشة، بينهما عروة بين الزبير* (سؤالات مسعود بن علي السجزي (438ه) لأبي عبدالله الحاكم، ص 54، ط دار الفاروق الحديثة)، ومال إلى ذلك ابن القيم (751ه) في تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته ص 24، ط دار الكتب العلمية، على حين جزم بذلك في زاد المعاد2/351. (وينظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ الألباني 2/354-360، الحديث رقم 947).
لكن يغلب عن الظن أن نفي سماع عراك من عائشة على وجه الإطلاق، فيه نظرٌ؛ وذلك للأسباب التالية:
أ- أن الظاهر من كلام أحمد بن حنبل أنه ينفي سماع عراك من عائشة هذا الحديث دون أن ينفي مطلق سماع عراك منها، فقد ذكر في كلامه السابق نقلُه، أن أغلب الرواة رووه دون ذكر قول عراك: سمعت عائشة، ولا ينفي هذا مطلق سماعه منها، وعلى هذا يحمل قوله: *أين سمع عراك عائشة؟ ما له ولعائشة؟ هذا خطأ* يعني هذا الحديث خاصة، وما يؤكد ذلك أن عشرة من الرواة رووه عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، تسعة منهم لم يذكر قول عراك بن مالك: سمعت عائشة، وإنما عن عائشة، ومن صرح بلفظ السماع، إنما هو واحد فقط وهو موسى بن إسماعيل التبوذكي (223ه)، وروايته في التاريخ الكبير للبخاري (3/156) على حين خالفه تسعة من الرواة عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد ولم يذكروا لفظ سماع عراك من عائشة، وإنما بالعنعنة، وهم: وكيع بن الجراح (197ه) وروايته عند ابن أبي شيبة في مصنفه 1/151، وأحمد (6/137) الحديث رقم (25063)، وابن ماجه الحديث رقم 324، والدارقطني في سننه (1/60).
وثانيهم: بهز بن حكيم بن معاوية القشيري (قبل 160ه) وروايته عند أحمد 6/219، الحديث رقم 25837.
وثالثهم: أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري (237ه)، عند أحمد 6/227 الحديث رقم (25899).
ورابعهم: يزيد بن هارون السلمي (206ه)، عند أحمد بن حنبل 6/239 الحديث رقم (26027).
وخامسهم: أبو داود الطيالسي (204ه) في مسنده الحديث رقم (1645).
وسادسهم: الوليد بن عقبة بن المغيرة (؟)، في مسند إسحاق بن راهويه، الحديث رقم (1095).
وسابعهم: حجاج بن المنهال السلمي (216ه)، عند ابن المنذر (319ه) في الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، الحديث رقم (261).
وثامنهم: أسد بن موسى بن إبراهيم الأموي (212ه) عند الطحاوي في مشكل الآثار 4/234، الحديث رقم 234، ويحيى بن إسحاق السيلحيني (210ه)، عند الدارقطني (1/60)، كلهم لم ينقلوا لفظ السماع، وخالفهم موسى بن إسماعيل كما مرّ، مما يدل على أن رواية التصريح بالسماع غير محفوظة، إن لم تكن منكرة.
كما تابع حماد بن سلمة على عنعنة عراك عن عائشة دون لفظ السماع، هشيم بن بشير الواسطي (183ه)، عند ابن شاهين (385ه) في ناسخ الحديث ومنسوخه، الحديث رقم 83، وعبدالعزيز بن المغيرة الصفار البصري (؟)، عند أبي الحسن بن القطان (345ه) في زياداته على سنن ابن ماجه عقب الحديث رقم (324)، كلاهما (هشيم وعبدالعزيز) عن خالد الحذاء به.
لكن علي بن عاصم الواسطي (201ه) قد تابع حماد بن سلمة، فرواه عن خالد الحذاء به، وفيه تصريح عراك بالسماع من عائشة، فقال: حدثتني عائشة، أخرجه أحمد 6/184 الحديث رقم (255119)، وإسحاق بن راهويه في مسنده الحديث رقم (1096)، والدارقطني في السنن 1/59-60، والبيهقي في السنن الكبرى 1/92، والحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، ص 27، والمزي في تهذيب الكمال 8/93.
لكن علي بن عاصم الواسطي سيئ الحفظ أنكر بعضهم عليه كثرة الخطأ والغلط (ينظر: تهذيب الكمال 20/504-520، وتحرير تقريب التهذيب 3/47). فيكون مخالفته لهشيم والمغيرة بن عبدالعزيز وحماد بن سلمة في تسعة من الرواة عنه، بالتصريح بسماع عراك من عائشة غير معتبرة بل هي وهم؛ لضعفه وسوء حفظه. كما أن سند الحديث المرفوع فيه اضطرابٌ، كما قال البخاري (العلل الكبير للترمذي، ص 24)، وذكر الحافظ ابن حجر أن من قال في سند هذ الحديث: عن عراك سمعت عائشة مرفوعًا وهم فيه سندًا ومتنًا (تهذيب التهذيب 3/98). (وينظر: التخريج الموسع لهذا الحديث في مسند أحمد 6/137 الحديث رقم (25063) ط الرسالة، والسلسلة الضعيفة الحديث رقم 947).
ب- لذا صحح عدد من جهابذة هذا الحديث الوقف على عائشة، من طريق جعفر بن ربيعة عن عراك عن عروة عن عائشة أنها كانت تنكر قولهم: لا تستقبل القبلة ببول أو غائط. فذهب البخاري إلى أن هذا الموقوف أصح (التاريخ الكبير 3/156) أو أنه الصحيح من قولها (العلل الكبير، ص 24)، وقال أبو حاتم الرازي: هذا أشبه. (علل الحديث لابن أبي حاتم 1/472 الحديث رقم 50).
وبيّن ابن القيم (751ه) وجه كون الموقوف أصح أو هو الصحيح، أن الذي رواه موقوفًا عن عراك بن مالك هو جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي (136ه)، وهو الحجة في عراك بن مالك المختص بحديثه الضابط له، فتكون روايته مقدمة على رواية خالد بن أبي الصلت الذي رواه عنه مرفوعًا. (تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، ص 22، وينظر: ابن القيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية: جمال بن محمد السيد، 2/83-88)، مما يغلب معه الظن أن من أنكر سماع عراك من عائشة إنما أنكر ذكر لفظ سماعه هذا الحديث منها، لا مطلق سماعه منها، والله أعلم.
ت- أن سماع عراك بن مالك من عائشة جائز وممكن، ولا يقدح في ذلك أن البخاري أخرج في صحيحه حديثه عن عائشة بواسطة، فأخرجه عنه عن عروة عنها، ولم يخرج له البخاري عنه عن عائشة دون واسطة، وكذلك فعل مسلم بن الحجاج في صحيحه، فلم يخرج له مباشرة عن عائشة إلا هذا الحديث في مجيء المرأة المسكينة مع ابنتيها إليها، وقد رواه أولًا من طريق آخر عن عروة عن عائشة، فلا ينفي ذلك إمكان سماع عراك من عائشة بالكلية، وخاصة أنهما كانا يعيشان في عصر واحد وفي بلد واحد (المدينة)، وهذا يحمل على السماع حتى يقوم الدليل على نفي سماعه منها، ولم يقم هذا الدليل، كما أن قرائن أخرى تجعل هذا السماع ممكنًا، وهو صحة سماع عراك بن مالك من أبي هريرة رضي الله عنه، وقد كانت وفاته قريبة من وفاة عائشة، ذكر ابن حجر أن عائشة توفيت عام 57ه، وأن أبا هريرة توفي (57ه) وقيل: (58ه)، وقيل: (59ه)، (تقريب التهذيب ص 680، 750)، ولعل إخراج البخاري كل حديث عراك عن عائشة ومسلم في كل أحاديثه عنها إلا حديثًا واحدًا، من طريقه عن عروة عن عائشة، جعل بعض نقاد الحديث وأئمته يجعلون روايته عن عائشة مرسلة.
قال ابن رجب الحنبلي (795ه): "فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحيانًا ولم يثبت لقيه له، ثم يُدخل أحيانًا بينه وبينه واسطة، فهذا يستدل به هؤلاء على عدم السماع منه، وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ، يعني ذكر السماع". (شرح علل الترمذي 2/593-594).
وهذا لا يكون دليلًا صريحًا على نفي السماع بالكلية، لأنه لم يقم دليل صريح على ذلك، فيكون السماع ممكنا حتى يقوم دليل على نفيه. يقول ابن دقيق العيد (702ه): *إذا سمع منه (أي عراك من أبي هريرة)، فلا يبعد أصلًا في أن يسمع منها مع كونهما في بلدة واحدة، وهذا لعله ظن أقوى في سماعه منها من الظن المستند إلى أنه يروي عن عروة عنها، فلا يكون سمع منها، وهذا هو الذي أوجب لمسلم رحمه الله أن أخرج في الصحيح حديث عراك عن عائشة* (الإلمام في معرفة أحاديث الأحكام 3/400، وينظر ما قبل تلك الصحفة وما بعدها، وينظر كذلك: غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة: الرشيد العطار، ص 255-257).
ولعل هذا ما جعل الذهبي لا يجزم في جميع كتبه بعدم سماع عراك من عائشة، فقد نقل قول الإمام أحمد في ذلك ولم يعلق عليه في ميزان الاعتدال (3/63)، وفي المغني في الضعفاء 2/431، على حين حكى ذلك في سير أعلام النبلاء (5/64) وفي ديوان الضعفاء والمتروكين وخلق من المجهولين وثقات فيهم لين، ص273، بصيغة التمريض *قيل: لم يسمع منها*.
القسم الرابع: ما انفرد به الواقديُّ بذكر رواية عراك بن مالك عن أحد من الصحابة:
وهو رواية عراك بن مالك عن الحارث بن البرصاء، فقد أخرج الواقدي في المغازي (2/862) وعنه تلميذه ابن سعد في الطبقات الكبرى (6/151 ط الخانجي) قال الواقدي: حدثني زيد بن فراس عن عراك بن مالك، عن الحارث بن البرصاء قال: سمعت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم يقولُ يومَ الفتحِ: "لَا تُغْزَى قُرَيْشٌ بَعْدَ هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". يَعْنِي: عَلَى كُفْرٍ.
والحارث بن البرصاء هو الحارث بن مالك بن قيس وأمه البرصاء، صحابيٌّ أسلم عند فتح مكة، سكن بمكة ثم المدينة ثم نزل الكوفة، وذكر ابن حجر أنه بقي إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (60ه)، (الإصابة في تمييز الصحابة1/596)، بل ذكر أبو العرب التميمي (333ه) في كتابه المحن ص 150، ومغلطاي في إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال (3/315-316) خبرًا يفيد أنه عاش إلى خلافة يزيد بن معاوية (64ه).
ولم تذكر كتب تراجم رواة الأحاديث عراكَ بن مالك من الرواة عن الحارث بن البرصاء، وإنما ذكروا راويين اثنين عنه، هما: عامر الشعبي وعبيد بن جريج، مع أن سماعه منه ممكن كما يتضح من تاريخ وفاته، فقد صح سماعه من أبي هريرة وقد مات قبل الحارث، فضلًا عن أنه سكن المدينة إلى أوائل خلافة يزيد بن معاوية.
(ينظر: معرفة الصحابة لأبي نعيم 2/ 780، والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 1/290، وتهذيب الكمال 5/276، وإكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال لمغلطاي 3/314-316، والوافي بالوفيات للصفدي 11/184-185، والإصابة في تمييز الصحابة 1/596، وتهذيب التهذيب 2/137، وتقريب التهذيب، ص 177، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي 1/259).
كما أن الحديث الذي رواه الواقدي بسنده عن عراك بن مالك عن الحارث قد انفرد به، فقد رواه غيره من المصنّفين من المحدّثين عن الشعبي عن الحارث به مرفوعًا، أخرجه أحمد 3/412، الحديث رقم 15404، والترمذي (1611)، وغيرهما، (ينظر التخريج الموسع للحديث في السلسلة الصحيحة، للشيخ الألباني، الحديثين 2427و 3243، ومسند أحمد بن حنبل 24/130 ط مؤسسة الرسالة).
والخلاصة أن عراك بن مالك كانت روايته عن الصحابة والتابعين، فهو في الطبقة الثانية من التابعين، وكانت روايته عن الصحابة لم تكن على درجة واحدة في الاتصال والسماع، فمنهم من صح سماعه منهم، ومنهم من اختلف في سماعه منهم، ومنهم من انفرد الواقدي بذكر روايته عنهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد