العصبية القبلية مفاسد وأضرار


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

1- خُطُورَةُ وَعَوَاقِبُ العَصَبِيَّةِ القَبَلِيَّةِ.

2- كَيْفَ نَحفَظُ مُجتَمَعَاتَنَا مِنَ العَصَبِيَّةِ.؟

الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: التحذير من هذه الظاهرة التي انتشرت في المجتمعات القبلية، مع بيان كَيْفَ نَحفَظُ مُجتَمَعَاتَنَا مِنْها.

• مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:

• أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، لقاؤنا اليوم بإذن الله تعالى مع قضيةٍ اجتماعيةٍ خطيرةٍ، وخصلة من خِصَالِ أهلِ الجاهلية، بسببها تنتشِرُ البغضاءُ، ومنها تنبعثُ الأحقادُ، ولأجلها رُفِعَت شعاراتٌ جاهلية.

• ظاهِرَةٌ خطيرَةٌ: لم تدخلْ في مجتمعٍ إلا فرَّقته، ولا في صالحٍ إلا أفسدته، ولا في كثيرٍ إلا قللته، ولا في قويٍّ إلا أضعفته، وما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح في نشرِها، فقد شبَّ عليها الصغيرُ وشاب عليها الكبيرُ؛ إنها [العَصَبِيَّةُ القَبَلِيَّةُ المَقِيتَةُ] إنها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، الفخر بالأرض والتراب، إنها الفخر بالعرق واللون والبلد والجنس، بل وربما يمتد إلى التعصب للرأ والعمل والتخصص.

• وبالرغم من كثرةِ أضرارها إلا أنها وجدت رواجًا عند ضِعَاف الإيمان، وقد برزت هذه القضيةُ من خلال فلتات اللسان، واشتعلت نارُها عبر ما يُكتبُ ويُنشَرُ على المواقع والصفحات؛ ولذا وجب علينا أن نبيِّنَ خطورتَها وعواقِبَها، وكيف نحفظ مجتمعاتنا منها؟ وذلك من خلال هذه الوقفات:-

• الوقفةُ الأولى:- خُطُورَةُ وَعَوَاقِبُ العَصَبِيَّةِ القَبَلِيَّةِ.

1- فإن العصبِيَّةَ القبلية والحميَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ: قد مقتها الإسلام وعدَّها من دعاوى وأمورِ الجَاهِلِيَّةِ. فقد قال الله تعالى ذامًّا أهل الحَمِيَّةَ لغير الدين: {إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه لمَّا بلغه أنه عيَّر بلالًا بأمه: ((أَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)) أي ما زال فيك خصلة من خصال الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأحساب، ويطعنون في الأنساب.

2- بل وصفها بأنها منتنةٌ تنفيرًا للنَّاس من سلوك طريقها واتباع سبيلها. ففي الصحيحين عن جَابِر بْن عبدالله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ (والكسْعُ: ضرب الدبر باليد أو بالرجل)، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟!)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: ((دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)) وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!))

• نَعَمْ واللهِ، إِنَّهَا لَمُنْتِنَةٌ وَخَبِيثَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَجْعَلُهُمْ طَبَقَاتٍ، فَتَثُورُ الْأَحْقَادُ فِي النُّفُوسِ، وَتَتَحَرَّكُ الضَّغَائِنُ فِي الصُّدُورِ، ثُمَّ يَكِيدُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَأَيُّ أُمَّةٍ تَتَقَدَّمُ، وَأَيُّ إِنْجَازٍ يَتِمُّ، وَالنَّاسُ يَكْرَهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْحِقْدُ يَحْرِقُ الْقُلُوبَ وَالْأَفْئِدَةَ؟!.

• قال النووي رحمه الله: "وَأَمَّا تَسْمِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل، فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة. فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا، وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام".

3- العصبِيَّةُ القبلية والحميَّةُ ٱلْجَاهِلِيَّة: قد تُوقِعُ العَبدَ فِي الكبر المذموم؛ وهذا يتنافى مع التواضع المأمور به شرعًا. ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)) فمن كان متواضعًا: فإنه لا يبغي على أحدٍ، وأنه لا يفخر على أحدٍ.

4- العصبِيَّةُ القبلية: قد توقع المرء في ظلم العباد ومنع الحقوق وبخس الناس أشياءهم ورد الحق والانتصار للباطل.

• ألم يمتنع إبليس من السجود لآدم بسبب نظرته لأصله الناري؟! فكيف يسجد للأصل الطيني؟! قال تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف: 12]، وقال تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}[الإسراء: 61].

• وتأمل: كيف حالت العصبية القبلية، بين أبي طالب ونعمة الهداية للإسلام؛ فمات على دين الآباء والأجداد.

• وقد روي في بعض كتب التاريخ: أنه في سنة (ست عشرة للهجرة)، قدم جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتلقاه جماعة من المسلمين، ودخل في زي حسن، وبين يديه جنائب مقادة، ولبس أصحابه الديباج، ثم خرج عمر إِلى الحج في هذه السنة فحج جبلة معه، فبينما جبلة طائفًا إِذ وطئ رجل من فزارة على إِزاره، فلطمه جبلة فهشم أنفه، فأقبل الفزاري إِلى عمر وشكاه، فأحضره عمر، وقال: افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة، فقال عمر: إِن الإسلام جمعكما وسوَّى بين الملك والسوقة في الحد. فقال جبلة: كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع عنك هذا. فقال جبلة أتنصر. فقال عمر: إِن تنصرت ضربت عنقك. فقال أنظرني ليلتي هذه، فأنظره، فلما جاء الليل سار جبلة بخيله ورجاله إِلى الشام، ثم صار إِلى القسطنطينية، وتبعه خمس مائة رجل من قومه، فتنصروا عن آخرهم، وفرح هرقل بهم وأكرمهم، ثم ندم جبلة على فعله ذلك وأنشد نادمًا:

تَنَصَّرتْ الأشْرافُ مِن عَارِ لَطْمةٍ     ***    ومَا كَان فِيها لَو صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ.

تكنَّفني فيها اللجاجُ ونَخْوةٌ             ***    وبِعْتُ بها العَينَ الصَّحِيحةَ بالعَوَرْ.

فَيَا لَيْت أُمِّي لَم تَلِدْنِي ولَيْتَني           ***    رَجَعْتُ إلى القَول الذي قَالَه عُمرْ.

ويَا لَيْتَنِي أرْعَى الْمَخَاض بِقَفْرةٍ       ***    وكُنْتُ أسَيرًا في رَبِيعَة أوْ مُضَرْ.

ويَا لَيْتَ لي بالشَّام أدْنَى مَعْيِشةٍ        ***    أجْلِس قَومِي ذَاهِب السَّمْع والبَصَر.

أدِين بِمَا دَانُوا بِه مِن شَرِيعة           ***    وقَد يَصْبِر العَوْد الكَبِير عَلى الدَّبَر.

5- وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذا الأمر من الجاهلية لن يدعه الناس حتى قيام الساعة. ففي صحيح مسلم عن أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ)).

• وقَوْلُهُ: ((الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ)) وَالْقَبِيلَةِ وَالتَّعَاظُمِ بِذِكْرِ مَنَاقِبِ الآبَاءِ وَمَآثِرِهِمْ، عَلَى وَجْهِ الْمُفَاخَرَةِ وَالتَّعَاظُمِ وَالرِّفْعَةِ عَلَى الآخَرِينَ.

• وَقَوْلُهُ: ((الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ)) أَيِ الْوُقُوعِ فِيهَا بِالذَّمِّ وَالْعَيْبِ أَوْ يَقْدَحُ فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ قَبِيلَتِهِ أَوْ جِنْسِيَّتِهِ أَوْ لَوْنِهِ.

• فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هذِه الخِصالَ تَدومُ في الأُمَّةِ لا تَترُكُها كما ترَكَت غيْرَها مِن سُننِ الجاهليَّةِ؛ فإنْ تَرَكَها طائفةٌ، جاءَ وتَمسَّك بها آخَرون.

6- العصبِيَّةُ القبلية والحميَّةُ ٱلْجَاهِلِيَّة، والطعن في الأنساب: مِنْ صِفَاتِ الْكُفْرِ؛ فَفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّت)).

7- العصبِيَّةُ القبلية والحميَّةُ ٱلْجَاهِلِيَّة: قد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منها، ومن أصحابها. ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ، وشَقَّ الجُيُوبَ، ودَعَا بدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ.)) وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ)) [رواه أبو داود، وضعفه الألباني].

8- العصبِيَّةُ القبلية والحميَّةُ ٱلْجَاهِلِيَّة: من مات عليها؛ مات على الجاهلية، ومصيره إلى النار. ففي صحيح مسلم عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عبدالله الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً؛ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)) وعن الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ))، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهُ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: ((وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ فَادُعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سَمَّاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ)) [رواهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِي] وفي رواية: ((فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الّذِي سَمَاكُم المُسْلِمِينَ المُؤْمِنينَ عِبَادَ الله)).

نسأل الله العظيم أن يطهر قلوبنا من هذه العصبيات الجاهلية.

 

• الخطبة الثانية:- كَيْفَ نَحفَظُ مُجتَمَعَاتَنَا مِنَ العَصَبِيَّةِ.؟

• أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فإنّ علاج العصبية القبلية ليس بالأمر السهل؛ فلا يمكن علاجها في يوم وليلة. فالنبي صلى الله عليه وسلم مع ملازمته لذمِّها والتحذير منها فترة نبوته ووجوده بين أصحابه كانت العصبية تجد طريقها إلى النفوس؛ فلابد من الأخذ بالأسباب لنحفظ مجتمعاتنا منها؛ ومن هذه الأسباب:-

1- أن تتذكر: هذه الحقائق جيدًا:

• أن أصل خلق الناس جميعًا واحد.

• وأن الانتساب إلى الشعوب والقبائل إنما هو لأجل التعارف.

• وأن أساس التفاضل بين الناس عند الله تعالى هو الإيمان والتقوى.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}[الحجرات: 13] قال المفسرون: أي جعلناكم شعوبًا وقبائل لتتعارفوا لا لتتفاخروا؛ فقد حسمت هذه الآية موضوع التفاخر بتأصيل ثلاث ركائز مهمة:

الأولى: أن أصل خلق الناس جميعًا واحد.

الثانية: أن ما يحتج به الناس بانتسابهم إلى شعب كذا، أو قبيلة كذا مما لم يأذن به الله لأجل التفاخر، وإنما أذن به لأجل التعارف.

الثالثة: أن التفاخر والتفاضل والتقدم إنما هو لأهل التقوى.

• وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ (أَيْ: نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وَفَخْرَهَا بَالآبَاءِ، فَالنَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ)) [رواه أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وحَسَّنَهُ الأَلْبَانِي]. وخطَبَ النبي صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع، فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى)).

• وحتى مناقب الناس في الجاهلية لا يعتد بها إلا إذا أسلم أصحابها وتفقهوا في الدين وعملوا الصالحات. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((النَّاسُ مَعَادِن كَمَعَادِن الذَّهَب وَالفِضَّة، خِيَارُهُم فِي الجَاهِلِيَّة خِيَارُهُم فِي الإِسْلاَم إِذَا فَقُهُوا، والأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَة، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)) وفي رواية: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: ((أَتْقَاهُمْ)) فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: ((فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقُهُوا)).

2- أن تتذكر: أن الإيمان والعمل الصالح هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، وليس الحسب والنسب.

• إِذْ لا شَرَفَ إِلَّا بِالإيمان والعمل الصالح؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}[سبأ: 37] وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)) قال النووي رحمه الله: "مَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ عَمَله نَاقِصًا، لَمْ يُلْحِقهُ بِمَرْتَبَةِ أَصْحَاب الْأَعْمَال، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَتَّكِل عَلَى شَرَف النَّسَب، وَفَضِيلَة الْآبَاء، وَيُقَصِّر فِي الْعَمَل".

3- أن تتذكر: أن جميع المؤمنين تربطهم ربطة الأخوة الإيمانية وإن لم تكن بينهم أرحام وأنساب متقاربة. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

• فعقيدة التوحيد تجمعنا، ودار الإسلام تؤوينا، ولا فخر لنا إلا بطاعة الله تعالى، ولا عزة ولا كرامة لنا إلا بالإيمان، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.

4- أن تتذكر: أن كل الروابط يمكن أن توجد ثم تنقطع؛ إلا رابطة الدين.

• فهذا نبي الله نوح عليه السلام تنقطع بينه وبين ولده الروابط لأنه كافر؛ وتأمل قوله تعالى: {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: 45، 46].

5- أن تتذكر: أن جميع الروابط والعصبيات تنتهي يوم القيامة. قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}.

6- أن تتذكر: أصل خلقتك أيها الإنسان.

• فيا من تطعنُ في الأنساب وتفتخر بالأحساب، يا من حقّرت الناس وتنقصتهم، ألا تعلم حقيقتك؟! ألا تعلم أن أوَّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل في جوفك العذرة؟! قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ}[المرسلات: 20]. فعلام الكبرياء وعلام التعالي.؟!

7- أن تتذكر: وساوس الشيطان، فإنه يريد أن يوقِع بين الناس الوقيعة والبغضاء. في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الشَّيطان قد يَئِسَ أن يَعْبُدَه المُصَلُّون في جَزيرة العَرب، ولكن في التَّحْرِيشِ بينهم.)) قال ابن الجوزي رحمه الله: "ومن تلبيس إبليس عليهم: أن يكون لأحدهم نسب معروف فيغتر بنسبه".

8- في أوقات الفتن: كن مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، ولا تتكلم إلا بالخير. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جُعِلَ مَفَاتِيحُ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ))[رواهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

• ونختم بهذا التنبيه: وهو أنَّ مَعْرِفَةَ الْإِنْسَانِ لِقَبِيلَتِهِ وَانْتِسَابِهِ لَهَا وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى ذَلِكَ لا يُذَمُّ فِي الشَّرْعِ؛ إذا كان للتعارف والصلة؛ فقد جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ))، وَجَاءَ فِي قَصَّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامَ قَوْلُهُ: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود: 80] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: "هُمُ الْعَشِيرَةُ وَالْقَبِيلَةُ".

• فعلينا أيها المسلمون: أن نتجرد من كل هذه النعرات والعصبيات الجاهلية التي تنخر في عظام المجتمع وتفكك أوصاله، ونسعى جاهدين إلى الصلاح والإصلاح بين أطراف وأطياف المجتمع؛ حتى نجتث هذه الفتن والنعرات والعصبيات من جذورها؛ وليكن لنا القدوة في نبينا صلى الله عليه وسلم.

• وعلينا عباد الله، أن نحذر شديد الحذر من الفرقة والتشاحن والتباغض والتقاتل والتحزب والعصبية والقبلية بالصلح والمصافحة والمصالحة.

نسأل الله العظيم أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يجعلهم متحابين متآلفين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply