أثر رسوخ العالم وربانيته


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

من استشهادات أستاذتنا زينب أبو الفضل -أكرمها الله تعالى-: كلمة لابن القيم -رحمه الله تعالى- في «أعلام الموقعين عن رب العالمين»: «وقد نصب الله تعالى على الحق أماراتٍ كثيرةً، ولم يسوِّ الله سبحانه بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كلِّ وجه، بحيث لا يتميَّز هذا من هذا. ولا بد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق، مؤثِرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعضُ الأمارات المرجِّحة، ولو بمنام أو بإلهام».

هذا كلام له سياق وسباق ولحاق، يمكن معرفته بالرجوع إلى «الأعلام»، لكنه بهذه الصورة قاعدة شافية، وأصل، يَطمئن من يأخذ به، ويَسلم من آفات كثيرة، وهو في العاميِّ إذا لم يجد من يفتيه، فما بالُنا بأهل العلم الراسخين الربانيين الموصولين بالله تعالى الذين يفتون الناس ويخرجونهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور؟! لا شك أن لهم القدح المعلى والنصيب الأوفى.

لابد إذًا لمعرفة الحق وتمييزه من وجود إنسانٍ كثيرِ التأله، ذي فطرة سليمة تميل إلى الحق وتفضله، يستهدي ربَّه، ويسأله ملحفًا وملحًّا أن يعطيه سؤله، أما إذا لم يكن عابدًا، بل كان منشغلًا بالمباحات والفضول، دع عنك المعاصي وشؤمها، والتقصير في الطاعات وعواقبه؛ فليس معنا في هذا الشأن، وسيكون صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء، ولكننا نريده ونحب له أن يكون معنا في هذه الجادة المستقيمة التي هي جنة الدنيا، قال يحيى بن معاذ الرازي: «في ‌الدنيا ‌جنة من دخلها لم يشتق إلى شيء ولم يستوحش، قيل: وما هي؟ قال: معرفة الله تعالى». ولابن تيمية نحو هذا الكلام، كما هو معروف. وهو معنى ثابت في الوحيين.

بعد هذه التوطئة أريد أن أذكر نماذج وأمثلة تخبرك برسوخٍ وإيمانٍ في آن:

- وقفت على بحثٍ لأستاذنا أ.د. محمد الحفناوي -وفقه الله وسدده- بعنوان: «الاستدلال الخاطئ بالقرآن والسنة في قضايا السلم والحرب (غير المسلمين أنموذجًا)» قرأت له حاشيةً من سطر (ص 37) وهي: «راجع هذه القواعد في كتاب: «عناية القرآن بحقوق الإنسان» للدكتورة زينب عبد السلام أبو الفضل؛ فإنه أعطى الموضوع حقه». في هذا السطر دروس عديدة وعبر كثيرة، حتى وقع في نفسي أنه سطر مبارك وحاشية ميمونة، والسؤال: لماذ؟ والجواب: أن الدكتورة هي حرم أستاذنا المصون وسليلة آل الفضل وعقيلتهم، وهي -نحسبها والله حسيبها ولا نزكي على الله تعالى أحدًا- مَن هي علمًا وفضلًا وربانيةً، ورغم ذلك لم يشعرك أستاذنا بشيء من هذا في عزوه، بل اكتفى بما يحقق أمانة العلم، فقد جاء سطره هذا مشتملًا على التواضع، والأدب الرفيع، والربانية والرسوخ في العلم، ومعرفة الحق والفضل لأهله. أين هذا من إفراطٍ وتفريطٍ ودعاوى وتشبع ابتلي به كثيرون؟! نسأل الله السلامة والعافية.

و«عناية القرآن» رسالة عالمية عُليا حاصلة على مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالطبع والتداول بين الجامعات؛ لأهمية الرسالة من الناحية العلمية. وحسبك أن تقرأ تقريظَ الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس -رحمه الله تعالى وطيب ثراه- للكتاب لتعرف قيمة العمل الذي عزا إليه أستاذنا الحفناوي، وقد لقبها أ.د. عبد الحليم بـ (رائدة الباحثات المسلمات الجادات). وجزَّى خيرًا زوجَها العالم والباحث الكبير كفاء ما قدَّم من توجيهات لأستاذتنا. وحسبك بالأستاذ الدكتور عويس -رحمه الله تعالى-. ولا يفوتني أن أذكر أن أ.د. علي جمعة مفتي الديار المصرية الأسبق قد شكر كلية الآداب جامعة طنطا أن عهدت إليه بمهمة الإشراف على رسالة «عناية القرآن»، فمن يشكر منا؟! ولكن العلم رحم بين أهله، وهذه أخلاق الكرام التي تفرضها عليهم فتوحات الله تعالى لهم وبركاته عليهم. وكفى بربنا -جل جلاله- عليما خبيرًا وسع كل شيء رحمة وعلمًا، فهذا سطر وراءه سطور، وتلك حاشية خلفها دهور من العلم والإيمان.

-مدرستها النبيلة: لأستاذتنا مدرسة علمية ربانية، وضعت لها منهجًا علميًّا وأخلاقيًّا، يستلفت الانتباه، ويدعو العقل دعوة بالغة إلى احترامه والسير وَفقه؛ إيمانا بصحته، وتصديقا برجاحته. من تلامذة أستاذتنا على سبيل المثال لا الحصر: باحث نبيل اسمه د. هيثم البقار، من أهل ليبيا الكرام -أعزهم الله ونصرهم- هذا النبيل يعكس بأخلاقه وتعاملاته، تلك التربيةَ التي ربته عليها الأستاذة، فهو يَعُد رسالتيه التخصص والعالمية فضلًا من الله تعالى عليه، ويدًا بيضاء وخضراء لأستاذته والمشرفة عليه ومعلمته. هكذا تُربي من تشرف عليهم، تربيهم على حسن الظن، وعلى ألا يسيئوا الظن، وإن بدا داعيه، ولاح باعثه، وكيف لا والله يدافع عن الذين آمنوا ويدفع عنهم؟! كما وعد وأخبر والله لا يخلف الميعاد.

ومن معالم المنهج العلمي الذي وضعته الأستاذة: تلك الدقائق المنهجية التي تخبرك بضرورة تخلي الباحث عن الأمور الشكلية المبالغ فيها والتي لا جدوى لها: فهي تكتب (ط1) بدلا من الطبعة الأولى، وللنشر والطباعة والتوزيع والإعلام والدعاية، تقول: لا داعي لهذا كله، فيكتفى باسم الدار، ولهذا ما له من الفوائد والمنافع التي يعلمها الممارس ويعرفها الباحثون.

ووالله لولا ولولا لكتبت كتابة طويلة جدا تأتي على كل ما رأيته -و(ما رأيته) أحب إلى نفسي من أن أقول: (ما تعلمته) ففي الثانية ما يشعر بالتزكية ولا يحسن بالمرء أن يقارب ما فيه إطراء له-

ولكني أذكر رؤوس ما رأيت وبعضه سبق ذكره: حسن الظن، ومعرفة الفضل لأهله، وشكرهم، وأخذ العفو والأمر بالعرف والإعراض عن الجهل وأهله، نقد القول مع حفظ حرمة القائل وعدم الإسراف في النقد، تقدير الدولة بل الدول ومؤسساتها تقديرًا لائقًا مناسبًا، احترام القانون ومعرفة منطلقاته الفقهية وأصوله الشرعية، واجتناب التصادم والتنافر وأسبابهما اجتنابا، وقبول الآخر ما دام ساعيًا في رفع الغشاوة عن بصره، قول الحق في أدب وبصرٍ بالعواقب مع احترام الكبار ومعرفة حقوقهم، سلامة الصدر لكل مسلم بل لكل إنسان والحرص على نفعه ما دام في رياض المسالمة، ورحلة البحث عن الحق، ومسيرة التنقيب عن الهدى والنور، عفة اللسان والقلم، الجد الواعي والاجتهاد المدرك، عدم التعنت بل الرفق في أبهى صوره، بعد النظر ومراعاة الواقع وجوانب الأمر وأبعاده في الفتاوى والأحكام، تجسد الواقع المعيش حال الكتابة والفتوى والتوجيه. في أخرياتٍ لا تنتهي من الآداب والأصول والقواعد والثوابت والمنطلقات. ولو أردت الاكتفاء بكلمةٍ واحدةٍ لكانت التي في اسم أستاذتنا (الفضل). وكفى بالفضل وأهله. وسلام على الفضلاء أينما كانوا. وجعلنا الله جميعًا منهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply