بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(85).
{قُلْ} الخطاب في هذه الآية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخطاب للنبي خطاب له وللأمة، ما لم يقم دليل على أنه خاص به.
والمتأمل في الخطاب الموجه لنبي الله يتبين له أنه على ثلاثة أقسام:
قسم دل الدليل على أنه خاص به، وقسم دل الدليل على أنه له وللأمة، وقسم ليس فيه دليل.
أما ما دل الدليل على أنه خاص به فهو له، يختص به، مثل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلًا}[الإنسان:٢٣]، وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:١].
وأما ما دل الدليل على العموم، فهو على العموم، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:١]، وما سوى ذلك فإنه يكون عاما له وللأمة، لكن وجه الخطاب إليه باعتباره الإمام لأمته عليه الصلاة والسلام، والخطاب الموجه للإمام موجه له ولمن كان مؤتمًا به. ويؤيده قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136].
** وفيه وجوب الإقرار بالإيمان باللسان، كما هو واجب بالقلب، فاللسان معبر عن القلب.
{آمَنَّا بِاللَّهِ} والإيمان بالله يتضمن أمورًا:
الأمر الأول: الإيمان بوجوده.
الثاني: الإيمان بربوبيته.
الثالث: الإيمان بألوهيته.
الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته.
لكن الثلاثة الأخيرة لا بد من توحيده بذلك أي توحيده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء، والصفات. أما الوجود فشامل له ولغيره، وإن كان وجود الخالق يختلف عن وجود المخلوق.
فمن لم يؤمن بوجود الله فهو ليس بمؤمن. ومن آمن بوجوده ولم يؤمن بربوبيته على وجه عام شامل، فهو لم يؤمن بالله. ومن آمن بالله وربوبيته، ولكن لم يؤمن بالألوهية فليس بمؤمن. ومن آمن بذلك كله ولم يؤمن بأسمائه وصفاته فليس بمؤمن. لكن الأخير فيه تفصيل، قد يخرج من الإيمان بالكلية وقد لا يخرج.
{وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وجمعُ الضمير في قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} وهو القرآنُ لما أنه منزلٌ عليهم أيضًا بتوسط تبليغِه إليهم، أو لأن المنسوبَ إلى واحد من الجماعة قد يُنسَب إلى الكل، أو عن نفسه فقط وهو الأنسبُ بما بعده والجمعُ لإظهار جلالةِ قدرِه عليه السلام ورفعةِ محلِّه بأمره بأن يتكلَّم عن نفسه على دَيْدَن الملوكِ، ويجوز أن يكون الأمرُ عامًا، والإفرادُ لتشريفه عليه السلام والإيذانِ بأنه عليه السلام أصلٌ في ذلك كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء}[الطلاق:1].
{وَمَا أُنْزِلَ} من الصحف والوحي {عَلَى} والنزولُ كما يعدى بإلى لانتهائه إلى الرسل، يعدى بعلى لأنه من فوق.
{إِبْرَاهِيمَ} الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو أبو الأنبياء، والذي نعرف مما أنزل إليه الصحف، كما ذكر الله ذلك في موضعين من القرآن في سورة النجم، وسورة الأعلى، فقال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَأَ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَى}[النجم:36-37] وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}[الأعلى:18-19].
{وَإِسْمَاعِيلَ} وإسماعيل، لم يصل إلينا كتابه الذي نزل إليه، ولم نعرف إلا أنه أنزل إليه، ولكن مع هذا يجب علينا أن نؤمن بما أنزل على إسماعيل.
وإسماعيل هو الولد الأول لإبراهيم، وهو أبو العرب، وهو الذي صبر ذلك الصبر العظيم حين قال له أبوه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢]، فقال هذا الابن الحليم: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:١٠٢].
ولله دره من ابن لم يبلغ، ولكنه بلغ مع أبيه السعي، وهو أشد ما تكون النفس تعلقًا به؛ لأن الكبير من الأولاد قد زلت النفس عنه، والصغير لم تتعلق به بعد ذلك التعلق. ومع ذلك فإن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام نفذ ما أمره الله به، قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات:١٠٤-105].
لكن أرحم الراحمين سبحانه وتعالى نسخ هذا الأمر حين أسلما وتله للجبين.. أسلما: يعني استسلما وانقادا لأمر الله، وتله للجبين: كابًا له على الأرض، لئلا يرى وجهه حين يذبحه، فلما قارب أن يذبحه جاء الفرج من الله عزّ وجل. وهكذا يكون الفرج، كلما اشتدت الكرب، فانتظر الفرج. كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" [أحمد] ولن يغلب عسر يسرين، كما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح:5-6].
والحاصل أن إسماعيل هو الولد الأكبر لإبراهيم، وهو الذبيح بلا شك؛ لأن الله لما ذكر قصة الذبح في سورة الصافات قال بعد هذا: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:١١٢].
{وَإِسْحَاقَ} ذكر بعده للترتيب الزمني، والظاهر -والله أعلم- أنه للترتيب المنزلي أيضًا؛ لأن إسماعيل أفضل من إسحاق؛ فإسماعيل أب لأشرف الخلق محمد، وإن كان إسحاق أبًا لأكثر الأنبياء.. فالأنبياء من ولد إسحاق أكثر من الأنبياء من ولد إسماعيل، لكن العبرة بالأفضلية. محمد أشرف الخلق من ذرية إسماعيل فالظاهر -والعلم عند الله- أنه أخره ذكرًا؛ لأن إسماعيل أفضل منه وأسبق.
أفضل منه قدرًا، وأسبق زمنًا.. ومع ذلك فكل منهم في المرتبة الأولى من مراتب الخلق، {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] أسأل الله أن يجعلنا من رفقائهم.
{وَيَعْقُوبَ} ابن إسحاق وهو الملقب بإسرائيل، والذي ينسب إليه بنو إسرائيل. وأخره عن الاثنين؛ لأنه متأخر عنهما زمنًا.
{وَالْأَسْبَاطِ} والأسباطُ جمع سِبْط وهو الحفيد والمرادُ بهم حفَدَةُ يعقوبَ عليه السلام وأبناؤه الاثنا عشرَ وذراريهم فإنهم حفدةُ إبراهيمَ عليه السلام.
يقول العثيمين: وَالْأَسْبَاطِ: جمع سبط. وأصل السبط في اللغة ابن البنت، ولهذا يقال في الحسن والحسين رضي الله عنهما سبطا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وابن الابن يسمى حفيدًا، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:۷۲] أي أبناء الابن.
وفي المراد بهم قولان:
القول الأول: أن المراد بالأسباط أولاد يعقوب وأنهم أنبياء.
القول الثاني: أن المراد بهم شعوب بني إسرائيل الذين فيهم الأنبياء، وعلى هذا فيكون في الآية على هذا المعنى، تقدير: أي وما أنزل على أنبياء الأسباط.
ويؤيد القول الأول أنه لا يحتاج إلى تقدير؛ لأن الثاني يحتاج إلى تقدير، وتقديره أنبياء الأسباط. وإذا دار الكلام بين أن يكون ذا تقدير أو خاليًا منه حمل على الخالي منه لأنه الأصل، والأصل عدم التقدير.
لكن يضعفه أن الأسباط هم أبناء البنات وهنا لا يتناسب مع الآية؛ لأن أولاد يعقوب أحفاد لإسحاق أو أحفاد لإبراهيم وليسوا أسباطًا، والقرآن نزل باللغة العربية فيجب أن تحمل الكلمة في القرآن على المعنى اللغوي ما لم تكن حقيقة شرعية تمنع من حمله على المعنى اللغوي، فإذا وجد حقيقة شرعية تمنع من حمله على المعنى اللغوي اتبعنا الحقيقة الشرعية، كالصلاة –مثلًا- في اللغة: الدعاء، وفي الشرع هي: التعبدالله تعالى بذات الأقوال والأفعال المعلومة المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم.
يضعفه كذلك أنه لم يقم دليل على نبوة أولاد يعقوب إلا يوسف، ويوسف من الأنبياء لا شك، أما أولاده الآخرون الأحد عشر فإنه لم يقم دليل على كل واحد منهم بخصوصه أنه نبي، والنبوة وصف عظيم يحتاج إلى بينة ودليل وبرهان تدل على أن هذا الشخص متصف بها.
ثم يضعفه أمر ثالث وهو فعل أبناء يعقوب بأخيهم يوسف، وما حصل منهم من الكذب حيث جاءوا على قميصه بدم كذب، وقالوا: {قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:۱۷]، ثم اتهامهم لأبيه: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:١٧]، المهم أن هناك قرائن تدل على ضعف أن يكون المراد بالأسباط أولاد يعقوب، ويخرج منهم يوسف بدلالة الكتاب والسنة على أنه نبي.
إذن يترجح القول الثاني أن المراد بالأسباط الشعوب، يعني وما أنزل على الأسباط بواسطة أنبيائهم؛ لأن المنزل على أنبيائهم منزل عليهم، كما قال تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:٤٦].
وإنما قدم المُنْزلُ على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما أنزِل على سائر الرسل عليهم السلام مع تقدّمه عليه نزولًا لأنه المعروفُ له والعيار عليه.
{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} من التوراة والإنجيلِ وسائرِ المعجزاتِ الظاهرةِ بأيديهما.. فالعدول عن التعبير بالإنزال إلى الإيتاء لأن ما أوتيه موسى وعيسى نوعان: وحي، وآيات كونية محسوسة بقي ذكرها إلى نزول القرآن الكريم، وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلامَ مع اليهود والنصارى.
{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى}: وحي وآيات، أما الوحي فالتوراة التي هي أفضل كتاب بعد القرآن، وأشمل كتاب وأعم كتاب وأهدى كتاب بعد القرآن: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} [القصص:٤٩] فقرنها الله مع القرآن.
هذه التوراة نزلت على موسى، وهذا إيتاء الوحي، وأما إيتاء الآيات، فمن أعظم ما حصل له العصا واليد، وقد حصل في العصا ثلاث آيات عظيمة: ألقاها على سحرة آل فرعون فالتهم جميع حبالهم وعصيهم، فالتهمها التهامًا، وهي ثعبان والحبال والعصي قد ملأت الأرض، ومع ذلك هذا الثعبان يأكلها، ولا يدرى أين تذهب؛ لأنها أكبر منه حجمًا، ولكن مع ذلك - قدرة الله فوق كل شيء - ولم يتماسك السحرة لما رأوا هذه الآية العظيمة، حتى خروا ساجدين {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:١٢٠] انظر كلمة {أُلْقِيَ} كأنهم جاءوا وسجدوا من غير عقل، لقوة ما ورد على قلوبهم من الآيات التي يعرفون أنها ليست سحرًا.
والآية الثانية في العصا: أنه ضرب بها البحر فانفلق، فصار اثني عشر طريقًا، بين كل طريق وآخر كُتل من الماء كأنها جبال، كل جبل كالطود العظيم. وقد ذكر بعض العلم أن الله جعل في هذا الماء فُرجًا من أجل أن يطمئن الناس بعضهم إلى بعض، يُشاهد بعضهم بعضًا من هذه الفرج.. هذا الماء الذائب المائع كأنه مسلح، وبلحظة {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه:77].
لو اجتمعت نيران الدنيا كلها لتيبس أرض البحر في هذه اللحظة ما تمكنت، أو رياح الأرض كلها، أو المخترعات، ما تمكنت، ولكن قدرة من يقول للشيء كن فيكون، جعلت هذا أمرًا ممكنًا واقعًا.
الثالث من الآيات العظيمة للعصا: أنهم إذ استسقوا، يعني حصل عليهم نقص في الماء، ضرب موسى الحجر بهذه العصا فتفجر اثنتا عشرة عينًا، كل عين لسبط من أسباط بني إسرائيل حتى لا يقع النزاع بينهم والمزاحمة والمشاقة.. هذه من الآيات التي أوتيها موسى.
أما عيسى فأوتي أيضًا وحيًا، وآيات الوحي: الإنجيل الذي كان متممًا للتوراة مبنيًا عليها. وآيات حسية منها: أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرًا يطير، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى، ويُخرجهم من القبور، بإذن الله.
{وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} أي وما أوتي النبيون من المذكورين وغيرِهم.
{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} كدأبِ اليهودِ والنصارى آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، بل نؤمن بصِحةِ نبوةِ كلَ منهم، وبأحقّية ما أُنزل إليهم في زمانهم، وأننا لا نعادي الأنبياء، ولا يحملنا حب نبينا على كراهتهم، وهذا تعريض باليهود والنصارى.
وهذه الآية شعار الإسلام، وقد قال الله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] أي بالكتب كلها، ولكنهم لا يؤمنون بكتابكم.
ويُذكر أن شخصًا حاج عالمًا من علماء المسلمين، فقال له: لماذا تجيزون لأنفسكم أن تتزوجوا ببناتنا، ولا تجيزون لنا أن نتزوج ببناتكم؟، فقال له العالم: لأننا نؤمن برسولكم ولا تؤمنون برسولنا، فألقمه حجرًا.
فكل هؤلاء الرسل نؤمن بهم على سبيل السواء، بدون تفريق، والإيمان بهؤلاء إيمان مجمل، ولكن كل ما صح عنهم أنهم أخبروا به وجب علينا الإيمان به، ولو تفصيلًا.. هذا في الأخبار، لكن في الأحكام لا نتبع إلا ما حكمت به شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو الذي كلفنا به، ووجب علينا اتباعه، كما قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
فالاتباع لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما الإيمان فهو عام لجميع الرسل بدون تفريق، فإذا صح عن موسى مثلا أنه أخبر بخبر يتعلق بالله، أو بخبر يتعلق بيوم القيامة، أو بالجنة، أو بالنار، وجب علينا أن نؤمن به إذا صح. أما ما يُروى من الإسرائيليات فقد يكون صحيحًا وقد لا يكون.
واعلم أن شريعتنا في الأحكام بالنسبة لمن سبق على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما وردت شريعتنا بخلافه فهذا لا نعمل به؛ لأن شريعتنا ناسخة لجميع الأديان، مثال ذلك: القصاص في النفس والأطراف كان في التوراة واجبًا مفروضًا، ولا عفو، لكن في الشريعة الإسلامية كان مخيرًا فيه، فتتبع القرآن.
القسم الثاني: ما ورد شرعنا بوفاقه فإننا نعمل به اتباعًا لشريعتنا المصدقة لما سبق من الشرائع، ولا نخالفه، وهذا كثير مثل الطيبات، أحل الله الطيبات لنا ولغيرنا، لكن حَرَّم على بني إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم.
القسم الثالث: ما لم يرد في شرعنا له وفاق ولا خلاف. هذا محل نزاع بين أهل العلم، وبحثه موجود في أصول الفقه، فمن العلماء من قال: إنه شرع لنا، ومنهم من قال: إنه ليس بشرع، والصحيح أنه شرع لنا، لدلالة شرعنا عليه.
قال الله تعالى: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:٩٠].
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:١٣].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:۱۱۱].
وكذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحيانًا كان يسند الحكم إلى أنه فعله أخي فلان من الأنبياء، وما أشبه ذلك، والمعنى يقتضي ذلك أيضًا، لأنه لولا أن لنا فائدة من قصص الأنبياء السابقين - ومن الفوائد أن نعتبر ونعمل بما عملوا - لم يكن لذكر.
هذه القصص شيء من الفائدة كثير.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي منقادون أو مخلصون أنفسَنا له تعالى لا نجعلُ له شريكًا فيها، وفيه تعريضٌ بإيمان أهلِ الكتاب فإنهم بمعزل من ذلك.
وقدم المتعلّق على المتعلق لإفادة الحصر، يعني ونحن له لا لغيره مسلمون.
فالمؤمن إذا تعارض عنده أمر الله وأمر الخلق قدم أمر الله مهما كان الأمر، حتى أبوك وأمك، لو أمراك بخلاف أمر الله فقدم أمر الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: *لا تجب طاعة الوالدين في ترك أمر ينفعك ولا يضرهما*.. هذا كلام جيد يُكتب بماء الذهب، فكل شيء ينفعك ولا يضُرُّ والديك فإنه لا تجب طاعتهما فيه. كما لو طلبت العلم. ولا يرد على هذا مسألة الجهاد -أن بر الوالدين أفضل من الجهاد- لأن الجهاد فيه تعريض للنفس بالقتل، والقتل يقلق راحة الوالدين.
{وَمَنْ} شرطية {يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ} غير شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالمراد بالإسلام هنا: الإسلام الخاص وهو الذي جاء به النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان الإسلام في الأصل يُطلق على: الاستسلام لله في كل زمان ومكان، كما ذكر عن الأنبياء السابقين أنهم يُطلقون الإسلام على الدين: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:٤٤]، والآيات في هذا كثيرة، أن الرسل وأتباعهم مسلمون، ولكن هذا هو الإسلام العام، أما بعد بعثة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما يُسمى إسلامًا فهو ما جاء به الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط.
{دِينًا} أي عملًا يدين به الله، ويرجو أن يدان به بالثواب من عند الله؛ لأن الدين يُطلق على العمل والجزاء. ففي قوله تعالى: {لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون] المراد به العمل، وفي قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:۱۷- ۱۸] المراد به الجزاء، وفي قوله هنا: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} المراد به العمل.
لكن الدين لا يكون إلا في عمل يرجو الإنسان ثوابه، أي يرجو أن يُدان به، ولهذا يُقال: *كما تدين تدان*.{فَلَنْ يُقْبَلَ} ذلك {مِنْهُ} أبدًا بل يُردّ أشدَّ ردَ وأقبحَه.
لم يقل: (فلن يقبل الله منه)، ليعم الرفض والرد من الله عز وجل، ومن الرسول، ومن المسلمين، ولهذا لا يجوز للمسلمين أن يُقِرُّوا أحدًا على دين خلاف شريعة الرسول، والمراد بالقبول هنا قبول الصحة، ودليل ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"، أي: مردود.
فمن دان بغير الإسلام، سواء في الأصل أو في الفرع، فإن دينه هذا مرفوض، ومردود ولن يُقبل منه، ولا يُعطى ثوابًا في الآخرة على عمله.. ولهذا قال: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. والمعنى أن المعرض عن الإسلامَ والطالبُ لغيره فاقدٌ للنفع واقعٌ في الخسران بإبطال الفطرةِ السليمةِ التي فُطر الناسُ عليها، وفي ترتيب الرد والخُسران على مجرد الطلبِ دَلالةٌ على أن حالَ من تديّن بغير الإسلام واطمأنّ بذلك أفظعُ وأقبحُ.
واستُدل به على أن الإيمانَ هو الإسلامُ إذْ لو كان غيرَه لم يقبل، والجوابُ أنه ينفي قَبولَ كلِّ دينٍ يُغايرُه لا قبولَ كل ما يغايرُه.
وهذه والله هي الخسارة العظيمة، أن يعيش الإنسان في الدنيا ما شاء الله أن يعيش ثم لا يكتسب ما ينفعه في الآخرة، فإذا قدم إلى ربه لم يجد شيئًا كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد