بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
معاشر المؤمنين الكرام: أعزَّ ما على المسلم سلامةُ دينِه من كل ما يُفسده، إذ لا فوزَ ولا نجاةَ إلا به، ولا يتحققُ له ذلك إلا بدقة المتابعةِ لمنهج النبيّ ﷺ، قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}.
وإنّ من أعظم ما يحققُ دِقةَ المتابعةِ أن يتفقه المسلمُ في دينه، خصوصًا ما يتعلقُ بالبدع والمحدثات. فالبدعُ هي التي فرقت المسلمين شيعًا واحزابًا، وهي التي ابعدتهم عن المنهج الصحيح. في الحديث الصحيح: قال ﷺ: "عليكم بسنتِي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ من بعدِي، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ"، وفي رواية صحيحة: "وكل ضلالةٍ في النار".
البدعة خلاف السنة، البدعة: هي كل ما أُحدثَ في الدين، بقصد التعبدِ لله عزّ وجلّ وليس له أصلٌ يدلُ عليه.
البدعةُ: طريقةٌ في الدين مخترعة، يُقصدُ بها التقرب إلى لله.
ومعلومٌ أن العبادة لا تقبلُ إلا بشرطين: الإخلاصُ والمتابعة. فالإخلاصُ أن يريد العاملُ بعمله وجهَ اللهِ وحدهُ، والمتابعةُ تعني موافقةَ الشرع. وكما أنّ كلّ عملٍ لا يُرادُ به وجُهُ اللهِ تعالى فليس لعامله ثوابٌ عليه، فكذلك كلُّ عملٍ لا يوافقُ ما شرعهُ اللهُ ورسولهُ فهو بدعةٌ مردودٌ.
ومن القواعد المقرَّرةِ شرعًا: أنّ الأصلَ في العباداتِ المنعُ والتوقفُ حتى يأتي الدليل بالسماح، بينما الأصلُ في المعاملات والعاداتِ والوسائلِ السماحُ والإباحةُ إلا أن يأتي دليلٌ بالمنع والتوقف، ومعنى ذلك أنه لا يصِحُ لعبدٍ أن يتعبدَ بأيِّ عبادةٍ إلا ولديه دليلٌ شرعيٌ صحيحٌ يسمحُ له بذلك، وإلا فعملُه بدعةٌ مردودة، قال ﷺ: "من عمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وفي روايةٍ: "من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، والحديث متفقٌ عليه.
ولا شكَّ أن كُلَّ العباداتِ التي يَقومُ بها المسلمُ قد قرَّرها الشرعُ الحكِيمُ بتفاصِيلها، "صلوا كما رأيتموني أصلي"، "خُذوا عني مناسِككم"، وهكذا سائرُ أبوابِ العبادات.
ففي الحديث الصحيحٍ، قال ﷺ: "ما تركت شيئًا يقربُكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئًا يُبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه".
ولمزيدٍ من البيان: فهناك ستةُ أمورٍ شرعية، لا بدّ أن تتوفرَ في أيَّ عبادةٍ لكي تكونَ عبادةً صحيحةً مقبولةً:
الأمر الأول: أنّ يكونَ سببُ العبادة شرعيًا، مثلًا: لو أنّ إنسانًا قام ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عُرج فيها بالرسول ﷺ، فصلاته بهذا السببِ بدعة؛ لأنه ليس سببًا شرعًا. مثال آخر: لو أنّ إنسانًا كلّما لاحَ البرق أو نزلَ المطرُ صلى ركعتين، فصلاته بهذا السببِ بدعة.
الأمر الثاني: أن يكون جنس العبادة شرعيًا، مثلًا: لو أنّ إنسانًا ضحي بفرسٍ أو بحوت. اللحم حلال لكن الاضحية لا تصح؛ لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام، وهي الإبل، البقر، الغنم. لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}.
الأمر الثالث: أن تكون كيفيّة العبادةِ وهيئتها شرعيةً، مثلًا: لو أنَّ إنسانًا توضأ فبدأ بغسل قدميه، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم وجهه فنقول: أنّ وضوءهُ باطل؛ لأنه مخالفٌ للشرع في الكيفية. مثالٌ آخر: من يزعم أنّ الاسم الفلاني من أسماء الله الحسنى إذا ذكر بالكيفية الفلانية فإنه يعطي النتيجة الفلانية. فالذّكرُ بهذه الصورةِ بدعةٌ مردودة، لأنه مخالف للشرع في الكيفية.
وهكذا إذا كان الذكر جماعيًا أو كان معه تمايلٌ أو ضربٌ بالدف فكلُّ ذلك بدعٍ مردودة، لنفس السبب.
الأمر الرابع: أن يكون تحديدُ مقدارِ العبادة شرعيًا، مثلًا: من قرأ سورة الإخلاص مئة مرة أو ألف مرةٍ فله الأجرُ الفلاني. فالعبادةُ بهذه الصورةِ بدعةٌ مردودة. لأنّ التحديد لا بد أن يكون شرعيًا. الأمر الخامس: أن يكون زمان العبادة شرعيًا، مثلًا: لو أنّ إنسانًا ذبح اضحيتهُ في أول يوم من ذي الحجة، فقد خالف الشرع في الزمان، وصارت عبادتهُ بدعةً مردودة.
مثالُ آخر: إنسانٌ يقفُ في عرفة تعبدًا في غير اليوم التاسعِ من ذي الحجة. فهذه العبادةُ بدعةٌ لمخالفتها الزمان الشرعي.
الأمرُ السادس: أن يكون مكان العبادة شرعيًا، مثلًا إنسان يعتكف تعبدًا في بيته، فعبادته بهذه الصورة بدعةٌ مردودة. لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد. لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
والخلاصةُ أنّ العبادةَ لا تكونُ مقبولةً حتى توافقَ الشرعَ في ستةِ أمور: في السبب، وفي جنس العمل، وفي كيفيته، وفي مقداره، وفي زمانه، وفي مكانه.
فالصلوات الخمس مثلًا: سببها كما قال تعالى: {واقيموا الصلاة}، وجنسها: أقوالٍ وأفعالٍ مخصوصةٍ، وكيفيتها: كما في الحديث الصحيح: "صلوا كما رأيتموني أصلى"، ومقدارها كما جاء في الحديث الصحيح: "خمس صلوات في اليوم الليلة".
وجاء في أحاديث أخرى مقدارُ كلِّ صلاةٍ منها، وهكذا زمانها، ففي الحديث الصحيح: "وَقْتُ الظُّهْرِ إذا زالَتِ الشَّمْسُ وكانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، ما لَمْ يَحْضُرِ العَصْرُ، ووَقْتُ العَصْرِ ما لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، ووَقْتُ صَلاةِ المَغْرِبِ ما لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، ووَقْتُ صَلاةِ العِشاءِ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ الأوْسَطِ".
وكذلك مكانها: ففي الحديث الصحيح: "جعلت لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا، فحيثما أدركتك الصلاةُ فصلِّ". فإن قال قائل: هل كلُّ البدعِ مذمومةٌ مردودة؟ فالجواب: نعم، كل البدعِ مذمومة، لقوله ﷺ "كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة"، قال ابن رجب الحنبلي: هذا من جوامع الكلم، فلا يخرجُ عنه شيء، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدين، وهو شبيه بقوله ﷺ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، فكل من أحدث شيئًا ليس له أصلٌ في الدين فهو بدعةٌ وضلالة، والدين منه بريء.
هذا ما يتعلق بالعبادات، أمَّا المعاملات والعادات والوسائِل العامة، فكُلها جائزةٌ شرعًا إلا ما نصَّ الدليلُ الشرعي على منعه.
الأطعمةُ مثلًا من العادات. فالأصلُ فيها الحِلُّ والسّماحُ إلا ما جاءَ الدليلُ بمنعه كالخمر والخنزيرِ ونحوها مما نُصَّ على تحريمه.
اللباسُ أيضًا الأصلُ فيه الإباحةُ إلا ما جاءَ الدليلُ بمنعهِ كالذهبِ والحريرِ للرجالِ والتشبهُ بالجنسِ الآخرِ وما هو خاصٌ بالكفار.
وهكذا الوسائل، كوسائل الاتصال والنقل وغيرها، فالأصلُ فيها الحِلُّ والإباحة إلا ما نص الدليل على منعه وتحريمه أو أن يُفضي استعمالهُ إلى محرم.
وهكذا نقيسُ على كلّ ِ ما هو ليس بعبادة.
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}.
الخطبة الثانية:
اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب}.
معاشر المؤمنين الكرام: لقد أكملَ اللهُ للأمةِ دينها ورضيهُ لها وأتمَّ به نعمتهُ على عباده، {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِينًا}، وحدد الشارع الحكيم لكل العبادات طُرقًا خاصةً. وقيدها جنسًا وسببًا، كيفيةً ومقدارًا، زمانًا ومكانًا، وأخبر أنّ الخيرَ فيها والشّر في تجاوزها وتعديها. فقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ}.
وحين يقولُ ﷺ: "فإنه من يعش مُنكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كلّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة". فهو ﷺ لا ينطقُ عن الهوى، فقد وقعَ اختلافٌ كثيرٌ. وحين نبحثُ عن السبب وراءَ ذلك، نجدُ أنه الجهلُ وعدمُ التفقهِ في الدين، بالإضافة إلى اتباع الهوى وأئمةِ الضلال، ففي الحديث الصحيح: "إنَّ أخوفَ ما أخافُ على أمَّتي الأئمةُ المضلُّونَ". والحلُّ: "عليْكُم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشدينَ المَهديِّينَ مِن بعْدي، تَمسَّكوا بِها، وعَضُّوا عليْها بالنَّواجذِ".
ولا شك أنّ مكانة النبي ﷺ عند المسلمين معلومة، فا {النَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، ولن يذوقَ المسلمُ حلاوةَ الإيمان حتى يكون حبُّ الرسول ﷺ عنده فوقَ كلّ حبيب، بل يترقّى ذلك إلى حدّ نفيِ الإيمان كما في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". لكن السؤال المطروح هو كيف نعبرُ عن هذا الحبِّ التعبير الصحيح. بعبارة صريحة. ما هو الدليل العملي على صدق محبتنا، فالله تعالى يقول: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم}، كيف نكون صادقين في محبتنا للرسول ﷺ بينما حياتنا في أغلب مظاهرها مخالِفةٌ لهديه ﷺ وسنته، بعيدةٌ عن منهجهِ وطريقته.
هل يكفي أن نقول بألسنتنا نحن معه ونحبه. فإذا تأملت واقعنا في بيوتنا، وفي أسواقنا، في تجمعاتنا، في شكلنا وهيئتنا، وفي فكرنا وفي ثقافتنا، وفي تجارتنا ومصالحنا، وفي علاقاتنا وسلوكياتنا. رأيت أننا نخالفهُ في كثيٍر من تصرفاتنا وشؤون حياتنا. ولا نلتزم بمبادئه وآدابه الرفيعة، ولا نطبقُ الكثير من هديه وسنته. بل ولا نحرصُ على تعلُّم هديهِ وسنته، فأين الدليل العملي على صدق محبتنا له ﷺ؟
ومن جهة أخرى: فكم من المسلمين اليوم يسمعُ كلامَ اللهِ وكلامَ رسوله ﷺ. يعيهِ ويفهمهُ جيدًا. حتى إذا خرجَ من المسجد. فكأنهُ لم يسمع ولم يفهم شيئًا. كم من سُنةٍ من سنن المصطفى ﷺ نعلمها ونفقهها تمامًا، ولكننا لا نطبقها ولا نعمل بها، ولا ننشرها ولا نُعلِمُها حتى لأقرب الناس لنا. وإذا فتشت عن واقع الحال، وجدت أننا مشغولون بمحبوبين آخرين، نطارد أخبارهم، ونتتبع آثارهم، ونُعجبُ بأفعالهم، ونقلِدَهم في كثيرٍ من تصرفاتهم.
يا مدعِ حبَّ طهَ لا تخالفهُ *** الخلفُ يحرمُ في دنيا المحبين
لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحبَّ لمن يحبُّ مُطيعُ
إنّ على الأمّة واجبٌ كبير نحو نبيها العظيم. يتمثلُ في طاعته واتباعِ هديه، فقد أرسلهُ الله تعالى ليطاع فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ا
للّهِ}، بل إنّ الله حصر الهداية في طاعته فقال: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وجعل الفتنةَ والعذابَ في مخالفة أمره فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله وتفقهوا في دينكم، فهو أغلى ما عندكم، واحذَروا البدع وأئمةَ الضلال، ففي الحديث الصحيح، قال ﷺ: "إنَّ الله حجب التَّوبةَ عن كلِّ صاحبِ بدعةٍ حتَّى يدعَ بدعتَه".
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد