بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عن فتنة الموت وفائض الألم:
النّاسُ في السكينة: سواء.
فإذا جاءَت المِحَن: تباينوا.
يعرف علماء النفس جيدًا إحدى الظواهر النفسية التي تحصل لروّاد الفضاء حين يخرجون من قبّة السماء وبعد أن يصيروا على بُعد مسافة كبيرة من كوكب الأرض، وحين يلقون نظرة إلى كوكبهم، يجتاحهم شعور وجداني عارم حين ينظرون إلى الأرض فيجدونها عبارة عن كرة زرقاء صغيرة مُعلّقة في منتصف الفضاء، بلا أي حماية، ضئيلة مقارنة بالاتّساع الكوني الّلامتناهي للفضاء.
تُسمّى هذه الظاهرة بتأثير النظرة العامّة Overview Effect وهي مشاعر وجدانية كثيفة تجتاح مَن يخرج إلى الفضاء تؤدّي إلى إحداث انزياح في النظام الإدراكي لرائدي الفضاء، يجعلهم يرون الحياة البشرية بكامل أحداثها، خلافاتنا العائلية، انزعاجنا من أحد الجيران، معاناتنا النفسية، مخاوفنا المصيرية، صراعاتنا الدولية، كلّها تبدو تافهة من مكانٍ بعيد.
وبحسب دراسات في حقل علم النفس الديني، يؤدّي هذا الانزياح الإدراكي في أذهان روّاد الفضاء إلى اتّجاهين اثنين في معتقداتهم، عند عودتهم إلى الأرض ومواصلة حياتهم اليومية من جديد:
في الاتجاه الأول، يصبح بعض الأشخاص أكثر إلحادًا وأكثر شعورًا بعبثية هذا الكون، فكُلّ مشكلاتنا وآلامنا من على مسافة بعيدة تبدو وكأنّها لا معنى لها! كلّ الدماء المنسالة في حضرة الظلام الدامس للفضاء تفقد احمرارها، ويَسوءك أن تدرك أنّ صرخاتنا وعويلنا ونواح الثكالى لا تصل لأحد، بل هي أصوات تبدو عبثية في ظلّ الصمت المُطبق الذي يُهيمن على الفضاء.
في المقابل ثمّة اتّجاه آخر أكثر شيوعًا، يصير فيه روّاد الفضاء أكثر إيمانًا بالله وأكثر تديّنًا بعد عودتهم إلى الأرض، لأنّهم يُدركون أنّ الأرض من بعيد بمنطق مادي وفيزيائي صرف، عبارة عن مكان هش كان ينبغي -إحصائيًا- أن يتحطّم منذ زمنٍ بعيد، إنّ الأرض بالمنطق العلمي مجرّد جُرُم مُعلّق في مجرّة يُحيق بها الخطر من كل مكان، انفجارات كونية، وثقوب سوداء، وشُهُب ونيازك ضخمة تحفّ الكواكب حفًّا، وأنّ كل شيء قابل للانهيار في لحظة.. لكن وحدها قوى إلهية فوقية، ورعاية ربّانية تحفظ هذا الكون، وتصرّف أرزاق الناس ومصائرها، وترحم ضعفهم وتهتمّ لأمرهم وتسمع نجواهم.. فيأتيهم هذا الوعي العميق {إنّ الله يُمسكُ السماوات والأرض أن تزولا}.
في كلتا الحالتين ينتقل الفرد من شعوره بتفاهة العالَم وضعفنا كبشر وضآلتنا أمام الاتّساع الكوني، إلى موقف إيماني أو إلحادي تجاه الوجود. والفرق بين أن تصير إلى هذا الاتجاه أو ذاك، هو العتبة الإيمانية التي تقف عليها، ومقدار ما استثمرت سابقًا في سلوكك من لزوم الذكر واستحضار الحقائق الأولية للإيمان.
أقول هذا ونحن نشهد عشرات الآلاف من الشهداء والضحايا الذي يرتقون نتيجة الحرب، وما تورثه الحرب من شعور عارم بتفاهة الوجود، وسهولة الموت، وسواد العالم. حيث يتباين النّاس في ردود أفعالهم بين استحضار الإيمان أو الغرق في فخّ التشاؤم والعبثية.
من المفارقات الثقافية، أنّ الألمان يملكون في معجمهم كلمة واحدة تحمل في طيّاتها التعقيد الشعوري لوصف حالة الوعي التي تصيب الإنسان عند معايشته لفائض من المعاناة والشرّ والألم الذي لا ينتهي في هذا العالم، وهي كلمة تعني "بؤس العالم" Weltschmerz..
ثمّة كرامة عجيبة لا يتنبّه لها الناس، في المقاطع المرئية التي تظهر أهالي الشهداء وأولئك الذين يرزحون تحت هول القصف ورعبه، وهُم يذكرون الله ويكبّرون ويهلّلون. لعلّك تظنّها استجابة سهلة أو عادية، لكنها ضمن منطق سيكولوجي لاستجابة عصبية لا-إرادية للخوف والنجاة، ليست تمامًا كذلك! بل هي إحدى الاستجابات الممكنة، أمام استجابات ساخطة عديدة واردة ضمن شعور البشر بتفاهة الحياة.
ففي المِحَن والمواقف الكونية المتشابهة، المثيرة للشكوك والخوف واليأس، يلفتنا القرآن الكريم لمفارقة مهمّة:
ثمّة أشخاص: {استحوذ عليهم الشيطان.. فأنساهم ذكر الله}.
وثمّة أشخاص: {وهُدُوا إلى الطّيب من القول.. وهُدوا إلى صراط الحميد}.
فالمعركة الحقيقة: أن تكون ممّن يُهدَون إلى الطّيب من القول عند وقوع الابتلاء وعموم الموت وامتداد الحرب.
من العجيب أنّ الدعاء المأثور عن النبي ﷺ في صلاة الميّت (ولا تفتنّا/تضلّنا بعده).
هذا مَلمح ذكي وفارق، فصلاة الميت تتضمّن دعاءً يخصّ الأحياء، وكأنّه تأكيد على خطر الفتنة والضلال، الذي لا يزال يُحيق بمن تبقّى على قيد الحياة.
إنّ الموت فتنة للأحياء، أما الموتى فقد نَجوا إن صدق إيمانهم!
قال المفكّرون: وَحدَه الميّت.. مَن رأى نهاية الحرب!
لذلك انظر أيُّكما أصيب بالفتنة، أنت.. أم ذاك الذي مات؟
لقد قال الشهداء كلمتهم.. ونحن الصُمّ المخاطبون، واختيارك السوداوية أو الردّة أو الانقلاب على الأعقاب والانسحاب من المشهد خيار جبان، فيه ما فيه من خيانة لدماء الشهداء، وخذلان لأرواح الأطفال الذين سقطوا ظلمًا وعدوانًا.
وقد قال المنتقم الجبّار:
{ومَن ينقلب على عقبيه}
{فلن يضرّ الله شيئًا}
{وسيجزي الله الشاكرين}
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد