بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ما الذي يعنيه أن تحظى البشرية برَجُلٍ شهم كمحمّد ﷺ؟
إنّ أفضل طريقة كي تفهم ماذا قدّم الرسول ﷺ للعالم، هي أن تقرأ التاريخ وأن تدرس ماذا كان يحصل في العالَم قبل وخلال البعثة النبوية.
خُذ على سبيل المثال مقطعًا عرضيًا من التاريخ، وانظر ماذا فعلت الشعوب الجرمانية Vikings بالدّول الأوروبية ومناطق العالم المجاورة لهم. كانت الطبيعة الوحشية للوثنية مرعبة وكانت تستأصل أي إمكان حقيقي لإنشاء علاقة إنسانية مع الآخر، كانت المسيحية الأوروبية مُهدّدة ومذعورة من شدّة الغدر والمفاجأة ونقض العهود والغزوات البربرية التي أنهكت جسد الممالك المسيحية ودُوَل مجاورة عديدة طالها الأذى.
كان سؤال خيرية البشر في عدّة مراحل تاريخية، سؤال حرج للعالَم في ظلّ دمار كوني عارم وانتهاكات أخلاقية بالجُملة وفي مراحل تاريخية مُظلمة كانت البشرية مُتشكّكة حيال إمكاناتها الأخلاقية بالأساس:
هل أفلسنا أخلاقيًا؟
هل حقًّا هنالك بشر آخرون جديرون بالثقة؟
قدّم المسلمون هدّية مجّانية للعالَم، حين أعادوا للعالَم بأكمله إمكانية الثقة بالآخر المُخالف، كان المسلمون شديدو الحساسية الأخلاقية، كان ﷺ شديد الحرص على أخلاقيات المسلمين حتّى في ظلّ الخصومة، فالمسلمون لا يغدرون ولا يخونون ولا ينبغي لهم، وقد كان الرسول يُوصي الجيوش حين يُرسلها بأن: لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع!
من فترة كنت أقول لأحد الأصدقاء، أنّك إذا أردت أنّ تعرف أنّ القرآن مُنزَل إلهي خارج عن حدود البشر؟ فانظر لهذه الآية العظيمة:
{وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يُحبّ الخائنين}
هذه الآية مُدهشة حدّ الإعجاز. هل يُمكِن؟ هل هذا معقول؟ هل هناك فلسفة حربية واحدة في العالَم تُخبرك بمثل هذا؟ هل تعي هذا المستوى العالي من الأخلاق؟ بأنّك حين تخاف من عدوّك الذي بينك وبينك ميثاق وتخشى أن يغدر بك، فإنّه يجب عليك أن تُبلغه بفسخك للعهد، لا أن تغدر به فجأة ولا أن تُسارع بالانقضاض عليه قبل أن ينقضّ هو عليك؟ هذه مفارقة عجيبة، خاصّة وأنّ أي منطق استخباراتي بشري، يقول بداهةً أنّ إبلاغ مصدر التهديد بفسخ العهد يعني تحذيرهم بالأساس!
هذا قانون إلهي عالي، يتسامى حتّى على مصالح المسلمين أنفسهم! أي فلسفة أخلاقية تُجبرك على الإفصاح بدل الاستباق؟ أي فلسفة تجبرك على أن تكون أنتَ وعدوّك سواء في العِلم؟ أي فلسفة تجعل من محاولتك غير الأخلاقية لإنقاذ نفسك، عطبًا أخلاقيًا ومعصية يُبغضها الإله؟ ولماذا كلّ هذا؟ ببساطة.. لأنّ الله لا يُحبّ الخائنين! إنّه يكره الخيانة ويكره الغدر، ولا يُريد للأمّة ولا المسلمين أن ينحطّوا لهذا المستوى ولا بأيّ حال من الأحوال!
ما الذي يعنيه أن نحظى نحنُ كأمّة برسولٍ كريم كأبي القاسم عليه السلام؟
خلال رمضان الفائت تعلّمت أسلوبًا قرآنيًا بديعًا، جعلني أنظر للأمور بطريقة مختلفة.
يستخدم القرآن في مواضع عدّة، أسلوب التفكير بالبدائل الأخرى الممكنة للوجود، لتذكيرك بأنّ ما يحصل لكَ الآن، ليس استحقاقًا استحققته، ولا المسار الوحيد الممكن للأحداث، وإنّما هو لُطف الله وتدبيره. وثمّة نماذج عديدة في القرآن لهذا التمرين الذهني البديع، منها:
{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا.. فمن يأتيكم بماء معين}؟
بنفس هذا المنطق، يمكننا أن نتخيّل المنّة الإلهية للبعثة المحمّدية على البشرية. كان بالإمكان أن يُرسل الله عزّ وجلّ رسولًا يُبلّغنا الرسالة بأقل بكثير ممّا فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتكون الرسالة حُجّة علينا.
لكن ما الذي حدث؟ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم. الله! جاءنا رَجلٌ شهم، رجلٌ كريم وابن الأكارم، حدث مسار كوني آخر، بعث الله فينا نبيًا أكثر ممّا نستحقّ، وأكثر مما يُحتاج لإبلاغ الرسالة. جاءنا رسول حريص علينا، يُحبّنا، يشتاقنا، يخاف على أتباعه، يحزنه أن يفوته من البشر أحد، يُمسِك بنا أن نضلّ "وأنا آخُذٌ بحُجزكم عن النار".
ما الذي حصل؟
جاءَنا رسولٌ يُحبّنا ونُحبّه، يعرفنا ونعرفه، قال: أنا حظّكم من الأنبياء، وأنتم حظّي من الأُمم! جاءنا رسول وجاءتنا معه بركاته {وما كان الله ليُعذّبهم وأنتَ فيهم}!
يغفل معظم النّاس أن يلتفتوا لهذه المنّة، يغفلون أن يتحسّسوا الفضل والزيادة فيما كان يُمكن أن يكون ويكفي لإبلاغ الرسالة فحسب! لذلك يُنبّه القرآن المسلمين في مواضع عدّة لهذه المنّة الإلهية، كقوله عزّ وجل:
{لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويُزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين!}
فصَلِّ اللهم على سيدنا مُحمّد بن عبدالله
صلِّ يا رب على مَن يسكن قلوبنا
كُلُّ قلبٍ أنتَ ساكنه *** غيرُ مُحتاجٍ إلى السُرُج
وبِكَ الرّحمنُ أنقذنا *** مِن ظلامٍ كان كالُّلجَجِ
وجهُكَ المأمولُ حُجَّتنا *** يومَ تأتي الناس بالحُجَجِ
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد