التابعي العامل عراك بن مالك


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني تابعي من التابعين، لكنه غير مشهور كشهرة غيره من أعلام التابعين، رغم أن بعض أئمة نقاد الحديث والمؤرخين قد وصفوه بأوصاف تنبئ عن مكانته وقدره الكبير وأعماله الجليلة، ومع ذلك فلا تكاد شهرته تتجاوز المنشغلين بعلم الحديث والمهتمين بالتاريخ الإسلامي في مراحله الأولى، ولا تكاد تتعداهم إلى غيرهم من جمهور المسلمين ومثقفيهم، ولعل لهذا أسبابًا ربما يُكشف عنها في آخر هذا المقال، ولهذا كان من المناسب تسطير بعض الكلمات التي تلقي بعض الضوء على شخصية هذا التابعي الجليل ومساهماته الفعالة في أحداث عصره، وتقديمها لجمهور القراء مع الإقرار بأن ما في هذا المقال ما هو إلا جمع لما كتبه المؤرخون والمترجمون لرواة الحديث مع إعادة صياغتها وترتيبها في النقاط التالية:

أولًا: التعريف به وبأولاده وذريته:

هو عراك بن مالك الغفاري الكناني المدني سكن المدينة وذهب إلى الشام في أيام خلافة عمر بن عبدالعزيز، وروايته عن الصحابة وعن التابعين، وقد روى عن الصحابة: أبي هريرة وابن عمر وعائشة وزينب بنت أبي سلمة المخزومية ونوفل بن معاوية الديلي وأبي ذر وحكيم بن حزام وابن عباس والحارث بن البرصاء، ومن التابعين الذين روى عنهم: عروة بن الزبير ومحمد بن شهاب الزهري، وهو أصغر منه، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي، وهو قرينه.

أمّا من روى عنه فعددهم قليل فيما يبدو، منهم ابناه خُثيم وعبدالله، وسليمان بن يسار الهلالي التابعي وأحد الفقهاء السبعة وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة وهو من التابعين، وجعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، وهو المختص بحديث عراك بن مالك الضابط له كما قال ابن القيم، ومن الرواة عنه أيضا يزيد بن أبي حبيب المصري مفتي أهل مصر في أيامه، ومكحول الشامي فقيه الشام في وقته. (تهذيب الكمال 19/545-549، و28/464 وما بعدها، و31/346 وما بعدها، وتهذيب التهذيب 7/172-174، وتقريب التهذيب ص 140 و255 و545 و591 و600، وتهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، ص22، ومقال: نظرات في رواية عراك بن مالك عن الصحابة ومصادره ومراجعه، وهو مقال منشور اليكترونيًّا)

وله من الأولاد خُثيم بن عراك تولى شرطة المدينة المنورة وقت أن كان واليها ووالي مكة زياد بن عبيد الله الحارثي في خلافة خاله أبي العباس السفاح وأول خلافة أبي جعفر المنصور.

وكان خثيم عفيفًا ذا صلابة في إقامة الحدود على من يرتكبها، لكن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة أنكر أن يكون خثيم واليا على شرطة المدينة (تهذيب التهذيب 3/137، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة 1/53، 362-363، والوافي بالوفيات 15/9)، ولعل الإمام مالكًا أنكر عليه شدته في إقامة الحدود وما قد ينتج عنها من ظلم وتجاوز وتعدٍّ، وربما كان لا يدرأ بالشبهة ويأخذ بالظنة، والله أعلم (ينظر في ذلك: أنساب الأشراف للبلاذري 11/133)، وخيثم بن عراك قد وثقه النسائي وابن حبان والذهبي وهو من رجال البخاري ومسلم، وإن كان بعض أهل العلم ضعفه إلا أن توثيقه أرجح وأقوى. (ينظر: تهذيب الكمال 8/228، 229، وتاريخ الإسلام للذهبي 3/856، والكاشف له أيضًا 1/371، والمغني في الضعفاء له كذلك، ومقدمة فتح الباري: هدي الساري 1/40-41، وتحرير تقريب التهذيب 1/357).

وخثيم هذا له ابنان: إبراهيم بن خثيم وهو ضعيف (ينظر: لسان الميزان 1/273)، أما الابن الآخر فهو محمد بن خثيم وثقه ابن حبان في الثقات (9/47)، (وينظر: الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة: ابن قُطْلُوبغا 8/266).

أما الابن الثاني لعراك بن مالك فهو عبدالله ذكره ابن حبان في الثقات (7/7)، وقال العقيلي: ليس به بأس. (الضعفاء 1/52).

وأما الثالث من أبنائه فهو عبدالرحمن بن عراك وثقه ابن حبان (الثقات 7/72)، (وينظر: الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة 6/280)، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم فيه جرحًا ولا تعديلا (التاريخ الكبير 5/333، والجرح والتعديل 5/271).

وكان عراك بن مالك بارًّا بوالدته فكان إذا ذهب إلى المسجد أخذها معه تصلى، فإذا انتهت الصلوات رجع إليها فانصرف بها إلى البيت، ويوم محنته كانت معه في المسجد لكن لم يستطع أن يرجع إليها؛ لأنه أُخذ مباشرة إلى منفاه كما يأتي في ذكر محنته لاحقًا.

وعاش عراك إلى خلافة يزيد بن عبد الملك (105ه)، وقد ذكر الواقدي وابن سعد وابن عبد البر أنه توفي بالمدينة، على حين ذكر الذهبي في السير أن وفاته كانت بمنفاه في دَهلك، كما اختلف في سنة وفاته بعد اتفاقهم على أنه مات بعد المائة الأولى في خلافة يزيد بن عبد الملك، فذكر ابن عبد البر أنه مات (102 ه) (التمهيد 17/124)، على حين ذكر سبط ابن الجوزي أنه توفي عام (104ه) (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 10/396). أما الذهبي فلم يجزم بعام وفاته بل قال: *لعله توفي في سنة مائة وأربع أو قبلها* (سير أعلام النبلاء 5/64. وينظر: الوافي بالوافيات 19/356).

ثانيًا: اجتهاده في طلب العلم وثناء العلماء عليه:

كان عراك يجتهد في طلب العلم وهو صغير في حلق العلم التي بالمساجد مع الطلاب من كبار السنّ. (ينظر: المعرفة والتاريخ للفسوي 1/375، وتاريخ دمشق 40/172، وتهذيب الكمال 19/548)، ونظرًا لاجتهاده وجدّه في طلب العلم فقد تفوق فيه وأحرز مرتبة عالية حتى استحق ثناء العلماء عليه، ويبدو أنه برز في الفقه ورواية الحديث خاصة، فقد عُرف بهما مع الجدّ في العبادة والجمع بين العلم والعمل، ويبدو أن انشغاله بالعبادة والعمل؛ كان من أسبابه ما رآه من العبّاد في زمانه، فهو القائل: *أدركت الناس في شهر رمضان تُربط لهم الحبال يتمسكون بها من طول القيام*. (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 1/298.

وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري 3/145: وقد اختلف السلف في التعلق بالحبال في النافلة عند الفتور والكسل: فمنع من ذلك قومٌ ورخص آخرون. وقد وصفه الذهبي بأنه أحد العلماء العاملين (سير أعلام النبلاء 5/63).

وقال عمر بن عبدالعزيز: *ما رأيت أكثر صلاةً ولا صيامًا من عراك بن مالك*. (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 10/396. وقد أخرجه أبو دواد في الزهد 445 بدون لفظ الصيام).

يوضح ذلك عمر بن عبدالعزيز بأن عراكا كان يكثر الركعات ويقلل مقدار القراءة، فقال: *ما أعلم أحدا أكثر صلاة من عراك بن مالك؛ وذلك أنه كان يركع في عشر (أي آيات) ويسجد*. (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2931)، وينظر: المعرفة والتاريخ 1/668، وتهذيب الكمال 19/547، وتاريخ ابن أبي خيثمة 1/476، وتاريخ دمشق 40/171-172، وسير أعلام النبلاء 5/64، وتاريخ الإسلام 3/102، والتحفة اللطيفة 2/256). أما كثرة صيامه فلأنه كان يصوم الدهر (الطبقات الكبرى 5/196 لابن سعد، ط العلمية، وتاريخ دمشق 40/172، وتهذيب الكمال 19/547، وتاريخ الإسلام 3/102).

وقال عنه العجلي: *تابعي ثقة رجل صالح من خيار التابعين. وفي موضع آخر: من كبار التابعين* (الثقات 2/33). وقال عنه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان: ثقة (الجرح والتعديل 7/38). وقد أثنى عليه الذهبي أيضا بعبارات مختلفة غير التي تقدمت قريبًا، فقال: *الفقيه الصالح من جلة التابعين*. (تاريخ الإسلام 3/102، والوافي بالوفيات 19/356، والتحفة اللطيفة 2/256). وقال أيضًا: ثقة معروف. (ميزان الاعتدال 3/63).

ثالثا: الأعمال التي عملها أو كلف بها:

ويقصد بها الأعمال التي انشغل بها ولو لم تكن على جهة الإلزام؛ نظرا لعلمه وفقهه، أو كلف بها، فقد قام بالأعمال التالية:

1- قضاء المدينة، فقد كان قاضي المدينة (ينظر: أخبار القضاة: محمد بن خلف الملقّب بوكيع (306ه)، 1/135).

2-كان من مستشاري عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة في دمشق، قدم عليه وجعله عمر من مستشاريه وجلسائه الذين يستشيرهم ويصدر عن رأيهم (تاريخ دمشق 40/168-169).وقال عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن أبيه واستفادته من علم عراك وخبرته في إدارة شؤون الدولة وتصريف أمورها، قال: ما كان أبي يعدل بعراك بن مالك أحدًا. (تاريخ أبي زرعة الدمشقي، ص 420، وتاريخ دمشق 40/171، وتهذيب الكمال 19/547، وتهذيب التهذيب 7/156). ويبدو والله أعلم أن سبب مكانته تلك التي نالها عند عمر بن عبدالعزيز؛ أنه كان أشد أصحاب عمر على بني أمية في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم والأموال التي أخذوها بدون وجه حق، انتزاعها من أيديهم، وكان يحرض عمر على ذلك ويحثه عليه.

3-تعليم الناس العلم والفقه والدعوة إلى الله: لما كان عراك أشد أصحاب عمر بن عبدالعزيز على أخذ ما بأيدي بني أمية من المظالم، سخطوا عليه، فلما تولى يزيد بن عبد الملك بعد وفاة عمر، أمر يزيد بأن ينفى عراك إلى جزيرة دَهْلَك بالبحر (وهي جزيرة في بحر اليمن حرجة حارة ينفى إليه بنو أمية من يسخطون عليه. ينظر: معجم البلدان لياقوت الحموي، 2/492). فلم يجزع لما أصابه، بل صبر واحتسب وانشغل بما ينفع الناس، شأنه كشأن المسلم الحق الذي هو كالمطر أينما وقع نفع، فشغل نفسه بأن يعلم أهل الجزيرة وأولادهم الخير والفقه وأمور الحلال والحرام ويدعوهم إلى دين الله، حتى أُطلق عليه: فقيه أهل دهلك، مع أنه لم يطل مقامه بها، وقد كان أثره طيبا على دهلك وأهلها وأولادهم، فقد كان قبله الشاعر الأحوص الذي نفاه عمر بن عبدالعزيز إلى تلك الجزيرة؛ لكثرة هجائه (وقيل: إن الذي نفاه الوليد بن عبد الملك. وقيل: إن من نفاه سليمان عبد الملك)، ويبدو أنه علم أولادها الهجاء والكلام الباطل وشغلهم بذلك، فجاء عراك فمحى ذلك ونشر الخير والفقه والدعوة بين أهل الجزيرة؛ حتى إنهم دعوا للخليفة يزيد بن عبد الملك الذي نفاه؛ بسبب الأثر الطيب الذي تركه، فقالوا: جزى الله عنا يزيد بن عبد الملك خيرًا: أخذ عنا رجلًا علم أولادنا الباطل، وأقدم علينا رجلًا علمنا اللهُ على يديه الخير والحق. (ينظر: أنساب الأأأأشراف 8/244، وتاريخ دمشق 40/174، وتاريخ الإسلام 3/14، 102، والمحن لأبي العرب التميمي، ص 413، وتهذيب الكمال 19/548، وتهذيب التهذيب 7/173، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال، ص 264).

رابعا: نماذج مما استشار عمر بن عبدالعزيز عراك بن مالك فيه:

1-كان عراك بن مالك يرى أن الجوائز التي تعطى لسباق الخيل، الأولى أن تعطى إلى الناس الذين يحتاجونها: فقد أرسل حيان بن سريج والي عمر بن عبدالعزيز على مصر إليه، يسأله عن الجوائز التي تعطى لسباق الخيل، فسأل عمر عراكًا: يا عراك هل علمت أنه جُعل له سبقا؟ قال: لا. قال عمر: أولست أعلم بأصحاب الخيل ينطلقون إلى صبيان صغار فيحلمونهم على خيل مضمرة قد اعترمت (أي شدت) رؤوسها ثم يسرحونها، فمنهم من يخرّ فيموت ومنهم من تنكسر يده، فإن كانت لهم بهم حاجة، أن يجروا خيولهم فيجروها أي بأنفسهم، ثم قال: يا عراك، أترى إجراءها من اللهو؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فأنا كنت أنفق مال الله عز وجل في اللهو؟ فقطع السبقة عنهم. (تاريخ دمشق 74/97-98، ومختصر تاريخ دمشق 32/207، والأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، ص 61).

2-استشاره عمر بن عبدالعزيز في أمر الأحوص الشاعر الذي تم نفيه إلى جزيرة دهلك؛ لشدة هجائه، وذكّر الأحوصُ عمرَ بن عبدالعزيز بقرابته ورحمه، أن يعفو عنه ويرجعه إلى بلده، فأشار عليه عراك بأن بقاء الأحوص خير له، فأخذ عمر برأيه وترك الأحوص في منفاه. (تاريخ دمشق 32/210)، وذلك حتى يحمي أعراض المسلمين وينفي عنهم الحرج والضيق والإزعاج، فضلًا عن أن هذا أفضل للشاعر؛ حتى لا يقع في الهجاء؛ فيُعاقب وربما ازداد عقابا وألما ورجع إلى منفاه مرة أخرى.

خامسا: بعضٌ من آرائه وفقهه:

عُرف عراك بالفقه وكان يعلّم الناس ذلك ويفتيهم فيما يسألونه عنه كما فعل في دهلك، كما كانت له مشاركة في العلوم الأخرى، وفيما يلي بعض من آرائه وفقهه:

3-كان يرى تفضيل الملائكة على البشر، وقد خالف عمرَ بن عبدالعزيز الذي كان يرى أن البشر أفضل من الملائكة. (أخرجه اللالكائي في أصول الاعتقاد رقم 2318، وينظر: الحجة في بيان المحجة: قوّام السنة، 2/414-415، وتاريخ دمشق 9/303، والبداية والنهاية لابن كثير 1/54 ط مكتبة المعارف).

4-أنه كان يفسر الابتغاء من فضل الله بعد صلاة الجمعة بأنه طلب الرزق، فكان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. (أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 8/122-123، وينظر: تفسير الرازي 30/9، وتفسير القرطبي 18/108).

5-كان يذهب إلى أن الانتشار بعد صلاة الجمعة، إنما هو للاستحباب وليس للإباحة. (ينظر: فتح الباري لابن رجب الحنبلي 8/337).

6-كان يرى أن ساعة الاستجابة في يوم الجمعة تكون بعد زوال الشمس. (المبدع شرح المقنع 2/156، وكشاف القناع 2/44).

7-كان يرى أن كثرة الركوع أفضل من كثرة القراءة في الصلاة، فقد وصفه كما مرّ عمر بن عبدالعزيز بأنه أكثر الناس صلاة. وقد فصل ذلك بأن كان يقرأ عشر آيات ثم يركع.

8-كأنه مال إلى جواز التعلق بالحبال في صلاة النوافل عند الفتور والكسل. (مصنف ابن أبي شيبة 1/198، وشرح صحيح البخاري لابن بطال 3/145، وشرح سنن أبي داود لابن رسلان 6/468-467).

9-كان يذهب إلى أن المال الذي تؤدى زكاته ليس بكنز، فلا يدخل فيه الوعيد الشديد للذين يكنزون الذهب والفضة كما في سورة التوبة (ينظر الآيتان 34و35 من سورة التوبة) وقال: إنها منسوخة بقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103). وهو في ذلك كله موافق لعمر بن عبدالعزيز. (تفسير ابن أبي حاتم 6/1789، وتاريخ دمشق 43/314، ومختصر تاريخ دمشق 18/196، وأحكام القرآن لابن العربي 2/414، والدر المنثور 4/179).

10-كان يرى جواز صيام الدهر، كما مر ذلك سابقًا.

11-كان لا يقرن بين أشواط الطواف ويصلي بعد كل سبعة أشواط ركعتي الطواف، ولا يجمع أشواط الطواف حتى إذا فرغ منها صلى عن سبعة أشواط ركعتين. (مصنف ابن أبي شيبة 8/552، وأخبار مكة للفاكهي 1/215-223).

12-كان يرى أنه بعد انتهاء الطواف لا يستلم الركن وإنما يذهب إلى السعي بين الصفا والمروة، ولا يرى استلام الركن ثم السعي. (أخبار مكة للفاكهي 2/205).

13-كان يرى جواز السعي بين الصفا والمروة راكبًا. (مصنف ابن أبي شيبة 8/134، وأخبار مكة للفاكهي 2/223-227).

14-كان يرى أن المسلمين فتحوا البلاد عنوة دون عهد ولا صلح (الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام رقم 127، والأموال لابن زنجويه رقم 196و 578، وفتوح مصر لابن عبد الحكم ص 103، وتاريخ دمشق 37/9، والمواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي 2/83).

15-كان يرى جواز أن تُقطع أرضٌ لأحد من الرعية من أجل ما يطرأ عليه من حقوق والتزامات، مثل إكرام من جاءه من الضيفان ونحو ذلك. (الأموال لابن زنجويه رقم 348، وتاريخ دمشق 40/173، ومختصر تاريخ دمشق 16/338).

16-كان يرى جواز استخدام النفي عقوبة تعزيرية، فقد أشار على عمر بن عبدالعزيز ببقاء الشاعر الأحوص في منفاه في جزيرة دهلك؛ نظرا لكثرة هجائه وعدم إقلاعه عنه. وقد مر ذكر ذلك قريبًا.

سادسا: آراؤه في بعض المعاصرين له:

كان عراك بن مالك يعيش في عصر التابعين الذي نشط فيه التابعون لحمل العلم عن الصحابة الكرام، ونقله إلى من بعدهم، وقد بذلوا في ذلك الغالي والنفيس، وقد ساهم عراك في هذا الجهد المبارك، كما كان له آراء في بعض التابعين في ضوء خبرته بهم واطلاعه على ما عندهم، ولم يمنعه أن يكون التابعي قرينه أو أصغر منه أن يُثني عليه ويبيّن مكانته ويبرز علمه وجهده، ومن ذلك:

1-أنه كان يرى أن محمد بن شهاب الزهري، وهو أصغر من عراك، أعلم أهل المدينة؛ وذلك لأنه جمع علومًا عدة وتفوق فيها، وبين سبب ذلك أن كل واحد من علماء المدينة في وقته اقتصر على علمه الذي تعلمه أو تخصص فيه وبرز فيه لا يتعداه إلى غيره، أما ابن شهاب الزهري فقد جالسهم جميعًا واستفاد منهم، فأخذ ما عندهم وبرز في ذلك؛ فهو أعلمهم. (تاريخ أسماء الثقات: ابن شاهين، ص 262، والمعرفة والتاريخ: الفسوي 1/622).

2-كان يرى أن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي، وهو قرينه، أنه غزير العلم يتفجر علما كالبحر، فقد سئل عن أفقه من رأى؟ فقال: أعلمهم سعيد بن المسيب وأغزرهم في الحديث عروة بن الزبير ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود بحرًا إلا فجرته. (طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي، ص 60، والجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة: محمد بن أبي بكر التلمساني المعروف بابن البري، 1/227، وتاريخ الإسلام 2/1137، وتذهيب تهذيب الكمال 6/217، كلاهما للذهبي). وفي رواية: أنه سئل من أفقه أهل المدينة؟ فقال: أما أعلمهم بقضايا رسول الله وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان وأفقهم فقهًا وأعلمهم بما مضى من أمر الناس، فسعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثًا فعروة بن الزبير ولا تشاء أن تفجر من عبدالله بن عبيد الله بحرا إلا فجرته، وأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب، فإنه جمع علمهم جميعًا إلى علمه. (المعرفة والتاريخ 1/622، والكامل في ضعفاء الرجال: ابن عدي 1/58، وتاريخ دمشق 55/361، وصفة الصفوة لابن الجوزي 2/137، وتاريخ الإسلام 3/499، والمقفى الكبير للمقريزي 7/135).

سابعا: محنته:

كان عراك بن مالك أشد مستشاري عمر بن عبدالعزيز وأصحابه في حضه على أخذ الأموال التي بأيدي بني أمية والتي أخذوها بدون وجه حق، وجعلهم كسائر الأمة لا يأخذون إلا ما لهم حق فيه، وقد قام عمر بن عبدالعزيز بذلك وجعل بني أمية وهم أقرباؤه ورحمه كسائر الأمة، فنقموا على عراك من أجل ذلك، فلما ولي يزيد بن عبد الملك الخلافة بعد موت عمر بن عبدالعزيز، وقد ولّى واليًّا جديدا على المدينة، فكان هذا الوالي يعرف مكانة عراك بن مالك فكان يكرمه ويجلسه على سريره ولا يقطع أمرًا دونه، لكن سرعان ما جاء الأمر من يزيد بنفي عراك بن مالك إلى جزيرة دهلك على راحلة من مال عراك نفسه، وفي رواية: أن الجندي الذي كلف بنفي عراك قد أهانه فلطمه حتى وقع على الأرض وقد كان شيخًا كبيرًا، وجرّه من رجله، وكان هذا بمحضر من الناس، فلما ذهب إلى منفاه في دهلك لم يجزع لما أصاب، بل أقبل يعلم الناس الخير والحق ويعلمهم أمور دينهم ويدعوهم إلى دين الله والعمل الصالح، حتى اطلق عليه فقيه دهلك، وأثّر في الناس هناك تأثيرًا كبيرًا حتى إنهم حمدوا للخليفة يزيد نفيه عراك إليهم، ولم تطل حياته بعد النفي فمات على أقصى تقدير عام (104ه) كما نصّ على ذلك سبط ابن الجوزي، كما اختلف في مكان وفاته، فقد ذكر الواقدي وتلميذه ابن سعد وابن عبد البر أن وفاته بالمدينة، وعلى هذا لم تطل إقامته في دهلك، أو مات في تلك الجزيرة ولم يغادرها كما ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء. (المحن: أبو العرب التميمي، ص 413، وتاريخ دمشق 40/173-175، ومرآة الزمان في تواريخ الأعيان 10/396، وتهذيب الكمال 19/ 548-549، وتاريخ الإسلام 3/14، 102، وسير أعلام النبلاء 5/64، وتهذيب التهذيب 7/173، ولسان الميزان 7/304، والتحفة اللطيفة 2/256-257).

ثامنا: مرويات عراك بن مالك:

وصفه الذهبي بأنه ليس بالكثير الرواية (سير أعلام النبلاء 5/64)، وحديثه في الصحيحين، ويمكن ذكر ما يأتي عن مروياته في كتب الحديث والآثار:

1-روايته عن أبي هريرة في الصحيحين وسماعه منه صحيح، وقد انفرد عن أبي هريرة بالحديث المرفوع: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة"، ولم يصح هذا الحديث إلا من هذا الطريق. (ينظر: سنن الترمذي 2/16-17 بعد الحديث رقم 628، وتحفة الأشراف 10/253 الحديث رقم 14153، والمسند الجامع: أبو المعاطي النوري 41/206-211 الحديث رقم 13357، ونزهة الألباب في قول الترمذي وفي الباب: حسن بن محمد الوائلي 3/1154-1155 الحديث رقم 1179/14 وما بعده).

2-لم يخرج البخاري في صحيحه حديثه عن عائشة إلا عن عروة عن عائشة وكذلك فعل مسلم في صحيحه إلا في حديث واحد أخرجه عن عراك عن عائشة في المرأة المسكينة وابنتيها جاءتها تطلب طعامًا، ولعل البخاري لم يخرج حديثه عن عائشة؛ للخلاف في سماع عراك من عائشة، وإنما أخرج مسلم حديثه عن عائشة متابعة لحديث عروة عن عائشة في القصة نفسها، كما أن الإمام مسلمًا مذهبه أن المتعاصريْنِ يحمل روايتهما على السماع، إلا أن يأتي دليل على نفي السماع، ولم يأت هذا الدليل.

3-قرن عراك بن مالك في حديث واحد بين صحابيين جليلين، وهما نوفل بن معاوية الديلي وعبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، قال عراك بن مالك: إن نوفل بن معاوية حدثه أنه سمع رسول الله يقول: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ"، قال عراك: وأخبرني عبدالله بن عمر أنه سمع رسول الله يقول: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ". (أخرجه النسائي 1/237، وأحمد 5/462، وأخرجه النسائي 1/238 وغيره من طريق آخر بدون ذكر لفظ السماع، وقال البيهقي في السنن الكبرى 1/445: رواه عراك بن مالك عنهما إما بلاغًا أو سماعًا).

4-انفرد عراك بن مالك برواية حديث مرسل، أخرجه أبو داود في المراسيل رقم 385، بإسناده عن عراك بن مالك أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمَطْرَان يُذْبَحُ فِيهِ، قَالَ: وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "هُوَ حَلَالٌ". وفي تحفة الأشراف 13/ 287، تحقيق: عبد الصمد شرف الدين، و12/406، تحقيق: بشار عواد معروف، رقم (19007): يذبح به. وقد أخبرني أحد الزملاء الأفاضل أنه في مخطوطة من المراسيل لأبي داود: شفرة اليهود.

ولم أهتد لمعنى كلمة المطران، فلم تذكرها كتب غريب الحديث ولا كتب اللغة فيما يتعلق بالذبح. وإن كانت كلمة مطران موجودة في كتب اللغة، وهو رئيس ديني عند النصارى وهو دون البطريرك وفوق الأسقف. (ينظر: القاموس المحيط، ص 872، وتاج العروس 23/446، وصبح الأعشى 5/444، والمعجم الوسيط 2/875، ومعجم اللغة العربية المعاصرة 2/1079).

وعن أصل كلمة المطران، قال لويس شيخو (1346ه=1927م): *فأما المطران فأصلها على هذه الصورة من السريانية... والسريان اختصروها من اليونانية، ولم نجدها في الشعر القديم* (النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، ص86 ترقيم الشاملة). وجاء في تكملة المعاجم العربية 10/80: *مطارية: إناء خزفي دائري الشكل ذو عنق ضيق وطويل، وهو بلا ريب ذو أصل أغريقي*. وهذا أقرب الألفاظ لما هو موجود في المراسيل، ويكون المقصود والله أعلم الذبح بالخزف أو بما هو من مادته، وهذا يرجح ما في تحفة الأشراف: يذبح به.

تاسعا: أسباب عدم شهرة عراك بن مالك:

رغم أن عراك بن مالك كان من كبار التابعين الجامعين بين العلم والعمل، إلا أنه لم يكن بشهرة غيره من كبار التابعين مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبدالله بن الزبير وعروة بن الزبير وغيرهم، وربما كانت هناك أسباب لهذا، منها:

1-لم يكن كثير الرواية للحديث، فعدد من روى عنهم من الصحابة قليل، رغم أنه كان يعيش في عصرهم، ولعل مرجع ذلك إلى أنه لم يغادر المدينة المنورة: مسكنه، إلا للعمل مستشارًا لعمر بن عبدالعزيز في دمشق لما ولي الخلافة، أو لمنفىً كنفيه إلى دهلك في آخر حياته، فلم يعرف بالرحلة في طلب الحديث، وقد خرج كثير من الصحابة الكرام من المدينة وانتشروا في أرجاء دولة الإسلام على اتساعها.

2-يبدو أن الرجل والله أعلم شغل بالعمل وبتطبيق ما تعلمه، فقد كلف بالقضاء في المدينة كما وصف بأنه التابعي العامل والرجل الصالح، ولعل ما دفعه إلى هذا أنه رأى غيره من كبار التابعين قد قام بفرض الكفاية من طلب العلم وبتعليمه ونشره بين الناس، فرأى أنهم أغنوه وقاموا وسدوا عنه في هذا الجانب.

3-انشغاله بالعبادة وبره بأمه عن طلب كثير من العلم، فقد كان من العباد الزهاد، كما كان يذهب بأمه إلى المسجد تمكث فيه تصلي الصلوات فإذا صلّى رجع بها إلى البيت بعد انقضاء الصلوات، وفي الغالب أن من يكون هذا شأنه تنصرف همته إلى العبادة والعمل الصالح، ولا تنشط نشاطًا كبيرًا في طلب العلم والحديث وخاصة أن غيره قد قام بفرض الكفاية في ذلك.

4-يبدو والله أعلم أن نفيه إلى جزيرة دهلك وهي جزيرة نائية بعيدة آخر حياته قد قطعه عن حلقات العلم تعلمًا وتعليما، وإن كان هذا النفي في آخر حياته، ولما نفي انشغل بالجانب التعليمي والدعوي وتعليم الناس الحلال والحرام، ويبدو والله أعلم أنه لم ينشغل برواية الحديث بين أهل الجزيرة؛ لما رأى من حاجتهم الملحة لمعرفة أمور دينهم الحياتية والمتكررة. ورأي أن أهل الجزيرة لا يناسبهم الآن التحديث بمروياته، وإنما يكون ذلك في مرحلة متقدمة، ولكن فيما يبدو توفي قبل هذا؛ لأنه سرعان ما توفي ولم تطل حياته بعد نفيه.

والخلاصة أن عراك بن مالك من كبار التابعين العاملين الزهاد المؤثّرين في بعض الأحداث الكبار في عصره، ورغم ذلك فإنه لم ينل شهرة واسعة، ولا يعلم عنه كثيرٌ من مثقفي المسلمين اليوم شيئًا أو لا يعلمون إلا شيئًا يسيرًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply