بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
معاشر الصائمين الكرام: حين نتأمَّلُ عبادةَ الرسول ﷺ عموماً، وفي رمضان خصوصاً: نجدُ اجتهاداً عجيباً، فقد كان ﷺ يواصِلُ الصيامَ لليومين والثلاثة، وكان يذكرُ الله تعالى في كل أحيانه، وكان يقومُ من الليل حتى تتفطرَ قدماه، وكان يتدارسُ القرآنَ مع جبريل كل ليلةٍ من ليالي رمضان. وكان يعتكفُ في مسجدهِ العشرَ الأواخرَ من رمضان. لكن اعجبَ ما كان يفعلهُ ويُكثرُ منهُ في رمضانَ هو الصدقة. فالصدقةُ في رمضانَ لها منزلةٌ خاصة.
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
إنه درسٌ رمضانَيٌ عظيم: فالصدقةُ تكافلٌ وتراحمٌ، وتوثيقٌ لأواصر الترابطِ والتعاونِ بين أفراد المجتمع، وشعورٌ بألآم اخوانك المسلمين، وإحساسٌ بأحوال المحرومين والمحتاجين، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
والمسلمُ حينَ يبذلُ قُصارى جَهدِه ليجمعَ المالَ من حلال، ثم يجودُ به بطيب نفسٍ في سبيل الله، فهو لم يفعل ذلك، إلا لأنّ رضا اللهِ جلّ وعلا أغلى عِنده من المال، ولذا قال المصطفى ﷺ في الحديث الصحيح: "والصدقةُ بُرهانٌ"، أي: برهانٌ على صِدقِ الإيمانِ.
ولا شكّ (أيها الكرام) أنّ بذلَ الصدقات، من أعظم وأجلِّ العبادات، ومن أحبّ الطّاعاتِ والقربات, إلى فاطر الأرضِ والسموات، ففي الحديث الصحيح: قال ﷺ: "أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أنفعُهم للنّاسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مُسلمٍ، أو تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِيَ عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا".
والصدقةُ يا عباد الله لها عند الله جزاءٌ خاصٌ، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}.
وقال عزَّ وجلَّ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
هذا يا عباد الله: في الأوقات العادية، فكيف في شهر البركة. ثم إنَّ الصدقةَ مخلوفةٌ على المنفق في الدنيا قبل الآخرة، فالله تعالى يقول: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
كما أنَّ الصدقةَ شِفاءٌ ودواء، ففي الحديث الحسن، قال رسول الله ﷺ: "داوُوا مَرْضاكم بالصَّدَقةِ"، وفي الحديث الصحيح: "صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ والآفاتِ والهلكاتِ".
وقال الإمام بن القيم: (للصَّدَقة تأثيرٌ عجيبٌ في دفع أنواع البلاء، ولو كانت مِن فاجر أو مِن ظالِم، بل ولو من كافر، فإنَّ الله تعالى يدفع بها عنه أنواعاً من البلاء؛ وهذا أمرٌ معلوم عنْدَ الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مُقرُّون بـه لأنهم جرَّبوه).
والصدقةُ أيضاً من أسبابِ الأمنِ من عذاب الله تعالى، في الحديث الصحيح، قال رسول الله ﷺ: "صدَقةُ السِّرِ تطفئُ غضبَ الرَّبِّ".
كما أنَّ الصدقةَ من أعظم الأعمالِ الصالحةِ تزكيةً للأخلاق، وتربيةً للنفوس، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، كما أنَّ فيها سلامةً من البخل والشُحّ المذموم، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقد دَلَّتِ الدَّلائِلُ نقلاً وعقلاً، أَنَّ أهل البذلِ والإحسان هُم أَشرَحُ النَّاسِ صُدُورًا، وَأَطيَبُهُم نُفُوسًا، وَأَهنأهم قُلُوبًا، وَكَيفَ لا يَكُونُونَ كَذَلِكَ، وفي كتاب الله العزيز، أنَّ اللهَ مع المحسنين، وَأن اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، و{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، و{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وفي صحيح البخاري: "مَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ".
وفي الحديث الحسن، قال ﷺ: "إنَّما يَستَظلُّ المؤمِنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صدقتِهِ". وإذا كان اللهُ جلّ وعلا يجودُ على عباده في كل ليلةٍ من ليالي رمضان، ويتكرمُ عليهم برحمته ومغفرتهِ والعتقِ من النيران، فإنَّ أولى من يستحقُ هذا الجود, هم أهلُ البذلِ والجود, الذين يرحمونَ عباد الله.
ففي الحديث المتفق عليه: قال ﷺ: "إنما يرحمُ اللهُ من عباده الرُّحماء". وينضمُ إلى هذه الفضائل العظيمة, فضلٌ أعظم، وهو أنّ الجمَعَ بين الصّيامِ والصّدقةِ يوصِلُ بفضل الله إلى منازلَ خاصةٍ في الجنة، ففي الحديث الصحيح، قال ﷺ: *"إنّ في الجنةِ غرفًا، يُرى ظاهرُها من باطنِها، وباطنُها من ظاهرِها؛ أعدَّها اللهُ لمن ألانَ الكلامَ، وأطعمَ الطعامَ، وتابعَ الصيامَ، وصلى بالليلِ والنّاسُ نيامٌ"*. وكل هذا يجتمعُ في رمضان.
فبادر أخي المسلم بالبذل والإنفاق في سبيل الله، وسابق إلى الخيرات، وسارع في المكرمات، وقدم لنفسك ما دُمت في زمن الامكان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وتأمّلوا أحبتي في الله, وتساءلوا معي، لماذا الصَّدَقةُ بالذات، ومن بين كل الأعمالِ الصّالحة، هيَ ما يتمنى الميتُ أن يرجِعَ ليفعله، والجوابُ والعلمُ عند الله: لأنهُ رأي جميلَ أثرها، وعِظمَ أجورها، ولأنهُ أرادَ أن يتداركَ فينفعَ نفسهُ بماله وهيهات: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا}..
فيا من وسّعَ الله أرزاقكم، وسعوا على إخوانكم المحتاجين: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أجرا}. أعوذ بالله من ...: {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
اتقوا الله عباد الله، اتقوا الله واعلموا أنَّ الله بواسع رحمتهِ، وعظيم توفيقه، حين خلقَ المعروف, خلقَ له أهلاً، وحبَّبَ إليهم فِعله، وجعلَ قضاءَ حوائجِ النّاسِ على أيديهم، أولئك هم الموفقون. في الحديث الحسن، قال عليه الصلاة والسلام: "إنّ للهِ أقواماً اختصّهم بالنّعم لمنافع عبادهِ، يُقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم".
وفي الحديث الصحيح قال ﷺ: "من نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرب الدّنيا، نفّسَ اللهُ عنه كُربةً من كُرب يومِ القيامة، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ يَسرَ اللهُ عليهِ في الدنيا والآخرة، ومن سترَ مُسلماً سترهُ اللهُ في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبدِ ما كان العبدُ في عون أخيه".
وقال بعضُ الحكماء: أعظمُ المصائبِ أن تقدِرَ على المعروف ثمّ لا توفق لفعله. والمالُ إن لم تصنعَ به معروفاً، أو تقضي به حاجةً، أو تُحصِّل به أجراً، فما هو إلا لوارثٍ أو حادث. ودروبُ الخيرِ أيها المسلمون كثيرةٌ، وحوائجُ النَّاسِ أكثر؛ إطعامُ الجائعين، وكِسوةُ المُحتاجين، وعيادةُ المريض، وتعليمُ الجاهل، وإنظارُ الـمُعسر، وإعانةُ العاجز، وإسعافُ المنقطع. أو أن تطردَ عن أخيك همّاً. أو تكفُلَ يتيماً، أو تواسي أرملةً. أو تسعى في شفاعةٍ حسنة. فإنْ كُنت لا تملك هذا ولا ذاك، فتبسمك في وجه أخيك صدقة، والكلمةُ الطيبةُ صدقة، وإرشاد الضّالِ صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة، وكلُّ معروفٍ صدقة، وأن تكُفَّ أذاكَ عن النَاس, فتلك صدقةٌ منك على نفسك، وأهلُ المعروفِ في الدّنيا, هم أهلُ المعروفِ في الآخرة..
واعلموا أيها الكرام: أنَّ صفوَ العيشِ لا يدوم، وأنَّ مصاعبَ الحياةِ ليست خاصةً بقومٍ دون قوم، وأنّ حسابَ الآخرةِ عسير، وأنَّ خذلانَ المسلمِ لأخيه المسلم له عواقبُ وخيمة، والمسلمون إنما هانوا لـمَّا ضعُفت فيهم أواصرُ الأخوةِ والتّكافل، وتقطَّعت بينهم حِبالُ المودة والتّواصل. فاتقوا الله رحمكم الله وأصلحوا ذات بينكم، ولتكن النفوسُ بالخير سخيّة، والأيدي بالعطاء نديّة، واستمسكوا بعرى السّماحةِ، واستبقوا الخيرات، ونافسوا في المكرمات، فمن بذلَ اليومَ قليلاً، فسيلقاهُ غداً بإذن اللهِ مُضاعفاً كثيراً. تجارةً مع الله رابحة، أضعافاً مُضاعفة. في الحديث الصحيح، قال ﷺ: "من أنفقَ نفقةً في سبيل الله كُتبت له بسبعمائة ضِعف". واعلموا أنَّ أهمَّ ما ينبغي على المسلم أن يحرصَ عليه في أعماله كُلِّها الإخلاص، فالإخلاصُ هو الأساس، في الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلَّا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهُه"، والصدقةُ بالذات يا عباد الله: كثيراً ما يشوبها الرياءُ وحبُّ الذكرِ والثناء، وهذا من حرص الشيطانِ على إفسادِ هذا العملِ العظيم، فاحذروا رحمني الله وإياكم..
ومن وفِق لبذل المعروفِ فليكن ذلك بوجهٍ طلق, ونفسٍ سمحة, وليحرص على الكتمان قدر الإمكان، تمحيصاً للإخلاص، وحِفاظاً على كرامة أخيهِ المسلم. فإنّ مِن السبعةِ الذين يُظلهم اللهُ في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظله: (رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ). وتحروا صاحبَ الحاجة العفيف، وبادروهُ بالصّدقة قبلَ أن يسألها. واختاروا الصّدقةَ من أطيبِ أموالكم؛ فإنّ اللهَ طيبٌ لا يقبلُ إلا طيباً، وفي محكم التنزيل: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. واسْتِشعرُوا فضلِ اللَّهِ تَعَالَى, ومِنتهِ عَلَيْكم؛ فَالْمَالُ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى، هو الذي رزقكم إياهُ ابتداءً، وهو الذي هَدَاكمُ ووفقكمُ، وهو الذي اعانكمُ على بذلهِ والتَّصدقَ به، وَهو الذي خَلَّصكمُ به مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ. وفقني اللهُ وإياكم لهداه، وجعلَ عملنا كلهُ في رضاه، وتقبل منا ومنكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}. ويا بن آدم عش ما شئت.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد