ونخوفهم

89
6 دقائق
24 شوال 1446 (23-04-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فيا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}.

معاشر المؤمنين الكرام: نعيشُ اليوم في عالمٍ مليءٍ بالانحرافات والمنكرات، وجاهر بالفسق والموبقات، ومن سنة اللهِ التي لا تتخلف، أن تظهر بين الفينة والأخرى عقوباتٌ عامة، فيها من الشِّدة ما فيها، والمؤمنُ الذي يُحسنُ الظنّ بربه ويثقُ في عدله وحكمته، ولطفهِ بعباده ورحمته، يعلمُ أنّ هذه العقوبات إنما هي رسالةٌ ربانية تدعوهُ للتأمل والتفكر، ومراجعةِ النفس ومحاسبتها، وتصحيح المسارِ والعودة إلى الطريق المستقيم.

فمن رَحمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَن يُرسِلَ لهم الآيَاتِ والعقوبات إِنذَارًا وَتَذكِيرًا، وتخويفًا وتحذيرا، قَالَ تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ العَذَابِ الأَدنى دُونَ العَذَابِ الأَكبرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ}، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

وقالَ تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. فهو سبحانهُ وتعالى إنما يُري عباده من آياته ما يُريهم، لينتبهوا ويعتبروا، وليتوبوا ويرجعوا، والسعيدُ الموفق من تنبهَ وتاب، وعادَ من قريبٍ وأناب، والشقيُ المخذول من غفلَ ولها، وأصرَّ وتمادى، وأعرض عن الهدى، قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}، وقال تعالى: {وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهَا إِنَّا مِنَ المُجرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون}.

وقال جل علا: {وَنُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُم إِلاَّ طُغيَانًا كَبِيرًا}. فكم نرى ونسمع ونشاهد من حروبٍ مدمرة، وكوارث مُهلكة، وأعاصير وفيضاناتٍ جارفة، وأمراضٍ وأوبئةٍ فتاكة، وبراكينَ وزلازلَ مروعةٍ مرعبة. آياتٌ بينات، ودلائلٌ واضحات، تضربُ هنا وهناك بكلِّ قوة؛ فلا يملك أحدٌ ردَّها، ولا يستطيعُ بشرٌ أن يسيطرَ عليها.

وما أخبار حرائق كالفورنيا عنا ببعيد، فهي تملأ السمع والبصر، {ألم ترى كيف فعل ربك بعاد}، أرسل عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، بلغت سرعتها أكثر من 150 كيلو متر في الساعة، ومعها أعاصيرٌ محرقة، فاشتعلت النيران في الغاباتُ، وأخذت تتمدد بسرعةٍ رهيبة، لمئات الكيلومترات، حتى التهمت أكثر من مائتي كليو متر مربع من الغابات في أيام قليلة، كما أحرقت مئات الآلاف من البيوت وجعلتها أثرًا بعد عين، بل إنّ أحياءً كاملةً تحولت إلى رمادٍ أسود، بما فيها الأحياء الراقية، والقصور الفارهة، واحترق معها الكثير من المحلات التجارية، والمصالح العامة، وعشرات الآلاف من السيارات، وانقطعت جميع الخدمات، وشحت المياه، وانتشر الدخان الكثيف، فتعطلت الحياة، وبلغ عدد النازحين أكثر من نصف مليون شخص. إنه أكبر حريقٍ في تاريخ أمريكا. قُدرت خسائره المبدئية بأكثر من 300 مليار دولار، ووصف بعضهم الكارثة بأنها قنبلةٌ نووية، وقال آخرون إنها صورةٌ من يوم القيامة، وإلى هذه اللحظة لا زالت الرياحُ على أشدها، ولا تزالُ النيرانُ في توسعٍ رهيب، وما زال مسلسل الرعب مستمرًا، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَر}.

حدث كل هذا يا عباد الله، لأغنى مدينة في العالم، المدينة التي تملك أكبر اسطولٍ جوي في العالم لأطفاء الحرائق، ولديها أكثر من عشرين ألف إطفائي هم الأكفا في هذا المجال، ولديها أكثر معدات الإطفاء تقدمًا، بما في ذلك اقمارٌ صناعيةٌ خاصة، وتصويرٌ بالكمرات الأرضية وبالطائرات المسيرة، وبرامج حاسوبية متقدمة تعمل بالذكاء الصناعي.

إنها يا عباد الله: آياتٌ بينات، ونذرٌ واضحات. لا يماري فيها إلا مستكبرٌ مطموس القلب. فَنَعُوذُ بِاللهِ ممَّن لم يَقدُرِ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِمَّن يَرَى الآيات العظيمة والنذر الشديدة، ثُمَّ لا يخاف ولا يرعوي، ويَقرَأُ القُرآنَ وَيسمع آيَاتِه تحذُّر وتنذر، وتقُصُّ عليهِ ما حَلَّ بِمَن خالفَ أَمرَ الله وَعصَى رُسُلهُ، ثُمَّ لا يزدادُ إِلاَّ طُغيانًا كَبِيرًا.

قَالَ جلّ وعلا: {وَيُرِيكُم آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَم يَسِيرُوا في الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُوا أَكثَرَ مِنهُم وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا في الأَرضِ فَمَا أَغنى عَنهُم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ}.

وقال الله تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِر * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر}.

إنها يا عباد الله: رسالة إنذارٍ من الملك الجبار، {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}. رسالة قويةً لكل البشر، أنه لا أعظمَ ولا أكبرَ من الله جلَّ في علاه، وأنه لا أشدَّ منه بطشًا، ولا أعظمَ منهُ قوة، وأنه الإله الواحد القهار: الكونَ كلَّهُ بيدِه، يفعلُ في مُلْكِهِ ما يُريدُ، ويحكُمُ في خلقِهِ ما يشاءُ، لا رادَّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه.

{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}، وإذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، وإنها لذِكرى وتذكيرٌ، بأنَّ اللهَ هو العلي الكبير، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنَّهُ يُملي للظالمِ حتَّى إذا أخذَهُ لم يُفلتْهُ. وأن أخذه أليمٌ شديد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيد * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيب * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُود}.

اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين.

معاشر المؤمنين الكرام: خلقَ اللهُ الإنسانَ وكرَّمَهُ، وأسبغَ عليهِ نعمَهُ ظاهرةً وباطنةً وأكرمه، ومن أجله أنزلَ الكُتبَ وأرسلَ الرُّسلَ. إلَّا أنَّ في الإنسانِ ميلٌ إلى الظلم والطُّغيانِ، فما إنْ يجعلُ اللهُ لهُ قوَّةً وسلطانًا ويمكنه بعض التمكين، حتى يرى نفسَهُ مستغنيًا عن اللهِ، فيكفُرَ بربِّهِ، ويعرض عن الهُدى، ويَعبُدَ هواهُ، ويَصُدَّ الناسَ عن سبيلِ اللهِ، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ ‌اسْتَغْنَى}.

فالظلم والطغيان سبب ما حلّ ويحِلُ بجميع الأمم من المصائب والعقوبات، قالَ تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * ‌فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}.

وقال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِين}.

كما أنّ من أخطر أسباب حلول العقوبات العامة بعد الشركِ بالله: الذنوب والمعاصِي؛ قال جلّ وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}، وقال سبحانه: {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين}، وقال سبحانه: {فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}.

نعم يا عباد الله: كم أهلكتِ المعاصي من أمم ماضية! وكم دمرتْ من شعوب كانت قائمة، في الحديث الصحيح: "يا مَعْشَرَ المهاجرينَ: خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم". صححه الألباني.

ويقول ابن القيم رحمه الله: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذرٌ بسيل عذابٍ قد انعقد غمامه، ومؤذنٌ بليل بلاءٍ قد أدلهم ظلامه، فاعدلوا عن هذا السبيل بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، قال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.

هذه هي سنة الله يا عباد الله: فكل مجتمعٍ يكفرُ بنعم الله، ويجحدُ بآياته ويعرضُ عن سبيله، فإنه يستحقُ عذاب الله وعقابه، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا}.

فهل نتعظ ونعتبر يا عباد الله بما حل بغيرنا، قبل أن نكون عبرة لغيرنا، ففي محكم التنزيل يقول ربنا: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم}. وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.

ويا ابن آدم عش ما شئت.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق