بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى.
في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.
(الأحد: 27 من جمادى الآخرة 1446ه = 29 من ديسمبر 2024م).
• قلتُ، وأكرِّر، ولا أمَلُّ: إن قيمة المعرفة تُقدَّر بمقدار ما تَبذل فيها مِن فكر، وإن المسألة قد تكون مسألةً قريبةً جدًّا، ثم تَجِد العقلَ الجيِّد الذي تعوَّد على أن يُدقِّق في الأفكار يَبحث ويُثير فيها قضايا ما كان لها أن تُثار لولا أنَّ عقلَه أثارها.
• نحن مع عبد القاهر في قضية محصورة، هي أن فَضْلَ الكلام يَرجع إلى معناه، وهذا ما عليه أكثرُ أهل العلم، أو كلُّ أهل العلم، وهناك فئةٌ ترى أن فَضْلَ الكلام يَرجع إلى لفظه؛ فوقف عبد القاهر عند هذه الفئة، وأخذ يُثير أفكارَها وأوهامَها ويُناقشها.
• مِن بين ما قاله عبد القاهر في الردِّ على الفئة التي تَرجِعُ مَزِيَّة الكلام إلى اللفظ لا إلى المعنى أنَّ طبيعة الإنسان وهو يُفكِّر أنْ يستحضر الأفكار ويراجع الأفكار، وهو حين يستحضر الأفكار ويراجع الأفكار لا بُدَّ – وبالضَّرورة - أن تُوجَد الألفاظُ الدالَّةُ على هذه الأفكار؛ لأنه لا يوجد معنى في العقل مِن غير اللفظ الدالِّ عليه.
• عبدُ القاهر يَشرح لنا عملَ العقل وهو يُفكِّر فيما يتكلَّم فيه.
• مِن المُمتع جدًّا أن تَفهم الأفكار، وأن تَعيشَ هذه الأفكار؛ فتتجاوز مرحلة الفَهْم إلى مرحلة المُعايشة.
• كنتُ أتوهَّم في بداية حياتي أنه من الممكن جدًّا أن تَرِدَ خواطرُ في النَّفْس بدون الألفاظ الدالَّة عليها؛ فحاولتُ ذلك فلم أجِدْه، وذلك مُتَّسقٌ مع قول العلماء إن المعانيَ لا تقوم في النفوس إلَّا مُتلبِّسةً بالألفاظ الدالَّة عليها.
• هناك شيءٌ مهمٌّ جدًّا في القراءة لم أُنبِّه إليه؛ هو أنك وأنت تقرأ مِن الضروريِّ أن تَتصيَّد الحقيقةَ الأساسيةَ في السُّطور التي تقرؤها، مِن الضروريِّ أن تبحث عن «الحقيقة الأُمِّ»، وأن تَقِفَ عندها، وأن تَحفَظَها في الذَّاكرة؛ لأنها هي الأساس، وهي جِذْر المسائل.
• الأفكارُ لها أصولٌ ولها فروع؛ فعليك أن تَستخرِجَ الأصول؛ فإذا استخرجتَها فقَيِّدْها؛ لأنها هي الأساسُ الذي تبحث عنه.
• كنا نَحفظ، وكذلك أنتم تَحفظون، أن اليَدَ حين تَكتب جملةً كأن اليَدَ تَحفظُها مع العقل، ولذلك كان مشايخنا في «الكُتَّاب» لا يَقبلون منا أن نَحفظَ الواجبَ في المُصحف، وإنَّما لا بُدَّ أن نَكتبه بأيدينا، وكأن اليَدَ لا تَكتب ما تَكتب على الورق فقط، وإنَّما تَكتب ما تَكتب في القلب والعقل.
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «فمِن أين لنا أنَّه إذا فكَّر كان الفِكرُ منه فيها»، قال شيخُنا: العالِم حين يَهتدي إلى الجملة الجيِّدة الرَّائعة المليئة بالفِكْر، التي هي أصلٌ من أصول الفِكْر، تَجِدُ النَّفْسَ كأنها قد انتشتْ فانعكستْ نَشْوتُها على جُملتها.
• يا بُنيَّ، اعلمَنْ أن التدبُّر في العلم هو الذي يُنشئ العلم، وأنك قد تقرأ عِلمًا جليلًا بغفلةٍ فغَفلتُك تُمِيته.
• يا سيِّدنا، نُورُ عقلك يُضيء الكتابَ ولو كان مُظلِمًا، وظُلْمةُ عقلِك تُطفئ الكتابَ ولو كان مُشرقًا.
• ليس في حياتي كلِّها - وحياتي كلُّها في التدريس - أفضلُ مِن أن أُعلِّم طالبي كيف يتعلَّم، لا أريد أن أُعلِّمَه العلم؛ لأن العلمَ من المَهْد إلى اللَّحْد، وما دام من المَهْد إلى اللَّحْد وتوهَّمتُ أنا وتوهَّمتَ أنت أني أُعلِّمُك العلمَ فأنا واهمٌ وأنت واهم.
• العلمُ من المَهْد إلى اللَّحْد؛ فلا تَطلبْ أن تُعلِّم طلابَك العلم، وإنَّما عليك أن تُعلِّم طلابَك كيف يَتعلَّمون العلم.
• «فرعونُ» أضلَّ «الهلافيت»، وأيُّ «فرعون» يأتي بعد «فرعون» لن يُضِلَّ إلَّا «الهلافيت»، إنَّما العقولُ الحرَّة لا يَستطيع شيطانٌ أن يُضِلَّها: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}؛ لأنه ما دام استشعرَ العبودية لله فلن يستطيع الشيطانُ أن يَصِلَ إليه.
• مُخاطبًا حُضورَ الدَّرس، قال شيخُنا: أتفهمون كلامي؟! حتى لو لم تكونوا تَفهمون لا يَشغَلُني؛ لأن ما يَشغَلُني هو البلاغُ؛ لأن المصطفَيْن الأخيار قال لهم ربُّنا: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}، ونحن لسنا من المصطفَيْن الأخيار، ولا نَطمعُ في أن نسعى لأن نكون مِن خَدَم المصطفَيْن الأخيار؛ فليس علينا إلَّا البلاغ، وأنت حُرٌّ.
• اليهودُ رأوا «عيسى» وهو يَخلُق من الطين كهيئة الطير فيَنفخُ فيه فيكونُ طيرًا، ورأوا «عيسى» وهو يُبرئ الأكمَهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى، وقتلوه وصلبوه كما يعتقدون؛ فالقضيةُ ليست قضيةَ وصول دليل ولا وصول برهان، القضيةُ قضية عقلٍ يَقتنع بالدَّليل، القضيةُ قضيةُ عقلٍ يَقتنع بالبرهان.
• أنا أحبُّ أن أُدقِّق في الدَّقيق؛ لأني حين أُدقِّق في الدَّقيق سأتعلَّم الدقَّة وأصنع الدقَّة، وهذه هي تربيةُ العقل وتكوينُ العقل.
• لا أقرأ كتابًا إلَّا وأنا أنظر إلى مقدار ما يُحقِّقه في نفسي مِن نُموٍّ فكريٍّ، لا أسمع درسًا إلَّا وأنا أنظر إلى أي مدًى يَبني هذا الدرسُ خليةً مِن خلايا عقلي وفكري.
• عَرَفتُ الله بعقلي؛ فهذا العقلُ الذي عَرَفتُ به الله، والذي هداني إلى أفضلِ ما يَهتدي إليه الإنسان، وهو معرفةُ الله = مِن حقِّه عليَّ أن أعيشَ حياتي وأنْ أُنمِّيَ فيه.
• تدبُّرًا لقوله تعالى على لسان سيدنا موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، قال شيخُنا: إن كنتم قد تعلَّمتُم فعَلِّموا؛ لأن شرطَ التعلُّم أن تُعلِّم؛ حتى يكون عملُ الناس طبقًا لعِلْمِهم؛ لأن العملَ غيرُ المطابق للعلم يُفسِد ولا يُصلِح.
• الأمرُ العجيبُ والمُذهِلُ في «العربية»، الذي لا أعرف له سرًّا، أنني أجِدُ «العلم» و«العمل» مادةً لغويةً واحدةً؛ لأن «العلم» من غير «العمل» طاقةٌ معطَّلة، و«العمل» من غير «العلم» مجهودٌ ضائع.
• لمَّا دقَّقتُ في كلمتَي «العلم» و«العمل» وجدتُ أن اللام في «العلم» تَسْبِق، وأن حرف اللام في الهجاء يَسبِقُ حرفَ الميم؛ فدلَّ ذلك على أن «العلم» يَسبِقُ «العمل».
• حين فكَّرتُ في أن الله - تعالى - لم يُعاقب أبانا وأُمَّنا حين أكلا من الشجرة إلَّا بأن بَدَتْ لهما سَوْءاتُهما وطَفِقَا يَخصِفان عليهما مِن ورق الجنَّة، فَطِنتُ إلى أن الطاعة سَتْر، وأن المعصية مَنعٌ للسَّتر، وأدركتُ أن الحقَّ يقول لنا: استُروا أنفسَكم بالطاعات، ولا تَفضَحُوها بالمعصية.
• حين أسمعُ دعاءَ الصَّالحين بالسَّتر لا أفهمُ منه إلَّا معنًى واحدًا؛ هو البُعْدُ عن المعصية، أي: اجعلْ سِترًا بيني وبين المعصية، اجعلْ حجابًا بيني وبين المعصية.
• المهمُّ هو أن تَجِدَ في الكلام ما يُنمِّي الفِكْر، أن تَجِدَ دقائق؛ دقائقَ مِن فِكرٍ دقيق، ثم تُدقِّق أنت في الدَّقائق، فإذا دقَّقتَ في الدَّقائق وصلتَ إلى لَمحةٍ ممَّا يَعمَلُه الفِكرُ الدَّقيق، وربما كنتَ ذكيًّا، وربما أراد الله بك خيرًا فتنمو هذه اللَّمْحة.
• لا تزالُ تَنظرُ في الفكر الدَّقيق حتى تكون من صُنَّاع الفكر الدَّقيق، ولا تزالُ تَنظرُ في عمل الكِبار حتى تكون من الكِبار.
• لا تَعِشْ ولا عملَ لك إلَّا النَّظر في عمل الكِبار.. يا أخي، هل كتبَ الله عليك ألَّا تكون من الكِبار؟! لا، لا يَظْلِمُ ربُّك أحدًا، إنَّما عليك أن تُصاحِبَ الكبار لتكونَ يومًا ما من الكِبار، وهكذا تنمو الحياةُ وتَتَّسِع.
• عبدُ القاهر يُحذِّرك وهو يُعلِّمُك معلومةً محدودةً مِن أن تكون من الذين يُضرَبُ حِجابٌ بينهم وبين عقولِهم، وإنَّما يُعلِّمك أن تكون من الذين يُحسنون التفكيرَ في الصَّغير حتى يَنتهِيَ بهم إلى التفكير في الكبير.