الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن الحوار لأهميته تكرر كثيراً في القرآن، فالحوار هو سبيل إيصال الدين، وتعليم الجاهلين، وإقناع المعارضين، ومعرفة ما عند الآخرين، وهو القدرة على التفاعل المعرفي والعاطفي والسلوكي مع الناس، وبه يسهل تبادل الخبرات والمفاهيم بين الأجيال.
فلا عجب أن امتلأت دفتا المصحف بعرض مواضيع تتعلق بالحوار.
ولعل المتأمل في آي القرآن الكريم يلحظ أن الحوار ورد ذكره على خمسة أضرب، وقد يكتنف الضرب الواحد مدح وذم باعتبارات مختلفة:
- فقد جاء في القرآن ذكر الحوار على وجه العمومº سواء أكان ذلك بذكر نص لفظ الحوار أو مشتقاته، أو بذكر وصفه وما جرى فيه من أقوال للمتحاورين.
- ويأتي كذلك بذكر المجادلة.
- ويأتي بذكر المخاصمة، وأصل المخاصمة المنازعة، فإذا جاءت في الحوار دلت على نوع خاص من الجدال، وهو الذي يتنازع الحقَ فيه أكثر من طرف.
- ويأتي بذكر المحاجة، وهي ضرب من المخاصمة، فالتنازع في المخاصمة قد تكون معه محاولة الإتيان ببرهان، أو لا تكون، كأن يكون التنازع بنحو رفع الصوت، أو مجرد الادعاء، فإن كان التنازع عن طريق الإتيان بالحجج الناصرة لقول أحد المتحاورين كانت المحاجة إذ كل واحد من المتحاورين ينازع الآخر البرهان أو الحجة، ويزعم أن الحق حيث حج أو قصد.
- ويأتي بذكر المماراة، وهي مجادلة ومنازعة وطعن في قول الآخر تزيينًا للقول وتصغيرًا للقائِل بخلافه، ومنه قول الله تعالى: \"فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً\" والمراد: لا تجادل فيهم على نحو التجهيل والتعنيف (تمار)، إلاّ جدلاً وفق ما أظهرنا لك كقولك لهم: لا، لم يكون أصحاب الكهف ثلاثة ولاخمسة، وهذا القول فيه معنى المراء اللغوي لكونه يتضمن تكذيباً وتجهيلاً لمدعي خلافه، وقد خرج عن أصل المراء المذمومº لأنه لا مجال لتكذيب القرآن أو التساهل في تقرير ما قرر.
وكل هذه أقسام من أقسام الحوار وجميعها يحتاج إلى بسط وتفصيل وبحث لتعلم مواطن حمدها، ومواضع ذمها، ولعلي أقف اليوم مع المجادلة لأبين كيف تكون وجهاً من أوجه الحوار الهادئ، ومتى تكون ضرباً من الخصام الذي يذم أهله.
ومع التنبيه على أن أغلب ما تجيء المجادلة في النصوص الشرعية بمعنى المناقشة والخصام.
وأصل المجادلة من الجدل: وهو أصل واحد يفيد استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، كامتداد الخصومة ومراجعة الكلام(1).
ومن هنا نخلص إلى أن المجادلة على معنيين يقتضي جميعهما أصل المادة:
1- الاسترسال في النقاش، ومراجعة الكلام مطلقاً بغير خصومة.
2- الاسترسال في مراجعة الكلام لأجل المخاصمة أو الشقاق أو المخالفة، وهذا الإطلاق في القرآن هو الأكثر.
أما الإطلاق الأول: وهو أن تأتي المجادلة للاسترسال في النقاش (مراجعة الكلام)، فكما في قول الله تعالى: \"قَد سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوجِهَا وَتَشتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسمَعُ تَحَاوُرَكُمَا\" (المجادلة: من الآية1).
عبر بهذا اللفظ لا لكونها تطيل في الخصام وهو المعنى الذي غلب إطلاقه على الجدال، ولكن لكونها استرسلت في النقاش، وقد أورد ابن كثير في تفسير الآية:
\"عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس وكان تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة فظاهر منها فأسقط في يديه، قال: ما أراك إلا قد حرمت علي، وقالت له مثل ذلك قال فانطلقي إلى رسول الله لى الله عليه وآله وسلمفأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فقال: يا خويلة ما أمرنا في التابعين بشيء فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
- فقال: \"يا خويلة أبشري\".
- قالت: خيراً.
- قال: فقرأ عليها \"قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما\"، إلى قوله تعالى: \"والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا\".
- قالت: وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري.
- قال: \"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين\".
- قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره.
- قال: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
- قالت: من أين ما هي إلا أكلة إلى مثلها.
- قال: فدعا بشطر وسق ثلاثين صاعاً، والوسق ستون صاعاً، فقال: ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك.
وهذا إسناد جيد قوي وسياق غريب وقد روي عن أبي العالية نحو هذا...\".
لهذا الاسترسال في النقاش والمراجعة، جاء التعبير القرآني: \"تجادلك في زوجها\"، ونسب المجادلة لها، لكون استرسالها في الكلام هو الذي سبب استرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجواب وأنشأه. والله أعلم
وقد قرئ: \"تحاورك\" أي: تراجعك الكلام. وتحاولك، أي: تسائلك.
وهذا النوع من المجادلة لا ينهى عنه ولا يذم، طالماً أن الاسترسال في النقاش كان لمقتض صحيح.
أما الإطلاق الثاني: والذي يتضمن معنى المخالفة، أو المخاصمة، أو الشقاق، أو المحاجة، فهو الأكثر، وأمثلته أكثر من أن تحصر في هذا المقام ومنها:
\"وَلا تُجَادِل عَنِ الَّذِينَ يَختَانُونَ أَنفُسَهُم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً\" (النساء: 107).
أي لا تجادل فتخاصم(2) عن الذين يخونون أنفسهم..
\"يَومَ تَأتِي كُلٌّ نَفسٍ, تُجَادِلُ عَن نَفسِهَا وَتُوَفَّى كُلٌّ نَفسٍ, مَا عَمِلَت وَهُم لا يُظلَمُونَ\" (النحل: 111).
أي تخاصم(3) وتحاج عن نفسها.
\"وَلا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ\" (العنكبوت: من الآية46).
أي لا تحاجوا ولا تخاصموا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن، ولهذا قال الطبري: قال ابن زيد في قول الله - عز وجل -: \"لا حُجَّةَ بَينَنَا وَبَينَكُمُ\" (الشورى: من الآية15) لا خصومة بيننا وبينكم، وقرأ \"وَلا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ\"(4).
والخلاصة أن المجادلة قسمان:
الأول: الاسترسال في النقاش أو مراجعة الكلام، والأصل في هذه الجواز طالما أن الاسترسال لمقتض صحيح.
الثاني: المخاصمة والمحاجة التي تنشأ عن شقاق ومخالفة، وهذه أكثر ما تطلق في القرآن للباطل، وتكون جدلاً مذموماً، ويجوز إطلاقها في الحق وهو قليل وتكون حينها جدلاً مشروعاً.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الجدال عن دينه وشرعه بالتي هي أحسن، وأن يثبت حجتنا، ويسدد ألسنتنا، ويهدي قلوبنا، ويسلل سخائم صدورنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 189.
(2) تفسير ابن جرير الطبري 5/270، والقرطبي 5/377.
(3) القرطبي 10/193، والطبري 14/185.
(4) تفسير الطبري 25/18.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد