قال ابن القيم – رحمه الله -: \"فصل في بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية\"
1- اعتمار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - في شهر الحجِّ، فإنه خرج إليها في ذي القعدة.
أن الإحرام بالعمرة من الميقات أفضل، كما أن الإحرام بالحجِّ كذلك، فإنه أحرم بهما من ذي الحُليفة، وبينها وبين المدينة ميل أو نحوه، وأما حديث \" من أحرم بعمرة من بيت المقدس، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر\" وفي لفظ: \" كانت كفارة لما قبلها من الذنوب\" رواه أبو داود رقم( 1741), كتاب المناسك، باب المواقيت قال شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط: في سنده مجهولان. راجع حاشية \"زاد المعاد\" (3/301).
2-فحديث لا يثبت، وقد اضطرب فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً.
3-أن إشعار الهدي سنة لا مُثلَةٌ منهي عنها.
4-استحباب مغايظة أعداء الله، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - أهدى في جُملة هديه جملاً لأبي جهل في أنفه بُرَةٌ مِن فضةٍ, يغيظُ به المشركين، وقد قال –تعالى- في صفة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - وأصحابه: {وَمَثَلُهُم فِي الإِنجِيلِ كَزَرعٍ, أَخرَجَ شَطأَهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعجِبُ الزٌّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ}(29) سورة الفتح. وقال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُم لاَ يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِن عَدُوٍّ, نَّيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ}(120) سورة التوبة.
5-ينبغي لأمير الجيش أن يبعث العيون أمامه نحو العدو.
6-أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزةٌ عند الحاجةº لأن عيينة الخزاعيَّ كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقربُ إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم.
7- استحباب مشورة الإمام رعيَّته وجيشه، استخراجاً لوجه الرأي، واستطابةً لنفوسهم، وأمناً لِعَتبهم، وتعرفاً لمصحلةٍ, يختصٌّ بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالاً لأمر الرب في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر}آل عمران 159. وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله: {وأمرهم شورى بينهم}الشورى:38.
8- جواز سبي ذراري المشركين إذا انفردوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال.
ردٌّ الكلام الباطل ولو نسب إلى غير مُكَلَّفٍ,، فإنهم لما قالوا: خلأتِ القَصوَاءُ، يعني حرنت، وألحَّت، فلم تَسِر، والخِلاء في الإبل بكسر الخاء والمدِّ، نظير الحِيران في الخيل، فلما نسبُوا إلى الناقة ما ليس من خُلُقِهَا وطبعها، ردَّهُ عليهم، وقال: \"ما خَلَأَت وما ذاك لها بخُلق\" وروى البخاري الفتح، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ، رقم(2581)
9-، ثم أخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - عن سبب بروكها، وأن الذي حَبَسَ الفيلَ عن مكة حبسها للحكمة العظيمة التي ظهرت بسبب حبسها، وما جرى بعده.
10- أن تسميةَ ما يُلابسه الرجلُ مِن مراكبه ونحوها سنة.
11- أن المشركين، وأهل البدع والفجور، والبُغاة والظلمة، إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمةً من حُرُمات الله –تعالى-، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله -تعالى-، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكلٌّ من التمس المعاونة على محبوب لِلِه –تعالى- مُرضٍ, له، أجيبَ إلى ذلك كائِناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوضٌ لله أعظم منه، وهذا مِن أدقِّ المواضع وأصعبِهَا، وأشقِّهَا على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال، حتى عمل له أعمالاً بعده.
12- جوازُ ابتداءِ الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصحلةَ للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداءُ الطلب منهم.
13- احتمالُ قِلَّةِ أدب رسول الكفار، وجهله وجفوته، ولا يقابل على ذلك لما فيه من المصحلة العامة، ولم يُقابل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - عُروةَ على أخذه بلحيته وقت خطابه، وإن كانت تلك عادة العرب، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك.
14- استحبابُ التفاؤل، وأنَّهُ ليس مِن الطيرة المكروهة، لقوله لما جاء سُهيل: \"سَهُلَ أَمرُكُم\".
15- أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه من ضيم ٌعلى المسلمين جائزةٌ للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفعُ أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.
16- أن الحِلاقَ نُسُكٌ، وأنه أفضلُ من التقصير، وأنه نُسُكٌ في العمرة، كما هو نُسُكٌ في الحجِّ، وأنه نُسُكٌ في عمرة المحصور، كما هو نسك في عمرة غيره.
17- أن المُحصَرَ ينحرُ هديَه حيثُ أُحصِرَ من الحِلِّ أو الحرَم، وأنه لا يجب عليه أن يُواعِدَ من ينحرُهُ في الحرم إذا لم يَصِل إليه, وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله، بدليل قوله –تعالى-: {والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} الفتح 25.
18- أن الموضع الذي نحر فيه الهدي، كان من الحِلِّ لا من الحرمº لأن الحرم كُلَّهُ محلٌّ الهدي.
19- أن المُحصَرَ لا يجب عليه القضاءُº لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - أمرهم بالحلق والنحر، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، والعمرة من العام القابل لم تكن واجبة، ولا قضاء عن عمرة الإحصار، فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفاً وأربعمائة، وكانوا في عمرة القضية دون ذلك وإنما سُمِّيت عُمرةَ القضية والقضاءº لأنها العمرة التي قاضاهم عليها، فأُضيفت العُمرة إلى مصدر فعله.
20- أن الأصل مشارَكَةُ أُمَّتِه له في الأحكام، إلا ماخصَّه الدليلُ، ولذلك قالت أم سلمة: \"اخرُج ولا تكلم أحداً حتى تحلق رأسك وتنحر هديك\"، وعلمت أن الناس سيتابعونه.
21- جوازُ صُلحِ الكُفَّارِ على ردِّ من جاء منهم إلى المسلمين، وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء، فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب.
22- أن رد من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خرج منهم مسلماً إلى غير بلد الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه رده بدون الطلب، فإن النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-لم يُردَّ أبا بصير حين جاءه، ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لما جاؤوا في طلبه، مكَّنهم من أخذه ولم يكرههُ على الرجوع.
23- أن المعاهدين إذا تسلَّموه وتمكَّنُوا منه فقتل أحداً منهم لم يضمنه بديةٍ, ولا قَوَدٍ,، ولم يضمنه الإمام، بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحُلَيفَةِ، وهي مِن حُكم المدينة، ولكن كان قد تسلموه، وفُصِل عن يد الإمام وحكمه.
24- أن المعاهدين إذا عاهدو الإمام، فخرجت منهم طائفة، فحاربتهم، وغَنِمَت أموالهم، ولم يَتَحَيَّزُوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعهم عنهم، ومنعهم منهم، وسواء دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه، أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي -صلى الله عيه وسلم- وبين المشركين، لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد، جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنمَ أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخُ الإسلام في نصارى مَلَطيَةَ وسبيهم، مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين. راجع \" زاد المعاد\" 3/ 300- 309.
25- بيان مدى إجلال الصحابة للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -، الأمر الذي أدهش سفير المشركين عروة بن مسعود فحذر لذلك قريشاً وقال: \"رُوا رأيكم\"!!!
26- تجلّي الكمال المحمدي في عفوه عن الأربعين مجرماً الذين أُلقى القبض عليهم حول المعسكر وهم يرمونه بالحجارة والنبل أيضاً، وهو موقف مشرّف كان له أثر طيب في اتفاقيّة الهدنة المباركة.
27- بيان فضيلة عثمان في كونه لم يرض أن يطوف بالبيت دون رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-، وفي بيعة الرسول له وهو غائب.
28- بيان فضل أهل بيعة الرضوان إذ هم في الدرجة الثانية بعد أهل بدر قال تعالى فيهم: {لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحًا قَرِيبًا}(18) سورة الفتح.
29- بيان فضل عمر بن الخطاب المتجلي في توبته الطويلة الأمد من أجل كلماته التي قالها وهي حق، إلا أنها اصطبغت بصيغة شبه المعارضة في قضية عامة.
30- من الحكمة أن يتنازل المرء عن أشياء لا تضر بأصل قضيته لتحقيق أشياء أعظم منها.
31- فضل علي – رضي الله عنه- في كتابته الوثيقة، وعدم اعتراضه على ما اعترض عليه فيها غيره من الأصحاب.
32- وجوب الوفاء بالعهود، وحرمة الغدر والخيانة.
33- بيان حكم المهاجرات من النساء المؤمنات، وأنهن لا يرجعن إلى ديار الكفر بعد خروجهن منها. راجع \"هذا الحبيب يا محب\" ص 348- 349.
34- أن صلح الحديبية كان مقدمة بين يدي فتح مكة. فقد كانت هذه الهدنة – كما يقول ابن القيم – باباً له ومفتاحاً. وتلك هي عادة الله -سبحانه وتعالى-، يوطِّئ بين يدي الأمور التي تعلقت إرادته بإنجازها، مقدمات تؤذن بها وتدل عليها.
35- أن الله جلّت قدرته إنما أراد أن يجعل فتح مكة لنبيّه فتح مرحمة وسلم، لا فتح ملحمة وقتال، فتحاً يسارع الناس فيه إلى دين الله أفواجاً، ويقبل فيه أولئك الذين آذوه وأخرجوه، يلقون إليه السلم، ويخضعون له الجانب مؤمنين آيبين موحدين.
36- التوسل والتبرك بآثار النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-، قلنا إن عروة بن مسعود، جعل يرمق أصحاب النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-بعينيه، قال: \"فوالله ما تنخّم رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدٌّون النظر إليه تعظيماً له\". راجع\" فقه السيرة \" محمد سعيد رمضان البوطي ص 234- 238.
مصادر الغزوة:
\"الرحيق المختوم\" للمباركفوري (378-390)، و\"عيون الأثر في سيرة خير البشر\" لابن سيد الناس (2/160-180)، و\"سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد\" للصالحي (5/33-94)، و\"زاد المعاد\" لابن قيم الجوزية (3/279-316)، و\"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية\" لمهدي رزق الله أحمد (481-496).
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد