بدايةُ تجمع الصحابةِ حولَ الرَّسُولِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-:
وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال لم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعوا صوته -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- حَتَّى أسرعوا إليهº لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ما لقي من الجراحات - وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح - فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته. وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-.
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-،فكنت أول من فاء إلى النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-،فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت: كن طلحة،فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، ( حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجل من قومي أحب إلي ) فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حَتَّى لحقني، فدفعنا إلى النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-،فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- :\" دونكم أخـاكم فقـد أوجب \"،وقد رُمي النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في وَجنَتِهِ حَتَّى غابت حلقتان من حلق المِغفَر في وجنته،فذهبتُ لأنزعهما عن النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-,فقال أبو عُبيدة: نشدتُكَ بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال: فأخذ بفيه فجعل ينضِنـضه كراهيةَ أن يؤذيَ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-،ثم استلَّ السهم بفيه، فنَدَرَت ثنيةُ أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال: فأخذه فجعل ينضضه حَتَّى استَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- :\" دونكم أخاكم، فقد أوجب \"، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة(1) . وفي تهذيب تاريخ دمشق : فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر، بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه.
وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة،ومصعب بن عمير، وعلى بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري،وأم عمارة نُسَيبة بنت كعب المازنية، وقتادة ابن النعمان،وعمر بن الخطاب،وحاطب بن أبي بلتعة،وأبو طلحة.
تضاعف ضغط المشركين:
كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حَتَّى سقط رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَت ركبته، وأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حَتَّى استوي قائماً، وقال نافع بن جبير: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك(2).
البطولات النادرة:
وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو. قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجَعبَة من النبل فيقول:\" انثرها لأبي طلحة \" ، قال: ويشرف النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحرِي دون نحرك. البخاري، الفتح، كتاب المناقب، باب مناقب أبي طلحة، رقم (3811).
وعنه أيضاً قال: كان أبو طلحة يتترس مع النَّبيّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرَّمي، فكان إذا رمي تشرف النَّبيّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ، فينظر إلى موضع نبله . البخاري ، الفتح، كتاب الجهاد والسير، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه، رقم (2902).
وقام أبو دُجَانةَ أمام رسولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-، فَتَرَّسَ عليه بظهره. والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص-الذي كسر الرَّباعية الشريفة-فضربه بالسيف حَتَّى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه - عتبة هذا - إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين.
وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان: أن رسول الله رمي عن قوسه حَتَّى اندقت سِّيتُها(3) ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حَتَّى وقعت على وَجنَتِه، فردها رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-بيده، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حَتَّى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-حَتَّى أنقاه،فقال: \" مُجَّه\" ، فقال: والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل، فقال النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- :\" من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا \" ، فقُتل شهيداً. تفسير ابن كثير(1/418) وكتاب السنن، للخراساني(2/261).
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حَتَّى أصابها اثنا عشر جرحاً.
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حَتَّى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حَتَّى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حَتَّى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله - لشبهه به - فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح: إن محمداً قد قتل(4).
إشاعة مقتل النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-,وأثره على المعركة:
ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حَتَّى شاع خبر مقتل النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في المشركين والمسلمين. وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-، وانهارت معنوياتهم، حَتَّى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركينº لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين.
الرسول-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-يواصل المعركة وينقذ الموقف:
ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة، يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك - وكان أول من عرفه-فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-،فأشار إليه أن اصمت-وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون- إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حَتَّى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلاً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهمº لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام .
تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة - أحد فرسان المشركين-إلى رسولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-وهو يقول: لا نجوت إن نجا.وقام رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-.
وعطف عبد الله بن جابر-فارس آخر من فرسان مكة -على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حَتَّى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة-البطل المغامر ذو العصابة الحمراء - على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حَتَّى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه(5).
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبةـ في انسحاب منظم ـ إلى شِعبِ الجبل،وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون،فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقريةِ رسولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- .
1 - زاد المعاد 2/95.
2 - زاد المعاد 2/ 97.
3 - ما عطف من طرفيها
4 - انظر ابن هشام 2/ 73، 80، 81، 82، 83، وزاد المعاد 2/97.
5 - البخاري، الفتح، كتاب المغازي، باب (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا). رقم (4068).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد