قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في أحداث سنة إحدى عشرة من الهجرة: استهلت هذه السنة وقد استقر الركابُ الشريف النبوي بالمدينة النبوية المطهرة، مرجعه من حجة الوداع.
وقد وقعت في هذه السنة أمورٌ عظام، من أعظمها حطباً وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه عليه السلام نقله الله -عز وجل- من هذه الدار الفانية إلى النعيم المقيم الأبدي، في محلة عالية رفيعة، ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى، كما قال تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى}الضحى: 4-5، وذلك بعد ما أكمل أداء الرسالة التي أمره الله بإبلاغها ونصح أمته، ودلهم على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ونهاهم عما فيه مضرة لهم في دنياهم وآخراهم(1).
لقد كانت وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعظم حدث مر بالمسلمين فأذهل عقولهم، وزلزل أركانهم، وأفقدهم الوعي والفكر والفهم.
قال الحافظ ابن رجب: ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقِل لسانه فلم يُطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية(2).
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي: بعد أن استأثر الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد أكمل له ولنا دينه، وأتم عليه وعلينا نعمته، كما قال تعالى: {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}المائدة: 3. وما من شيء في الدنيا يكمُلُ إلا وجاءه النقصان ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة، وذلك العمل الصالح والدار الآخرة فهي دار الله الكاملة.
واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي -صلى الله عليه وسلم- قاصمة الظهر ومصيبة العمرº فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر(3) وقال: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم أو الشركة فيه مع المهاجرين، وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف(4).
وقد بين الحافظ ابن كثير عظم الخطب وشدة البلاء واضطراب الأمر فقال مصوراً حال المسلمين: فاشتدت الرزيةُ بموته -صلى الله عليه وسلم- وعظُم الخطب، وجلَّ الأمر وأصيب المسلمون بنبيهم، وأنكر عمر بن الخطاب ذلك، وماج الناس، وجاء الصديق المؤيد المنصور -رضي الله عنه- أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فأقام الأوَد(5)، وصدع بالحق وخطب الناس(6).
قال ابن عبد البر: ولم يصدق عمر بموته، وأنكر على من قال: مات وخرج إلى المسجد، فخطب وقال في خطبته: إن المنافقين يقولون: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي، والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجالٍ, وأرجلهم، زعموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات(7).
وأخرج ابن سعد عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس!! فكنت ممن حزن عليه، فبينا أنا جالس في أُطم من آطام المدينة(8) -وقد بويع أبو بكر- إذ مر بي عمر فسلم علي فلم أشعر به لما بي من الحُزن(9).
وقال أبو ذؤيب الهذلي: قدمت المدينة، ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه!! فقالوا: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لقد حزن عليه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه حزناً شديداً وكانت الواقعة عليهم عظيمة، لم يطق بعضهم أن يتحمل تلك الصدمة التي تلقها عندما سمعوا بموت حبيبهم الذي كانوا يجالسونه ويسمعون كلامه، ويتلوا عليهم آيات ربهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرج معم للقتال ويشاركهم في شؤون حياتهم، وبفقده فقد انتهى ذلك كله.حقاً إنها لمصيبة عظيمة، وخطب جلل، عليهم وعلى الأمة جميعاً أولها وآخرها.
وكيف لا تكون كذلك وهو الرحمة المهداة، والبشير النذير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبودية المخلوقات إلى عبودبة رب الأرض والسماوات، ولكن التسليم لقضاء الله وقدره يجعل المؤمن راضياً بما قضى ويستسلم لما نزل.
ولم يصب المؤمن بمصيبة مثل ما أصيب بموت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مُصابه بي فإنها أعظم المصائب)(10).
وقال ابن رجب: كل المصائب تهون عند هذه المصيبة... قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله اتق الله، فإن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة.
تذكــــــرتُ لمـــا فــرقَ الدهــرُ بيننـــا |
*** |
فعـزيــتُ نفســـي بالنــبي مـحمــــد |
وقـلــــتُ لـــهـا إنَّ المنـــــايا سـبيلنـــا |
*** |
فمـن لم يمـت في يومه مات في غد |
كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول، فكيف بقلوب المؤمنين!!
لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه وصاح كما يصيح الصبي، فنزل إليه فاعتنقه، فجعل يُهَدَّى(11) كما يُهَدَّى الصبي الذي يُسَكَّن عند بكائه فقال: (لو لم أعتنقه لحن إلى يوم القيامة)(12).
كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه(13)، وروي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دفن ترك بلال الأذان.
وتُلفِتُ أم أيمن نظرنا إلى أمر آخر عظيم أصيب به المسلمون بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو انقطاع الوحي من السماء، قال أبو بكر لعمر -رضي الله عنهما-: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقال لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها(14).
وذكر موسى بن عقبة في قصة وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أن الناس رجعوا حين فرغ أبو بكر من خطبته وأم أيمن قاعدة تبكي، فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن؟ قد أكرم الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا، فقالت: إنما أبكي على خبر السماء، كان يأتينا غضاً جديداً كل يوم وليلة فقد انقطع ورفع وعليه أبكي... فعجب الناسُ من قولها(15).
1 - البداية والنهاية (5/189).
2 - لطائف المعارف ص (114).
3 - أهجر: يقال: أهجَر في منطقة يَهجِرُ إهجاراً إذا أفحَش وكذلك إذا أكثَر الكَلام فِيما لا يَنبَغي والاسم الهُجرة بالضَّم وهَجَر يَهجُر هَجراً بالفتح إذا خَلَط في كلامِه وإذا هَذّى. النهاية (5/244).
4 - العواصم من القواصم ص (57-59).
5 - الأود: العوج. الفائق (1/30).
6 - الفصول في سيرة الرسول ص (150).
7 - الدرر في اختصار المغازي والسير ص (330، 331)، وأخرج خطبة عمر: الدارمي في سننه (52-53)، وابن سعد (2/266)، وعبد الرزاق في المصنف (5/433-434).
8 - أطم: الأطم بالضم: بناء مرتفع، وجمعه آطام. النهاية (1/54).
9 - الطبقات الكبرى (2/84).
10 - أخرجه الدارمي (1/53) رقم (84، 85)، وابن سعد (2/275) وصححه الألباني لشواهده كما في السلسلة الصحيحة رقم (1106).
11 - يهدى: أي يهدَّأ.
12 - أخرجه أحمد في المسند (1/249، 267، 363)، والحديث أصله في البخاري كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام رقم (3584)، والترمذي (5/554) رقم (3627).
13 - فتح الباري (6/602).
14 - أخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أم أيمن (4/1907) رقم (2454).
15 - دلائل النبوة للبيهقي (7/266).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد