ومن كتب الشيعة التي انحرفت عن المنهج الحق في التعامل مع السيرة كتابُ اليعقوبيِّ المسمى\"تاريخ اليعقوبيِّ\"
وقد قسمه إلى قِسمينِ:
القسم الأول : في التاريخ القديم, وقد تحدَّث فيه عن بدءِ الخليقةِºآدم-عَلَيهِ السَّلامُ - وأولاده من بعده حَتَّى عهد نوح وحدوثِ الطٌّوفان , ثم ساق تاريخَ الأنبياءِ على ترتيبِ بعثتِهم إلى عيسى بن مريم . ومعلوماتُهُ عن تاريخ الأنبياء اعتمد فيها على القصص الشعبيِّ , والإسرائيليات اليهودية والنصرانية ، وقد نقل من التوراة مُباشرةً ، ومن الأناجيل التي بأيدي النَّصارى في عهدِهِ,وساقَ اختلافاتها في ولادةِ المسيح عيسى بن مريم , ولم يعتمد على القرآنِ الكريمِ , ولا السنة النبوية - اللذين هما المصدرُ الصَّحيحُ السالم من التحريفِ والتزيدِ - ، وإنَّما أشارَ إشارات مُجملةً بمثلِ قولِهِ عن سُليمان\" (1) وأتاه مُلكاً عظيماً كما قصَّ في كتابِهِ العزيزِ\" , وقوله عن مريم , فكان من خبرِها ما قصَّهُ اللهُ - عَزَّ وجَلَّ -\" (2). وبعد ذكر الأنبياءِ تحدَّث في إيجازٍ, عن تاريخ الممالك التي قامت في الزَّمنِ القديم مثل السٌّريانيين , والبابليين والهنود,واليونانيين , والروم , والفرس , والصين , وممالك الجربي في أرمينية والخزر, وممالك الصين والقبط بمصر , والبربر , والحبشة , والسودان , وممالك العرب في اليمن , والشام , والحيرة ، ثم ذكر ولدَ إسماعيلَ وتسلسلهم , ثُمَّ ذَكَرَ أخباراً عن حُكَّامِ العَرَبِ , وشعراء العرب , وأسواقهم , وأزلامهم.
وحديثه عن هذه الممالكِ يجمعُ بين القصص التاريخيِّ والوصف الجغرافيِّ مع التركيزِ على الناحيةِ الدِّينيةِ ونوع ديانتهم,وعن تاريخهم الذي يُؤرِّخون به , وعلى ما لديهم من عُلُومٍ, وحِكمَةٍ, , وما اختصٌّوا به مِن ذلك , ويستطردُ في ذكرِ مؤلَّفاتهم و الموضوعاتِ التي بحثتها هذه الممالكُ , وبخاصة اليونان(3) والهنود(4). وقد عرضَ ذلك بإعجابٍ, وإكبارٍ, لما عند القومِ من علومِ الحِكمَةِ والفلسفةِ ، وقد صَرَّحَ بمصادرِهِ في تاريخِ فارسٍ, وانتقدها , وذكر مصادرَهُ في تاريخِ الصِّينِ(5).
أما القسم الثاني : من الكتاب فهو يبدأ من مولدِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - . فذكر سيرته ومغازيه وسراياه في إجمالٍ, مُركَّزٍ, ، وقد سَرَدَ أخبارَ التاريخ الإسلاميِّ على حسب توالي الخلفاء ، فذكر الحوادثَ الهامَّةَ في حياة كلِّ خليفةٍ, , وقد ذكر في مقدمة هذا القسم من تاريخه شيئاً من منهجِهِ ، فقال : \"ألفنا كتابَنا هذا على ما رواه الأشياخُ المتقدِّمُون من العلماء والرٌّواةِ وأصحاب السير والأخبار والتاريخ ، ولم نذهب إلى التفرد بكتابٍ, نصنفُهُ , لكنا ذهبنا إلى جمعِ المقالاتِ والرِّواياتِ º لأنا وجدناهم قد اختلفُوا في أحاديثِهم وأخبارِهم , وفي السنين والأعمالِ \"فكأنه أرادَ أن ينتقيَ على هواه مِن مجموعِ ما وصلَهُ , ولم يُكلِّف نفسَهُ بذكرِ رواياتِهم واختلافاتِها , ومحاولة الترجيح º ليكون القارئُ على بيِّنةٍ, من كيفيةِ التَّرجيحِ , ومعرفةٍ, بالرِّواياتِ وأسماء رواتِها , وإنَّما اختارَ هو وسَجَّل اختيارَهُ .
وقد سَمَّى مصادرَهُ في هذا القسمِ من الكتابِ,وهم أحد عشر إخبارياً,ومنجمان اثنان هما: موسى الخوارزمي المنجم ، وما شاء الله الحاسب، وقد أخذ عنهما الطَّوالعَ والنٌّجومَ التي يذكرُها عند تولِّي كُلِّ خليفةٍ,,أو وفاته,وعندَ ولادةِ كُلِّ شخصٍ, عظيمٍ,,أو وفاته,كما فعلَ عند ولادةِ الحسينِ بن علي,وعند مقتلِهِ,وكذلك بقية الأئمةِ الاثناعشر عند الشيعة الإمامية 6 , وقد اعتنى بإبرازِ وفياتِهم,وذكر جُمَلٍ, من أقوالِهم وحِكَمِهم، أما تاريخ الفترة التي عاصرها, فقد يأخذُ عن مصادرَ مباشرةٍ, ذكر بعضَها, ومن عادتِهِ أن يذكر في ترجمة كلِّ خليفةٍ, مَن كان أكثرَ حظوةٍ, عنده, ومَن هُو صاحبُ شرطتِهِ، كما يُقدِّمُ قوائم بأسماء مَن أقامُوا الحَجَّ للنَّاسِ, وقوائم بأسماءِ الفقهاءِ والعُلماءِ الذين كانُوا في عهدِ الخليفةِ, ويحرِصُ على ذكرِ اسمِ أُمِّ الخليفةِ وعددِ أولادِهِ ويُسمِّيهم، كما أنَّهُ يذكرُ الحوادثَ الشَّامِلةَ كالمجاعاتِ, والأمراضِ, والزلازل. وقد اقتصر اهتمامُهُ في التركيز على تاريخِ الخلافةِ في المشرقِ, ولم يذكرِ الدَّولةَ الأُمويةَ في الأندلسِ.
عقيدة اليعقوبي:
عرض اليعقوبيٌّ تاريخَ الدولةِ الإسلاميةِ من وجهةِ نظرِ الشيعةِ الإماميةِ, فهو لا يعترفُ بالخلافةِ إلا لعليِّ بنِ أبي طالبٍ, وأبنائه, حسب تسلسل الأئمةِ عندَ الشِّيعةِ، ويُسمِّي علياً بالوصي.وعندما أرَّخَ لخلافةِ أبي بكرٍ,,وعمر,وعثمان,- رَضِيَ اللهُ عَنهُم - لم يُضِف عليهم لقبَ الخلافةِ, وإنما قال: تولَّى الأمرَ فلانٌ.., ثم لم يترك واحِداً منهم دُونَ أن يطعنَ فيه، وكذلك كبار الصَّحابَةِ, فقد ذَكَرَ عن عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عَنهُا- أخباراً سيئةً, وكذلك عن خالدِ بنِ الوليدِ, وعمرو بن العاص, ومعاويةَ بن أبي سفيان. وعَرَضَ خبرَ السَّقيفةِ عَرضاً مُشيناً ادَّعى فيه أنه حصلت مؤامرةٌ على سَلبِ الخلافةِ مِن عليِّ بنِ أبي طالبٍ,- رَضِيَ اللهُ عَنهُ- الذي هُو الوصيٌّ في نظرِهِ، وبلغَ به الغُلو إلى أن ذَكَرَ أنَّ قولَ اللهِ - تعالى- :{اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة. قد نزلت على أميرِ المؤمنينَ عليِّ بن أبي طالبٍ, - صلوات الله عليه- يومَ النَّفرِ\" (7). وطريقتُهُ في سياقِ الاتهاماتِ هي طريقةُ قومِهِ من أهلِ التشيعِ والرَّفضِ, وهي إما اختلاق الخبر بالكلية, أو التزيد في الخبر, والإضافة عليه, أو عرضه في غير سياقه ومحله حَتَّى يتحرَّفَ معناه. ومن الملاحظ أنه عندما ذكر الخلفاء الأُمويين وصفهم بالملوك, وعندما ذكر خلفاءَ بني العَبَّاس وصفهم بالخلفاء، كما وصف دولتَهم في كتابه البلدان باسم الدولة المباركةº مما يعكس نفاقَهُ وتستره وراء شعار التقية,وهذا الكتابُ يُمثِّلُ الانحرافَ والتشويه الحاصلَ في كتابةِ التَّاريخِ الإسلاميِّ, وهو مرجعٌ لكثيرٍ, من المستشرقين والمستغربينَ الذين طعنُوا في التَّاريخِ الإسلاميِّ وسيرة رجاله. مع أنه لا قيمة كبيرة له من الناحية العلمية إذ يغلب على القسم الأول: القصص, والأساطير, والخرافات. والقسم الثاني: كُتِبَ من زاويةِ نَظَرٍ, طائفيةٍ, حزبيةٍ,, كما أنه يفتقدُ مِنَ النَّاحيةِ المنهجيةِ لأبسطِ قواعدِ التَّوثيقِ العلميِّ(8).
نماذج من كتاب اليعقوبي:
النموذج الأول:
\" وكان أول صارخة، صرخت في المدينةِ أُمٌّ سَلَمَةَ زوجُ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- , كانَ دفع إليها قارورةً فيها تربةٌ، وقال لها: إنَّ جبريلَ أعلمني أنَّ أُمَّتي تقتلُ الحسينَ، وأعطاني هذه التٌّربةَ، وقال لي: إذا صارت دَمَاً عَبِيطاً, فاعلمي أنَّ الحسينَ قد قُتل، فلما حضر ذلك الوقتُ جعلت تنظرُ إلى القارورةِ في كُلِّ ساعةٍ,، فلمَّا رأتها صارت دماًº صاحت واحسيناه، وابن رسول الله، وتصارخت النِّساءُ من كُلِّ ناحيةٍ,, حَتَّى ارتفعت بالمدينةِ الرَّجَّةُ التي ما سُمِعَ بمثلِها قَطٌّ \"تاريخ اليعقوبيِّ (2/246).
النموذج الثاني:
\" وبلغ عثمانَ أنَّ أبا ذَرٍّ, يقعدُ في مسجدِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - ويجتمع إليه الناسُ، فيحدث بما فيه الطَّعنُ عليه، وأنه وقف ببابِ المسجدِ, فقال: أيها الناس, مَن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني, فأنا أبو ذَرٍّ, الغفاري, أنا جُندُب بن جُنَادة الرَّبَذِيٌّ، إنَّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، محمد الصفوةُ من نوحٍ,، فالأول من إبراهيمَ، والسلالة من إسماعيلَ، والعترةُ الهادية من محمدٍ,، إنه شرفُ شريفهم، استحقوا الفضلَ في قومٍ,, هم فينا كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجرة الزيتونة، أضاء زيتها، وبُورك زبدها، ومحمد وارثُ علمِ آدمَ،وما فضل به النَّبيّون, وعلي بن أبي طالب وصيٌّ محمدٍ,, ووارثُ علمِهِ.
أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها, أما لو قدَّمتم مَن قَدَّم اللهُ وأخَّرتُم مَن أخَّر اللهُ، وأقررتم الولايةَ والوراثةَ في بيتِ نبيِّكمº لأكلتم من فوق رؤوسِكم ومن تحت أرجلِكم، ولما عال ولي الله, ولما طاش سهمٌ من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حُكمِ الله, إلا وجدتم علمَ ذلك عندهم، من كتابٍ, وسنةِ نبيِّه، فأما إذ فعلتُم ما فعلتُم فذوقُوا وبالَ أمرِكم، وسيعلمُ الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ, ينقلبون \" تاريخ اليعقوبي (2/171).
يقول الدكتور السلمي- تعليقاً على الكلام السابق- : هذه الخطبة المنسوبةُ لأبي ذر أوردها اليعقوبيٌّ - وهو شيعي جَلدٌ كما أوضحنا في ترجمته - دون إسناد، وهذا كافٍ, في ردِّها حيث لم يروها أحدٌ من المؤرِّخين غيره, وفيها أمور من عقائدِ الشِّيعةِ الفاسدةِ, لم يقل بها أحدٌ من الصَّحابَةِ, ولا عليُّ- رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أو أحدٌ من أبنائِهِ(9).
1 - تاريخ اليعقوبي(1/57- 60).
2 - المصدر السابق (1/68).
3 - ذكر مؤلفات أبقراط ثم ساق محتوياتها من (1/95-114), ثم كتب جالينوس وسقراط وأقليدس (1/114-142).
4 - أثنى على الهند وعلمائها ثم ذكر أبواب كتاب كليلة ودمنة وقام بتفسيرها من (1/88-95).
5 - وهذا يدل على اتجاهه الفكري وتأثره بهذه العلوم الفلسفية.
6 - المقصود أحد عشر , و إلا فالثاني عشر المزعوم لم يُخلق, وزعمت الرافضة أنه في السرداب في مدينة \"سامراء\" العراقية, وما في السرداب إلا الأوهام والعنكبوت والخفافيش!
7 -تاريخ اليعقوبي (2/43).
8 - منهج كتابة التاريخ الإسلامي د. محمد بن صامل السلمي (427-432)
9 - راجع: منهج كتابة التاريخ الإسلامي د. محمد بن صامل السلمي (ح:1، ص516).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد