بسم الله الرحمن الرحيم
لا شكّ أنّ أعظمَ ما يميِّز منهجَ السلف، وعلمَهم، وعملَهم، وحياتَهم، وموتَهم، هو عمرانُ قلوبِهم بالإخلاص لله - تبارك وتعالى -º وذلك لتمام علمِهم وقوّةِ يقينِهم بقول الله - عزّ وجلّ -: (قل إنّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له).[1]
فقد كانت الطاعةُ حاضرةً عند السّلف في ليلِهم ونهارِهم وفي كل جوانب حياتهمº حتى إنّهم ليأكلون بنيّةٍ,، ويمشون بنيّةٍ,، وينامُون بنيّةٍ,º وكلٌّ إناءٍ, بما فيه ينضحُ! وقد بلغ بهم الأمرُ أن يغتنموا الحسناتِ من الأمور المباحة. كما قال ابنُ رسلان الرَّملي:
وخُصَّ ما يُباحُ باستواءِ *** الفعلِ والتركِ على السواءِ
لكن إذا نوى بأكلِهِ القُوَى *** لطاعةِ اللهِ له ما قد نوى![2]
ولله درٌّ ابن السمعاني حيث قال في بيان فائدة إتباع ((إنما الأعمالُ بالنيّات)) بـ((وإنما لكل امرئٍ, ما نوى)): \"فيه دلالةٌ على أنّ الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثوابº إلاّ إذا نوى بها صاحبُها القربة: كالأكل إذا نوى به القوّةَ على الطاعة، والنومِ إذا قصد به ترويحَ البدن للعبادة، والوطءِ إذا أُريد به التعفٌّفُ عن الفاحشة، كما قال - عليه السلام -: (وفي بُضع أحدكم صدقة...) الحديث\".[3]
ومن هنا يمكن أن نقرِّرَ أنه كلّما قلَّت حظُوظُ المرءِ من فِقهِ النيّةِº انحطَّت في قلبه المعاني الرِّساليّة، وترحَّلت من حياتِه حقيقةُ العبوديّة!
فأساسُ أعمالِ الورى نيّاتُهم وعلى الأساسِ قواعدُ البنيانِ![4]
وقد ذكر أهلُ العلمِ أنّ الصادقين المخلصين يجعل الله على قولهم نوراًº وهذا معنى قول أهل العلم: \"إنما يُعطَى الرجلُ على قدر نيّته\" و\"ليست النائحة الثكلى كالمستأجَرَة\"! فمن كانت نيّتُه صالحةً فيما يقول، خالصةً فيما يفعلº فإنّ الله يجعل عملَه مباركاً، ويضع له القَبول في قلوب عباد الله الصالحينº كما قال الله - عزّ وجل -: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدّاً).[5] وما أصدقَ ما قيل:
من أخلص النيّاتِ كان لقوله نفعٌ وكان لفعله تأثِيرُ!
فاستحضارُ القلبِ معانِيَ التعبٌّد يكسو الأعمالَ نوراً وجمالاًº حتى تُشرقَ لها القلوبُ قَبُولاً وإجلالاً، وتنشرَح لها الصدورُ عرفاناً وإقبالاًº وهذا يتأتّى لمن جاهد نفسَه حتى خلصت من الشوائب وسلمت من سوء المقاصدº لأنّ التوفيقَ حليفُ الصالحين، كما قال الله – تعالى -: (إن يعلم اللهُ في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أُخِذ منكم).[6]
إذا كان سَعيُ المرء سُلِّمَ قصدُهُ *** فإنّ بلوغَ القصدِ لا يتعذّرُ!
وتأمَّل فقهَ الصحابة - رضي الله عنهم - حينما قال لهم النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: (في بُضعِ أحدِكم صدقة)º فقد لاحظوا أنّ لنفوسهم حظوظاً في إتيان الزّوجات قد تُعَكِّرُ عليهم فتحرمهم من الأجرº فتساءلوا:((أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: نعمº أرأيتم إن وضعها في حرامٍ,º أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إن وضعها في الحلال كان له أجرٌ)).[7]
وإنّ كثيراً من الأخلاق الكريمةº تُثمرها النيّاتُ العظيمة، ولله درٌّ البخاري حيث ترجم في كتاب الإيمان باب (ما جاء: إنّ الأعمال بالحسبة والنيّة، ولكل امرئ ما نوىº فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحجّ والصوم والأحكام. وقال الله – تعالى -: (كلُّ يعمل على شاكلته): على نيّته، ونفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولكن جهادٌ ونيّةٌ).[8]
فليست النيّة قاصرةً على فقه الإخلاصº بل تتعدّى ذلك إلى تربية التواضع وبعث الورع وتزكية الأعمالº كما بوّب البخاري في كتاب الإيمان \"باب خوف المؤمن من أن يحبط عملُهُ وهو لا يشعر\"، وقال إبراهيم التيمي:\"ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكونَ مكذَّباً\"ً، وقال ابنُ أبي مُلَيكة: \"أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلٌّهم يخاف النفاقَ على نفسِهº ما منهم أحدٌ يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل\"، ويُذكَر عن الحسن:\" ما خافه إلا مؤمنٌ، ولا أمنه إلا منافقٌ\"![9]
وقد كان السلف - رضي الله عنهم - يستحضرون النيّةَ في كلّ شيءٍ,º وقد ختم السيوطي كتابه \"منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال\" بما حكاه ابنُ النجار في \"تاريخ بغداد\" عن أبي الحسن محمد بن أبي الفضل عبد الملك بن إبراهيم الحمداني، قال: \"كان أبي إذا أراد أن يؤدّبني يأخذ العصا بيدهº ويقول: نويتُ أن أضرب ابني هذا تأديباًَ كما أمرني الله، وإلى أن يتمّ فيه النيّة أهرب منه\"![10]
فلا بدّ أن تزكوَ خواطرُنا بشذى الآيات، وتزهوَ عواطفُنا بصالح النيّاتº فنتذكّر الله - تعالى - قبل أداء العبادات، ونستحضر الثواب والعقاب، ونستشرف الجنّة والنار! وقد قال النووي: \"روينا عن حبيب بن أبي ثابت التابعي - رحمه الله - أنه قيل له: حدِّثنا. فقال: حتى تجيء النيّة، وعن أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري: ما عالجتُ شيئاً أشدّ عليَّ من نيّتيº إنها تتقلّب عليَّ!\"[11]
ورحم الله أبا الفرج ابن الجوزيº فقد قال في (صيد الخاطر): \"احذر كلَّ الحذر من هذا الزمان وأهلهº فما بقي مُواسٍ, ولا مُؤثِرٍ,! ولا من يهتمّ لسدّ خَلَّةٍ,، ولا من لو سئل أعطى إلا أن يُعطي نذراً بتضجٌّر ومنّةٍ, يستعبده بها المعطي بقيّة العمر! ويستثقله كلما رآه، أو يستدعي بها خدمته له أو التردّد إليهº وإنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نُجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوماً على المنبر: \"عليَّ ألفُ دينارٍ, وقد ضاق صدريº فمضى إليه عمرو بالليل بألف دينارٍ, وقال: اقضِ دَينَكº فلما عاد وصعد المنبر قال: نشكر لأبي عمرو فإنه أراح قلبي وقضى دَينيº فقام أبو عمرو، وقال: أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي وقد شقّ عليها ما فعلتُº فإن رأيتَ أن تتقدّم بردّه فافعل! فلما كان في الليل عاد إليه، وقال له: لماذا شهرتني بين الناس؟ فأنا ما فعلتُ ذلك لأجل الخلقº فخذهُ ولا تذكرني!
ماتوا وغُيِّب في الترابِ شخوصُهم *** والنَّشرُ مِسكٌ والعظامُ رميمُ!\"[12]
---------------------------------------------------
[1] الأنعام 162-163.
[2] صفوة الزبد لابن رسلان ص 27. دار الحاوي. بيروت. ط1. 1420هـ.
[3] نقله السيوطي عن ابن السمعاني في أماليه. منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال ص 95-96.
[4] نونيّة القحطاني ص 55.
[5] مريم 96.
[6] الأنفال 70.
[7] رواه مسلم. وانظر في هذا المعنى باب كثرة طرق الخير من رياض الصالحين للنووي.
[8] صحيح البخاري. كتاب الإيمان, فتح الباري 1/183. دار الفكر. بيروت. ط1. 1414هـ.
[9] فتح الباري 1/151.
[10] منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال للسيوطي ص 155. دار ابن حزم. بيروت. ط1. 1419هـ.
[11] المجموع للنووي 1/28. دار الفكر. بيروت. ط1. 1417هـ.
[12] صيد الخاطر لابن الجوزي ص 268. مؤسسة الكتب الثقافيّة 1420هـ .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد