بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله عالم السر والنجوى، المطلع على الضمائر وكل ما يخفي { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } نحمده - سبحانه - وعد المخلصين الدرجات العلى، وحذر المرائين ناراً تلظى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أنزل عليه تشريعاً لأمته { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} - صلى الله وبارك عليه - ، وعلى آله وأصحابه. الذين لا ينشدون بحركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، إلا رضا الله وحده، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيقول الله - سبحانه وتعالى -: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين } ويقول: { قل الله أعبد مخلصاً له ديني }.
عباد الله إن الله - تعالى - خلقنا لعبادته، وأمرنا بها قال – سبحانه -: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. وقد جعل الله - تعالى - لهذه العبادة شرطاً أساسياً في جميع شرائعه ولا تنفع إلا به، وهو إخلاصها لله وحده قال - تعالى -: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}. ومن هذه الآية وما سلفها يتبين أن الإخلاص هو القاعدة الأولى التي تبني عليها العبادة وتتم بها بجانب المتابعة، وتجعلها موجهة إلى الله وحرية بقبوله ومثوبته، فالعبادة أياً كانت فعلية أو قولية، لا تسمى عبادة ولا تكون نافعة، إلا إذا صدرت من مؤمن، وتوفر فيها الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. والإخلاص الذي يريده الله ويتوقف عليه قبول العمل هو إفراد الحق - تعالى - بالطاعات، وقصده بها دون غيره، وتجريدها وتصفيتها من قصد المحمدة أو الثناء أو معنى آخر سوى التقرب بها إلى الله وحده، وأن يكون باطن العامل كظاهره أو أحسن، وسره كعلنه أو أفضل، وأن يخشى الله ويراقبه في الغيب: يخشاه ويراقبه في وحدته، ومع جلسائه.
والإخلاص مصدره نية القلب، والنية هي معيار العمال ومقياسها العادل الذي يتميز به طيبها من خبيثها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها ونافعها من ضارها. فالطاعات تتفاوت ويتفاوت أجرها بتفاوت النية فيها، وما قام بالقلب منها قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات..) الحديث. وقال (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) رواه مسلم. والطاعات قد تكون في ظاهرها وهيئتها سواء، وفي باطنها متفاوته، فالعبادة خير إن كانت لله، وشر إن كانت للتضليل والمباهاة. نعم، العبادة خير للمخلصين وسعادة، وشر للمرائين وشقاوة، فالناس يقفون جميعاً للصلاة في مصلى واحد ومع إمام واحد، ويركعون ويسجدون سواءً، ومنهم المقبول لإخلاصه وتقواه، ومنهم المرود لريائه وخبث نواياه، ويقفون في صف الجهاد تحت قيادة واحدة ويقتلون، ومنهم من هم بعد القتل تروح أرواحهم وتغدو في الجنة أحياء عند ربهم يرزقون، ومنهم من قد يسحب على وجهه ويلقى في النار، فالأول جاهد إخلاصاً لله وفي سبيل إعلاء كلمة الله، والثاني جاهد رياءً ومفاخرةً ومباهاة. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أول الناس يقضي عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته عليه فعرفها قال: فما عملت فيها، قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به، فعرفه نعمة فعرفها قال: ما عملت فيها، قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت. قال: كذبت. ولكنك فعلت ليقال جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأخلصوا أعمالكم لله، فالإخلاص هو سر نجاح العبد وفلاحه في دنياه وأخراه، وهو دعامة الأعمال التي تقوم عليها سواءً كانت طاعة روحية أو مادية، فهو للأعمال كالروح للأجسام، والأعمال معه ذات كثرة وبركة، وبفقدانها له ذات قلة وفشل، وناهيكم مثلاً لذلك المثلين اللذين ضربهما الله في القرآن الكريم لمن ينفق رياء الناس ولمن ينفق ابتغاء مرضاة الله. يقول - تعالى -: { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي، ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فاصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين، ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير }.
وكما تكثر الأعمال بالإخلاص وتتضاعف فإنه مع ذلكم مدعاة للتقدير والتعاون والحب والولاء. فما تحلت به نفس أو أمة إلا وأحبها الله ثم أحبها الناس واستولت على القلوب وكسبت النفوس وحل التعاون فيها محل التخاذل، والنصح محل الغش، والوحدة محل الفرقة. نعم،والله وبالله ما تحلت بالإخلاص أمة إلا عز سلطانها، وعظم شأنها، وهيب جانبها كما حصل للأمة الإسلامية في أوج إخلاصها. وما فقدته أمة إلا وفقدت كل مقومات حياتها المعنوية وانحطت إلى الحضيض عياذاً بالله لأمة الإسلامية من ذلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون وأخلصوا أعمالكم لله وطهروها من إرادة غير الله بها ولا يغب عنكم أن الله - تعالى - مطلع على سرائركم وضمائركم وانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فاخلصوا له النية فيما أوجب عليكم من طاعة، وما ندبكم إليه من بر تفوزوا برضاه - تعالى - ، ويصرف عنكم السوء والفحشاء، وتكونوا من عبادة المخلصين. يقول - تعالى -: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً }. ويقول عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه مسلم: (يقول الله - تعالى -: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه أحداً غيري تركته وشركه) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء، يقوم الرجل فيصلى فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) ويقول خير قائل وأصدقه { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً}.
أقول قولي هذا، وأسأل الله - تعالى - بأسمائه الحسنى أن يرزقنا الإخلاص في الأعمال، والصدق في الأقوال إنه حسبنا ونعم الوكيل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد